
أُجريت أبحاث كثيرة حول إمكانية مكافحة الجهاديين عبر ترويضهم عن طريق المشاركة في العملية السياسية، رغم التعارض التام ما بين أفكار الجهاديين، المتمثلة في مفهومها حول الدولة، والممارسة الديمقراطية والحزبية والدستور والقوانين الوضعية، وإلى حد ما نجحت التجربة في مصر نهاية حقبة التسعينات، عقب ما يُسمّى مراجعات الجماعة الإسلامية، ومراجعة تنظيم الجهاد، الذي أصدر "وثيقة ترشيد العمل الجهادي"، واعترفوا فيها بحق الآخر الديني والفكري في الوجود، وأبدت الجماعة الإسلامية الموافقة على المشاركة من أجل تحقيق عدة أهداف: ترويض الواقع المحيط بها بما يخدم الدعوة، وتحقيق أهدافها في تطبيق أحكام الشريعة وأسلمة المجتمع.
تجربة الجهاد السياسي
عقب عام 2011 أجرى مركز ابن خلدون للدراسات، عدة لقاءات مع جهاديين لدفعهم لإنشاء حزب سياسي، ونجحت التجربة، بإنشاء (الحزب الإسلامي) الذي قاده في هذه الفترة أسامة قاسم، القيادي الجهادي المعروف، والذي سيقتل فيما بعد في سوريا، وكان ينقص تلك التجارب ممارستهم للسياسة والحزبية دون التحرر من الأصولية ومراجعة موروثهم الثقافي والفقهي، وإسقاطهم لحق الأمة في اختيار من يحكمها، وعدم تفريقهم بين العمل السياسي والدعوي.
طرحت مؤسسات أمريكية وعلى رأسها (RAND) الصيغ الجديدة لترويض الإسلاميين الجهاديين، وسمّاها الباحث هآرون زلين Political Jihadism "الجهادية السياسية"، بحيث يتم خلق فئة جديدة من الجهاديين، أو ما يطلق عليه "الجهادية السياسية"، والتي لها ملامح تختلف عن الجهاديين القدامى، والتنظيمات القطرية والمعولمة، فهم سلفيون بالمعنى التعبدي، وهم جهاديون بالمعنى المحلي، وهم إخوانيون بالمعنى السياسي، وبالمعنى الأدق هي صيغة جديدة تستجيب للتحديات التي تواجهها الحركات الجهادية.
كما طرح جيروم دريفون، الباحث الأول مع مجموعة الأزمات الدولية في برنامج "الجهاد والصراعات الحديثة"، في كتابه "من الجهاد إلى السياسة: كيف اعتنق الجهاديون السوريون السياسة؟"، طرح أربعة أنماط للتطور المحتمَل للجماعات الإسلامية المسلّحة، بالاستناد لدرجة التنظيم الداخلي والخارجي، ويرى أنّ هذه الأنماط تساعد في تفسير اختلاف مسارات الجماعات المسلّحة عموماً والجهادية خصوصاً. ويَفترض النمطُ الأوّلُ نجاحَ هذه الحركات في التنظيم الداخلي والخارجي ممّا يؤدّي إلى التماسك وزيادة احتمالية تسييس هذه الجماعات، في حين أنّ التنظيم الخارجي دون الداخلي قد ينتهي بالجماعات المسلّحة لتكون جماعاتٍ وكيلةً لأطراف خارجية، وفي المقابل فإنَّ التنظيم الداخلي دون الخارجي قد يؤدّي إلى انغلاق هذه الجماعات على ذاتها ودخولها في عزلة ترفع احتماليات تطرّفها، كما في حالة تنظيم الدولة في العراق والشام (داعش)، أمّا نمط غياب التنظيم الداخلي والخارجي فيؤدِّي إلى اضمحلال هذه الجماعات.
يرى دريفون أنَّ "المقارنة بين مسارَي حركة أحرار الشام وهيئة تحرير الشام تُظهِر نتيجةً متناقضة. فعلى الرغم من كون إمكانياتها أفضل للتسيُّس، إلّا أنّ حركة أحرار الشام فشلت في تحقيق أهدافها"، مقارنةً بالهيئة. ويُرجِع ذلك إلى ضعف التنظيم الداخلي الذي عانت منه، وتَبايُن وجهات النظر بين قياداتها، وسَعيها للتوافق على حساب محاولات فرض نفسها بالقوّة، خاصّةً بعد مقتل قادتها عام 2014. وذلك في مقابل بنية الهيئة التنظيمية المتماسكة وقدرتها على اتخاذ قرارات لاحتواء المعارَضة وتوحيد الصفّ الداخلي، وـ خلافاً للرواية السائدة ـ فإنّ قادة الحركات الجهادية (هيئة تحرير الشام) "في محادثاتهم الخاصّة مع الغرب، كانوا حريصين على مناقشة العلوم السياسية والسياسة الدولية والتعامل مع العالم باعتبارهم لاعبين سياسيين يتبنّون مقاربةً واقعية".
الربيع العربي كان نقطة تحوّلٍ في مسارات الجماعات الجهادية عموماً بفتح المجال "لتغيير الأولويات الاستراتيجية للجماعات الجهادية في العالم الإسلامي"
إنّ الربيع العربي كان نقطة تحوّلٍ في مسارات الجماعات الجهادية عموماً بفتح المجال "لتغيير الأولويات الاستراتيجية للجماعات الجهادية في العالم الإسلامي". وأسهم في إمكانية التحول في أولويات الجماعات الجهادية، وجعل الجهاد وطنياً محلياً لا أممياً، وذلك بالاكتفاء بالقتال في الوطن والتوقف عن دعوى عالمية الجهاد لأهداف أممية. وهو ما يفسّر انفصال الجولاني عن تنظيم القاعدة وتأسيسه جبهة فتح الشام بأولويات سورية، وصولاً إلى هيئة تحرير الشام، وأخيراً للإشارة إلى إمكانية حلّ الهيئة والانتقال للحكم في سوريا.
كما أشار الباحث باتريك هاني في ورقته "كيف يصبح الجهاد العالمي محلياً مرة أخرى" إلى مقاربة هيئة فتح الشام من الجهاد العالمي إلى الجهاد المحلّي، ودور التحركات المحلّية في إعادة تشكيل الهيئة، وتشكيل خطابها وسلوكياتها بما يتناسب مع البيئة والشروط المحلية، ليتناسب مع القوالب السياسية المتمثّلة بالدول القُطرِية وأولويات العمل السياسي، وهو ما يتّسق حتى الآن مع خطاب الشرع والأولويات التي طرحها للإدارة الجديدة في دمشق.
مخاطر الجهادية السياسية في سوريا
ورغم كل التجارب التي أجريت حول تحويل السلفية الجهادية إلى سياسية، فهناك بالنظر إلى سوريا وما يجري بها مخاطر أهمها: وجود العناصر الأجنبية، فمن المرجح أن تقوم (هتش) والإدارة الجديدة الحاكمة في سوريا بإدماج العناصر الأجنبية المهاجرة للقتال في سوريا، ومن الممكن أن تقوم بإعطائهم الجنسية، وترقيتهم، كما جرى في القرار الصادر بتاريخ 29/12/2024، والذي تضمن ترقية عناصر الهيئة من أجل السيطرة على الجيش، وإدخال العناصر الأجنبية الشيشانية والتركستانية إلى الجيش السوري عن طريق التجنيس، واعتبار أنّ ذلك مصلحة وطنية، وهذا من مؤشرات الخطورة في المشهد السوري الآن، لأنّ (هتش) ومن خلفها عشرات الفصائل هي من تسيطر على كل الأجهزة، وكذا على الحكومة المؤقتة، ومن المرجح أن يستمر ذلك في الأعوام المقبلة، حتى لو كان هناك مؤتمر وطني جامع، أو تغيير شكلي، وسوف يتم إدماجها في جيش جديد لسوريا ليكون عقديّاً، أمّا بعض الفصائل التي لن تسلم سلاحها، فقد ينتج من بقائها مشهد أمني ممزق يعطي مساحة لجماعات أكثر تشدداً من (هتش)، ويؤدي ذلك إلى تأثيرات على الدول المجاورة، حيث تنتشر جماعات السلفية الجهادية، وتصبح الدولة السورية حاضنة وحامية لميليشيات وفصائل وعناصر خطرة على كل المنطقة.
الخطر الثاني أن تكون سوريا ملاذاً للعائدين والإرهابيين والإخوان، فمن الممكن أن تمثل سوريا ملاذاً آمناً لعناصر من الإخوان في تركيا، أو ملاذاً للعناصر المسلحة التي تؤمن بالعمليات القتالية، بعد نجاح نموذج الثورة المسلحة، وهو ما ظهر من الدعوات إلى الثورة في مصر والأردن وبعض الدول الأخرى، وفي حال دانت السيطرة لـ (هتش)، فإنّ المجلس الإسلامي (الإخوان) وهو الجناح السياسي للجماعة في سوريا، سيحاول القفز على مكتسبات الفصائل وحكم سوريا، سواء في انتخابات مقبلة، أو وفق أيّ صيغة سياسية، وهنا سنكون أمام دولة جديدة يحكمها الإخوان المسلمون.
ومن أهم المخاطر تدخلات الفاعلين الإقليميين والدوليين؛ وتظهر تلك الخطورة في التضاد بين الدول في دعم قوات سوريا الديمقراطية، وبدء حرب معها من قبل الفصائل الموالية لتركيا، ومن المرجح حال حدوث ذلك أن يفتح المجال للإفراج عن المحتجزين في مخيم "الهول"، بما يحويه من عناصر خطرة، ويضاف إلى ما سبق تدمير قدرات الجيش السوري من قبل إسرائيل، وفرض منطقة عازلة جديدة.
كما يخشى كذلك من استمرار تركيا في السيطرة على شريط حدودي يمتد من جرابلس في ريف حلب الشمالي الشرقي إلى عفرين في ريفها الغربي، مروراً بمدن رئيسية مثل الباب وإعزاز، والسيطرة على منطقة حدودية منفصلة بطول (120) كيلومتراً بين مدينتي رأس العين وتل أبيض الحدوديتين، وتتعلق المواقف التركية تجاه تطور العملية العسكرية في سوريا التي تتشارك في حدود طولها (900) كم بالفصائل الكردية المسلحة، وملايين اللاجئين السوريين لديها، وهي تدعم فصائل كثيرة، وهي ترى أنّ لها حقوقاً تاريخية في سوريا، كما يخشى من مواقف إيران التي لم يخش قادتها من التلميح إلى تحركات سيقومون بها داخل الدولة السورية.
لكن من أهم المخاطر احتكار السلطة من حكومة إسلاموية، ولدينا تجربتان تدلّلان على ما يمكن أن يحصل، وهما الحكومة في إدلب، وهي لا تصلح لإدارة الدولة السورية، وكان يوجد بها مشكلات كثيرة، وتجربة تشكيل الحكومة المؤقتة الجديدة، التي جاءت كلها من خلفية واحدة، ومن (هتش) فقط التي احتكرت جميع المناصب، وبالإضافة إلى أعضاء الحكومة، فإنّ هناك عناصر رئيسية في إدارة المشهد السوري، وكلهم سلفيون جهاديون، وأهمهم: هيثم الحلبي مسؤول الأسرى، وأبو زيد الحولة مسؤول لجنة الإحصاء والتخطيط، وأبو محمد الزين مسؤول ملف الأحزاب في الجهاز الأمني، ويوسف الهجر "أبو البراء شحيل"، وخطاب الأردني مسؤول هيئة التنسيق الجماهيري، وأبو عبيدة المصري مسؤول الإعلام العسكري والأمني، وأبو معاذ الجزراوي مسؤول المكتب الإعلامي، ومسؤول المتابعة العامة عبد الرحيم عطون (أبو محمد)، والشرعي العام للهيئة، والمدعي العام للجهاز الأمني أبو عزام تركمان بارح ويلقب بتيسير، مسؤول ملف التعامل مع التحالف الدولي أبو عبيدة منظمات، نائب مسؤول ملف التحالف أبو محمد الشامي، ومسؤول المتابعة الأمنية أبو زكريا المصري.
ويتشكل جهاز الاستخبارات من القيادات التالية: أبو أحمد حدود (أنس حسّان خطّاب من جيرود)، أبو عثمان الديري (براء العكل من الميادين) مسؤول القوّة المركزيّة للأمنيّين، براء كفرومة (عبد الكريم محمّد جولاق)، عابد أبو أحمد الأنصاريّ (محمد أحمد برهوم من مدينة إدلب)، أبو أيوب آفس (عبد الكريم خالد العليّ)، رواد الغوطاني (أبو مأمون الطّحّان من التّلّ) أمنيّ المنطقة الوسطى.
ويخشى البعض من خطر الفصائل المتعددة، حيث بالنظر إلى تشكيلة الفصائل سنجد أنّ أغلبها من عناصر السلفية الجهادية، ورغم التحولات الفارقة التي جرت لهيئة تحرير الشام، وكذا أحرار الشام، فإنّه يستحيل أن تكون كل التحولات جرت على الجميع، بما يؤكد أنّ هناك مشكلة مؤجلة، إمّا سيتم حلها بإدماجهم في الجيش الجديد، وهي ستكون مشكلة، وإمّا بحرب مقبلة قد تجري في أيّ وقت.