إبراهيم المازني وحلّاق القرية

إبراهيم المازني وحلّاق القرية


17/02/2019

عُرف الأديب المصري إبراهيم المازني بسخريته اللاذعة، وأسلوبه اللغوي البلاغي البديع. وكان إلى ذلك ناقداً وشاعراً تميزت كتاباته بالفكاهة حتى عندما تصل به الأحوال والمشاكل إلى ذروة المأساة.

عُرف المازني بسخريته اللاذعة، وأسلوبه اللغوي البلاغي البديع. وكان إلى ذلك ناقداً وشاعراً تميزت كتاباته بالفكاهة

وُلد المازني في 19 آب (أغسطس) 1889، وتوفي في 6 من الشهر ذاته العام 1949. مات والده وهو حدث صغير، فقامت أمه برعايته وتنشئته، وعندما أنهى دراسته الابتدائية والثانوية تابع تعليمه في مدرسة المعلمين فنال شهادتها العام 1909، ودخل سلك التعليم رغم عدم ميله لهذه المهنة، وظل يعمل في هذا الحقل حتى العام 1919، بعد ذلك احترف مهنة الصحافة؛ حيث لمع نجمه، إلى أن عيّن محرراً بجريدة "الأخبار"، ثم محرراً بجريدة "السياسة الأسبوعية"، ثم رئيساً لتحرير جريدة "السياسة اليومية"، ثم رئيساً لجريدة "الاتحاد"، كما انتخب وكيلاً لمجلس نقابة الصحفيين عام 1941.‏

اقرأ أيضاً: قاسم أمين.. تحولات في قراءة واقع المرأة
لم تقتصر ثقافة المازني على ما حصل عليه من المعاهد العلمية، كما تشير سيرته على "الإنترنت" بل قرأ قراءة الدارس المتمعن لنوابغ الأدب العربي القديم، ثم راح ينهل من الأدب الإنجليزي، بالإضافة إلى مطالعاته الفلسفية والاجتماعية، فتكونت لديه ثقافة فكرية متنوعة كونت شخصيته الأدبية، وساعده في ذلك ميله إلى الدعابة التي تحولت فيما بعد إلى نوع من السخرية والاستخفاف بالحياة تجلت في معظم كتاباته التي أخذت مرة شكل الهزل ومرة شكل التشاؤم.

السخرية والاستخفاف بالحياة تجلت في معظم كتاباته
بدأ حياته الأدبية شاعراً، فترك للأجيال كثيراً من الشعر والنثر، كما كان بارزاً ومتميزاً في معالجته للموضوعات التي طرحها بأسلوب لا يعرف التكلف أو قيود الصنعة، وكلها مستوحاة من حياته الشخصية أو حياة ممن يحيطون به، أو من وقائع الحياة العامة، وهي تعكس بدقة صورة المجتمع المصري كما رآها الكاتب بحسناتها وسيئاتها. أصدر ديوانه الشعري بجزأيه؛ الأول والثاني، ودراسة أدبية عن الشعر عام 1913.

اقرأ أيضاً: علي الشوك: ماركسي "يقدّس" حرية الفرد!
انتقل المازني بعد ذلك إلى كتابة الرواية والقصة القصيرة والتراجم، وله مجموعة من الروايات من أهمها: إبراهيم الثاني، وعدد من الكتب من بينها: (حصاد الهشيم، قبض الريح، صندوق الدنيا، خيوط العنكبوت، وغيرها).
قام بدور مؤثر مع عباس العقاد وعبد الرحمن شكري في إنشاء مجموعة "الديوان"؛ المدرسة الشعرية الجديدة التي هاجمت الشعر الكلاسيكي ووضعت أساساً للقصيدة الحديثة باعتبارها بناءً واحداً متماسكاً.

اقرأ أيضاً: نجيب المانع: فيلسوف النغم والأدب العميق
وتتجلى سخرية المازني، وأسلوبه الوصفي الدقيق في كتابه "صندوق الدنيا" التي يروي في بعض قصصه ومقالاته حكايته مع حلّاق في قرية بريف مصر، راسماً صورة للمأساة التي تعرّض لها، بلغة متدفقة بالحيوية والصورة والسخرية السوداء.

كتابه "صندوق الدنيا"
وكان كتاب "صندوق الدنيا" صدر ضمن منشورات "مكتبة الأسرة" بمصر العام 1995، ومنه نقتطف نص "حلاق القرية":
****

حلّاق القرية
وقعت لي هذه الحادثة في الريف منذ سنوات عديدة، قبل أن تتغلغل المدنية إلى أنأى قراه، وكنت أنا الجاني على نفسي فيها، فقد عرض عليّ مضيفي أن أستعمل موساه فأبيت، وقلت ما دام للقرية حلاق فعليّ به، فحذّرني مضيفي وأنذرني ووعظني، ولكني ركبت رأسي وأصررت أن يجيء الحلاق.

