عشرة أعوام من الانتشار والشهرة، وتقديم نشرات الأخبار والبرامج المتنوعة، لم تشفع لفضائية "القدس" التابعة لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، بالاستمرار في البث والعمل الإعلامي؛ بسبب الأزمة المالية التي تواجهها الحركة.
وإلى جانب قناة القدس، والتي تبث من مقرها الرئيس في العاصمة اللبنانية بيروت، وتعمل في غزة من خلال مكتبها الفرعي، أُغلق أيضاً مكتبا المركز الفلسطيني للإعلام الرئيسي في بيروت، والفرعي في غزة، فبعد شهور طويلة واجهت فيه حماس صراعاً من نوع آخر، بسبب تجفيف منابع التمويل الحاصلة عليها خارجياً، أُجبرت على إغلاق أحد أكبر وأهم مؤسساتها التابعة لها بشكل مباشر، وتعبّر عن واجهتها الإعلامية.
اقرأ أيضاً: حماس تقيد الصحفيين.. ما هو قرارها الجديد؟!
المسؤولون عن إدارات المؤسستين الإعلاميتين أبلغوا الموظفين، مؤخراً، وبشكل مفاجئ بقرار الإغلاق عبر رسائل وصلتهم على هواتفهم، تخبرهم بتوقف العمل داخل المكاتب الرئيسية والفرعية، بسبب الظروف المادية الصعبة، دون إبداء أي أسباب أخرى.
قرار مفاجئ
هذا القرار كان مفاجئاً وصادماً لمئات الصحفيين العاملين في تلك المؤسسات، ومن بينهم الصحفي مجدي فتحي 38) عاماً)، والذي يعمل مصوراً لمكتب المركز الفلسطيني للإعلام في غزة منذ عشرة أعوام.
الإفرنجي: قناة "القدس" كمؤسسات فلسطينية أخرى تعيش وتعمل من خلال التمويل الذي تتلقّاه من الخارج
يقول المصور مجدي بصوت مختنق:"إنّ تلك المؤسسات الإعلامية يعمل فيها مئات الصحفيين والموظفين منذ أعوام طويلة، وتعد مصدر الرزق الوحيد لهم ولعائلاتهم ولأطفالهم، ولكن كما يقول المثل "ما باليد حيلة"، فهم مضطرون، وأنا مثلهم، لتقبّل هذا القرار، دون امتلاك القدرة على مواجهته؛ لأنه سياسي".
ويضيف لـ"حفريات": "أصبحت اليوم بعد إغلاق المكتب، الذي عملت به أعواماً طويلة، بلا عمل، فبدلاً من أن يتم مكافأتنا، أو تقديم أتعاب لنا على عملنا دون كلل أو ملل، نفاجأ بقرار جعلنا بلا دخل شهري".
من جهته، يقول مراسل فضائية "القدس" في غزة، صالح الناطور: إنّه من المؤسف أن تغلق فضائيات ومؤسسات إعلامية فلسطينية أبوابها، تلك المؤسسات التي جرى بناؤها على مدى أعوام طويلة، استنزفت جهداً ووقتاً ومالاً، هي تتهاوى الآن؛ بسبب أزمات وديون مالية متراكمة بدأت تدفع بعضها إلى تعليق عملها منذ أشهر وتسريح عشرات الموظفين، وإعادة الهيكلة والانكماش، ليصل الأمر إلى الإغلاق.
ويتابع الناطور حديثه لـ "حفريات" متسائلاً: "هل سبب الإغلاق أزمة تمويل فقط؟ أم أنّها أزمة قرار؟ ولماذا نترك نحن الصحفيين الذين أفنينا عمرنا بالعمل لنواجه مصير تلك الأزمات؟".
تراجع التمويل
فضائية "القدس"، المموّلة بشكل مباشر من مكتب حركة حماس الرئيسي في العاصمة اللبنانية بيروت، انطلق بثها على القمر الصناعي بتاريخ 11 من شهر تشرين أول (نوفمبر) العام 2008، وكانت تفرد مساحة كبيرة من برامجها للقدس المحتلة واللاجئين والأسرى وفلسطين والأرض والهوية والإنسان، بحسب مدير مكتب "القدس" في غزة، عماد الإفرنجي.
اقرأ أيضاً: حماس تنتهج أسلوب "بتكوين الجهاد"
ويشير الإفرنجي، في حديثه لـ"حفريات" إلى أنّ القناة "قدمت نموذجاً مميزاً في الإعلام الفلسطيني، كما قدمت تغطية شاملة لمعاناة شرائح مختلفة من الشعب الفلسطيني"، منوهاً إلى أنّ "الموظفين في القناة عملوا على مدار عشرة أعوام بتفانٍ، وتعرضوا للقصف خلال الحروب الإسرائيلية على غزة، وأصيب بعضهم بحالات بتر في الأطراف".
وينوّه الإفرنجي إلى أنّ قناة "القدس"، كمؤسسات فلسطينية أخرى "تعيش وتعمل من خلال التمويل الذي تتلقّاه من الخارج، ما جعلها تتأثر بفعل ما يعيشه الوطن العربي، حالياً، من معاناة دفعت المتبرعين أن تكون لديهم أولويات أهم لإنقاذ حياة الناس، وفقاً لوجهة نظرهم، فوجّهت التبرعات لأطراف أخرى".
ويبين الإفرنجي أنّ المموّلين "لديهم إدراك ضعيف لأهمية الإعلام ودوره في مواجهة إسرائيل، وهذا ما جعلهم يتراجعون في تقديم الدعم المخصص للقناة".
ويقول مدير مكتب فضائية القدس في غزة: "إنّ فضائية القدس ومجلس إدارتها أدركت هذا الخطر سابقاً، وقد عانينا منذ عدة أعوام من صعوبة شديدة في الإنفاق، وتم إعادة هيكلة القناة، وترشيد الإنفاق، وتقليص عدد الموظفين، وتخفيض الرواتب، ولكن رغم ذلك الأزمة عصفت بنا، وكانت شديدة جداً".
قرار رسمي
ويتابع الإفرنجي حديثه "بعد اشتداد الأزمة جاء القرار الرسمي بوقف البث"، مشيراً إلى أنّ القناة تعرض حالياً أناشيد وأغاني وحتى نهاية شهر شباط (فبراير) الجاري وفقاً للاشتراك في خدمة بث القمر الصناعي، وإن لم تطرأ حلول لتلك المشكلة، فسوف يتوقف البث بشكل نهائي".
ويضيف "إذا ما حدث ذلك فعلياً فسأقول هنيئا لإسرائيل ومن يحاصر الشعب الفلسطيني، بأنه نجح في إسكات صوت كان يزعجها".
الدجني: إغلاق مؤسسات حماس الإعلامية انعكاس لواقع الحصار على غزة وتجفيف منابع التمويل التي تقدم الدعم للحركة بشكل مباشر
ويُعد توقف بث قناة "القدس"، وتسريح العاملين فيها، بحسب الإفرنجي، خسارة كبيرة لموظفيها، وللقناة ذاتها، وللفلسطينيين والإعلام بشكل عام.
وأعرب مدير مكتب فضائية "القدس" في غزة، عن خشيته من أن يكون ذلك "مقدمة لإنهاء عمل مؤسسات فلسطينية أخرى؛ لتمرير صفقات عبر الحدود السياسية".
انعكاس لأزمات إقليمية
من جانب آخر، يشير المحلل والكاتب السياسي الفلسطيني، حسام الدجني، إلى أنّ قرار إغلاق المؤسسات الإعلامية التابعة لحماس، هو "انعكاس للأزمات المالية، وواقع الحصار المفروض على غزة، وتجفيف منابع التمويل التي تقدم الدعم لحماس بشكل مباشر، ويستهدفها المجتمع الدولي وإسرائيل وأمريكا".
ويقول الدجني لـ "حفريات": "إنّ هذه الأزمات أثرت على الوضع المالي لحماس، إلى جانب تعدد الأولويات في الإقليم العربي؛ فالمنطقة متأزّمة بعدة ملفات مشتعلة، وهذا يغير من الأولويات، ويتسبب بانعكاسات مادية خطيرة، ما جعل حماس تتأثر كباقي مقومات الشعب والفصائل الفلسطينية بفعل ذلك".
ويضيف "غزة تعيش حالة تضخم، لم تنبته له حماس، واعتمدت في التعيينات على البعد الاجتماعي والإنساني، أكثر من البعد المؤسساتي الإداري، فكانت أعداد العاملين في المؤسسات لديها أعداداً هائلة جداً، ما أجبر حماس بفعل الأزمة المالية لتصفية مؤسستين إعلاميتين رائدتين تتبعان لها بشكل مباشر، في الوقت الذي كانت تخاطب فيه هذه القنوات الأمة العربية".
اقرأ أيضاً: لماذا رفضت حماس أموال قطر؟
ويتابع الدجني حديثه: "حركة حماس أرادت من تعدد مؤسساتها الإعلامية إرضاء كافة الأذواق، ففضائية القدس تجمع بين الشتات والداخل، وتعبر عن كل الآراء، وتخاطب الجميع، أما قناة "الأقصى" فكانت واجهة مباشرة لحماس وتعبر عن رأي الحركة، وترغب في التأثير بشكل أكبر على الرأي العام العربي والدولي".
تأثير الإغلاق على الحركة
ويؤكد الدجني أنّ إغلاق حركة حماس مؤسساتها الإعلامية سيكون له "أثر كبير من عدة جهات؛ في أن تقل عدد المنابر التي توصل من خلالها الحركة رسالتها إلى العالم، إلى جانب الخوف من أن تمتد تلك المعضلة لتطال مشروع المقاومة الفلسطينية الذي تتبناه حماس".
الناطور: لماذا نُترك نحن الصحفيين الذين أفنينا عمرنا بالعمل لنواجه مصير أزمة التمويل أو أزمة القرار؟
ولا يستبعد الكاتب والمحلل السياسي، إمكانية تجاوز تلك المشكلة، "إذا ما اتبعت حماس رأي إداري حكيم، لا يؤثر بشكل كبير على إيصال رسالتها، وذلك من خلال الاتجاه إلى الإعلام الرقمي، وهو أقل تكلفة، والتركيز على قناة الأقصى ومنابرها الإعلامية الأخرى، وإعادة تقييم إطارها الوظيفي، وطبيعة المحتوى والمحدد الإعلامي"، وفق رأيه.
ويقول الدجني، من الصعب أن تخرج حماس من تلك المشكلة إذا لم تنتبه لمجموعة محددات حتى لا تطال جوانب أخرى أكثر أهمية، فمن المهم، وفق الدجني، "ألا تضخ الحركة المال بشكل أفقي، ويجب أن يقدم بشكل رأسي، وأن تعاد ترتيب الأولويات حسب الأهمية داخل المؤسسات الإعلامية، والتركيز على ملفات مهمة، في دعم المقاومة، وإنجاح مسيرات العودة، وتعزيز صمود الفلسطينيين في الضفة الغربية والداخل المحتل والقدس".