إرهاصات أفول الدولة الدينية

إرهاصات أفول الدولة الدينية


06/11/2017

تتجاذب المنطقة والإقليم أربعة مشاريع كبرى، اثنان منها يقومان على هدف إحياء الخلافة الإسلامية، كل بطريقته وهما؛ المشروع الإيراني بنسخته الشيعية والمشروع التركي بنسخته السنية، فيما المشروع الثالث يقوم على الالتزام بمقاربات الدولة الدينية مع تحييد المطالبة العلنية بالخلافة والحرص على توفير شروطها في الحكم وهو المشروع السعودي، أما المشروع الرابع وهو المشروع المصري فيقوم على الدولة المدنية الحداثية في سياق الدولة العميقة، وفق مفهوم الدولة العلمانية وجوهره فصل الدين عن الدولة، وليس إلغاء الدين.

اليوم المشاريع الكبرى الأربعة على المحك، في ظل متغيرين بارزين وهما؛ الأول مالآت "الربيع العربي"؛ حيث الشكوك بنجاح الإسلام الاسلامي، معتدلاً أو متشدداً كان، بعد اختطاف هذا "الربيع" وتغيير وجهة مجراه، والثاني: التغيير الذي طرأ على الإدارة الأمريكية الجديدة، والتي انقلبت على سياسات الإدارة السابقة التي تحالفت مع الإسلام السياسي، بنسختيه السنية "الإخوان المسلمون" والشيعية. ملامح هذا التغيير تتجلى في التحولات التي تجري بخطى متسارعة في المملكة العربية السعودية، بالتحول إلى دولة مدنية عبر تشريعات وسياسات جديدة، ستفضي إذا ما كتب لها النجاح، إلى مغادرة السعودية مربع الدولة الدينية، إضافة لتحولات أخرى في تونس وسوريا وليبيا واليمن والعراق عنوانها البحث عن الخيار الأنسب لمضمون الدولة وفكرها، بعد تجريب القومية والإسلامية، فيما يعاني مشروع "الأسلمة" وإعادة الخلافة الإسلامية في تركيا، وإن كانت بلباس علماني في إطار استراتيجية الانفصال عن أوروبا ويواجه عقبات كبيرة، بعد إرث حوالي قرن ارتبطت فيه تركيا بالنسيج الأوروبي.

التحولات التي تجري بخطى متسارعة في السعودية، بالتحول إلى دولة مدنية عبر تشريعات وسياسات جديدة، ستفضي إلى مغادرة المملكة مربع الدولة الدينية

عملياّ يدل سلوك الدول الأربع ذات المشاريع الكبرى، أنّها تمارس العلمانية في جوانب حياتها الاقتصادية والسياسية، فيما تعيش ازدواجية في سلوكها الاجتماعي، رغم إقحامها "الإسلامية" في الكثير من جوانب سلوكها، فكانت البنوك الإسلامية والجامعات والمدارس الإسلامية والزي والمأكولات الإسلامية وقوانين وتشريعات الزواج والحقوق الشخصية والمدنية، وهو ما أسهم في ظهور ما يشبه حالة انفصام، بين رفض الحداثة من قبل تيارات التشدد، أو محاولة الدمج بين الأصالة والمعاصرة، في سياق زواج متعة من قبل تيارات الاعتدال.

ربما شكل الإرهاب وارتباطه أو ربطه بالإسلام والمسلمين أحد أبرز الساحات المفصلية في حوارات السياسيين والمثقفين والمفكرين  العرب والمسلمين، وفي إطار حالة إنكار متجذرة  يتردد خلالها وعلى مساحة العالم الإسلامي أن القاعدة وداعش ما هي إلا مؤامرة صنعتها أجهزة استخبارية غربية لتحقيق أهدافها في إعادة الاستعمار للعالمين؛ العربي والإسلامي بصورة جديدة،(وقد أسهمت أدوات إيران الإعلامية في نشر هذه المقولة لتحقيق مكاسب آنية) لذا كانت الحرب المضادة للإرهاب عربياً وإسلامياً تستند على مقولة رئيسة مضمونها أنّ ما تقوم به القاعدة وداعش ليس من الإسلام الصحيح، وتم تعزيز هذه المقولة باستطلاعات رأي (مشكوك في صحة نتائجها) تثبت أن المؤيدين والمتعاطفين مع داعش والقاعدة لا يشكلون نسبة تذكر من الشعوب العربية والإسلامية، علماً بأنّ الإرهابيين لم يستندوا لنصوص مقدسة من التوراة أو الإنجيل، أو مذكرات لينين وانجلز؛ بل إلى نصوص إسلامية مقدسة، يتفق على غالبيتها أتباع المذاهب كافة، وفي تقديرنا إن كانت هناك مؤامرة- "رغم تحفظنا الشديد"ـ فإنها لا تتعدى السماح والتواطؤ للتطرف الإسلامي بالمضيّ إلى أقصى اليمين لترجمة كل مقدس مسكوت عنه عند المسلمين "سنة وشيعة" ولم تكن هناك ساحة لتجريب ذلك أفضل من العراق، فكانت خلافة البغدادي التي تم إعلانها من الموصل(غاية السنة وحلمهم المقدس) بعد تسع سنوات على إعدام الرئيس صدام حسين، في مشهد احتفالي بمناسبة دينية عند كافة المذاهب الإسلامية " عيد الأضحى"، تم التعامل معها بطقوس دينية وابتهالات ترى في صدام حسين، شخص يزيد بن معاوية وفق روايات التاريخ الإسلامي(غاية الشيعة وحلمهم المقدس بالانتقام).

إذا كان التشدد الإسلامي يطرح مشروعاً متكاملاً جوهره الخلافة المقدسة، فعلى قادة المنطقة ومفكريها أن يطرحوا مشروعهم البديل

تجتاح العالم اليوم حالة إدراك عميقة أنّ داعش التنظيم والبنية إلى أفول، وفي الوقت الذي يتم فيه تداول بدائل داعش في الغرب في إطار خلايا التفكير الإستراتيجي، وفق طروحات ما بعد الإسلام السياسي و(ما بعد الإسلاموية)، تبدو المنطقة المعنية وهي الدول الإسلامية في حالة ارتباك وتناقض حاد أمام موروث داعش وطروحاتها المستندة لقداسات مطلقة، أسهمت وحشية داعش في إعادة طرحها على بساط البحث لأول مرة، وساعدت التكنولوجيا المعاصرة في توفير مساحة واسعة لتلك الجدالات التي تجري اليوم حول خيارات الدولة الحديثة، وربما التوقف عن التجريب والعودة للوراء بالانخراط في النظم العالمية الحديثة.
إن الإشكالية المركزية المطروحة اليوم تشير بوضوح إلى الوصول لمرحلة مواجهة الحقيقة، فإذا كانت داعش والتشدد الإسلامي يطرح مشروعاً متكاملاً جوهره الخلافة المقدسة، فعلى قادة المنطقة ومفكريها أن يطرحوا مشروعهم البديل؛ لأنّ منافسة داعش من ذات الأرضية التي تنطلق منها لم ولن يكتب لها النجاح، كونها ستبقي الصراع صراع نصوص وتأويل، والتنازع معها على من يمتلك رؤية الإسلام الصحيحة، فيما ستضعف طروحات المدنية والحداثة.

الصفحة الرئيسية