ولما عيل صبري، سألته عن حلاق القرية، فابتسم ومشّط لحيته بكفه وأنبأني أنّ الحلاق (محسوبي)، فلعنته في سري

    فجاء بعد ساعات يحمل ما ظننته في أول الأمر (مخلاة شعير) وسلّم وقعد وشرع يحييني ويحادثني حتى شككت في أمره، وأعتقدت أنّ الحلاق شخص آخر، وأنّ هذا الجالس أمامي ليس سوى (طلائعه).
ولما عيل صبري، سألته عن حلاق القرية، فابتسم ومشّط لحيته بكفه وأنبأني أنّ الحلاق (محسوبي) يعني نفسه، فلعنته في سري، وسألته متى ينوي أن يحلق لي لحيتي؟ أم لا بد أن يضرب بالرمل والحصى أولاً ويحسب الطالع قبل أن يباشر العمل؟
فلم يفهم وأولاني صدغاً كث الشعر وقال:"هيا"، فظننته أصم وصحت به: (أ.. ر.. يد أن… أ.. ح. ل ق). فسرّه صياحي جداً، وضحك كثيراً، وأقبل على (مخلاته) فأخرج منها مقصاً كبيراً جداً، فدنوت من أذنه وسألته: هل في القرية فيل؟
فقال: فيل؟ لماذا؟
فأشرت إلى المقص فضحك وقال: "هذا مقص حمير ولا مؤاخذة".
فقلت "ولماذا تجيئني بمقص الحمير؟ أحماراً تراني؟"
ويظهر أنّ معاشرة الحمير بلّدت إحساسه فإنه لم يعتذر لي ولا عبئ بسؤالي شيئاً، ثم أخرج موسى من طراز المقص و(مكنة) من هذا القبيل أيضاً، فعجبت له لماذا يجىء إليّ بكل أدوات الحمير؟
وسألته عن ذلك فقال: إن الله مع الصابرين.
وبعد أن أفرغ مخلاته كلها أنتقى أصغر الأدوات، وأصغرها أكبر ما رأيت في حياتي. ثم أقبل علي وقال: "تفضل"
قلت "ماذا تعني؟"
قال "اجلس على الأرض"
قلت "ولماذا بالله؟"
قال "ألا تريد أن تحلق؟"
قلت "ألا يمكن أن أحلق وأنا قاعد على الكرسي؟"
قال "وأنا؟"
قلت في سري: وأنت تذهب إلى جهنم ونعم المصير، وهبطت إلى الأرض كما أمر، ففتح موسىً كالمبرد.
فقلت: إن وجهي ليس حديداً يا هذا.
قال لا تخف إن شاء الله، ولكني خفت بإذن الله ولا سيما حين شرع يقول: "بسم الله الرحمن الرحيم" كأنما كنت خروفاً، ويبصق في كفه ويشحذ الموسى على بطن راحته، ثم جذب رأسي، فذعرت ونفرت ووليت هارباً إلى أقصى الغرفة.
فقال: ماذا؟
قلت: "ماذا؟ أتريد أن تحلق لي بمبرد، ومن غير صابون؟"
قال: "ماذا يخيفك؟"
قلت: يخيفني؟ لقد دعوتك لتحلق لي لحيتي لا لتبرد لي شعرها.
قال "يا أفندي لا تخف"، ثم قرأ من الكتاب الكريم "فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى" إلى آخر الآية الكريمة، وأظنه أراد أن يرقيني بها، فيا لها من حلاقة لا تكون إلا برقية !

أهوى الرجل بموساه على وجهي فسلخ قطعة من جلدي فردني الألم إلى الحياة، وآتاني القوة الكافية للصراخ

وأسلمت أمري لله وعدت فقعدت أمامه، فنهض على ركبتيه وتناول رأسي بين كفيه، وأمال صدغي إليه، ثم وضع ركبته على فخذي، ولفّ ذراعه حول عنقي، فصار فمي مدفوناً في صدره، فصحت أو على الأصح جاهدت أريد الصياح لعل أحداً يسمعني فينجدني، غير أن طيات ثوبه كانت في فمي، أما رائحة الثوب فبحسب القارئ أن يعلم أنها أفقدتني الوعي.
ولا أطيل على القارئ.
فقد أهوى الرجل بموساه على وجهي فسلخ قطعة من جلدي فردني الألم إلى الحياة، وآتاني القوة الكافية للصراخ على الرغم من الكمامة، ووثبت أريد الباب ولكنه كان على كبر سنه أسرع مني، وما يدريني لعله كان يتوقع ذلك، وعسى أن يكون المران قد علمه أن يكون يقظاً لأمثال هذه المحاورات، فردني بقوة ساعده.
فتشهدت وتذكرت قول المتنبي:
وإذا لم يكن من الموت بد                 فمن العجز أن تموت جباناً
كلا.. سأسدل الستار على هذا المنظر الذي يقشعر منه جلدي على الرغم من كر السنين الطويلة.
ثم جاء هذا السفاح بطشت يغرق فيه كبش، ووضعه تحت ذقني وصب ماءه على وجهي وفي صدري وعلى ظهري، ليغسل الدم الذكي الذي أراقه، وأخرج من مخلاته (منشفة) هي بممسحة الأرض أشبه، فاعتذرت وأخرجت منديلي وسبقته به إلى وجهي. فهي معركة لا تزال بجلدي منها ندوب وآثار.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية