صادق الرئيس التونسي، قيس سعيد، على الدستور الجديد للبلاد الذي جرى الاستفتاء عليه يوم 25 تموز (يوليو) الماضي، ليدخل حيّز التطبيق الرسمي، بعد إعلان الهيئة العليا للانتخابات عن اعتماده بنسبة 94.6 بالمئة من أصوات الناخبين.
وقال الرئيس سعيّد في كلمة توجّه بها إلى التونسيين، مساء الأربعاء، بمناسبة المصادقة على دستور الجمهورية التونسية الجديد، بعد إعلان النتائج الرسمية النهائية، إنّ "هذا اليوم تاريخي"، ومن الأيام التاريخية الخالدة وهي كثيرة وليس أقلها 25 يوليو من هذه السنة والسنة التي قبلها".
وأضاف سعيّد أنّه "يوم التطابق بين الشرعية الدستورية والمشروعية الشعبية"، معتبراً أنّ ما قام به هوّ ''تصحيح لمسار الثورة ومسار التاريخ''، بعد أن ''ساد الظلام واستفحل الظلم في كل مكان".
وكشف رئيس تونس عزمه على وضع قانون انتخابي جديد خلال الأيام المقبلة، مشيراً إلى أنّه سيتم إرساء المحكمة الدستورية، للحفاظ على سيادة الدستور وحماية الحقوق والحريات التي ينص عليها الدستور الجديد، مؤكدّا أنّ "هذه الحريّات أكثر ممّا ورد في دستور 2014 الذي أنهى الشعب وجوده".
الدستور الجديد
ووفق دراسة، أعدها الباحث المتخصص في الحركات الإسلامية فريد بن بلقاسم، فقد تضمن الدستور الجديد تعديلات أهمّها في الباب الأول، وخصوصاً في الفصل الخامس منه الذي ينص على أنّ "تونس جزء من الأمة الإسلامية، وعلى الدولة وحدها أن تعمل في ظل نظام ديمقراطي على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النفس والعرض، والمال، والدين والحرية".
وفي البابين الثالث والرابع المتعلقين بالوظيفتين؛ التشريعية والتنفيذية، نص الدستور الجديد في مستوى النظام السياسي على العودة إلى النظام الرئاسي الذي أصبح يقوم على الوظائف لا السُّلطات، وعلى تحمل رئيس الجمهورية الوظيفة التنفيذية وضبط السياسة العامة للدولة وعلى أنّ الحكومة مسؤولة عن تصرفها أمامه، وعلى إنشاء مجلسين نيابيين هما مجلس نواب الشعب والمجلس الوطني للجهات والأقاليم ويضطلعان بالوظيفة التشريعية. إضافة إلى الأبواب المتعلقة بالوظيفة القضائية وبالمحكمة الدستورية وبالجماعات المحلية والجهوية والهيئات الدستورية التي لم يستبق منها سوى الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وإنشاء المجلس الأعلى للتربية والتعليم.
لم تستطع حركة النهضة منذ 25 تموز الماضي أن تحدث اختراقاً يتيح لها العودة إلى المنظومة السابقة أو أن تحول دون المسار السياسي الذي سلكه رئيس الجمهورية
وقد استحوذ الفصل الخامس والفصول المتعلقة بما سماها الدستور الوظائف التشريعية والتنفيذية والقضائية على اهتمام الرأي العام، ودار النقاش بين النخب السياسية والفكرية حولها طيلة الفترة التي سبقت الاستفتاء باعتبارها تثير قضايا خلافية وتعكس روح المشروع السياسي والاجتماعي الذي يحمله رئيس الجمهورية ولها انعكاسات على السياسات والتوجهات التي ستسير فيها تونس دولة ومجتمعاً في مختلف الميادين في المستقبل المنظور، وفق الدراسة.
ما مستقبل إخوان تونس؟
ويعالج الباحث، في دراسته المنشورة على موقع مركز "تريندز" للدراسات والبحوث، مستقبل الإسلام السياسي في تونس، تبعاً للبعدين الرئيسيين للإسلام السياسي، وهما البعد التنظيمي والبعد الأيديولوجي، قضية مستقبل هذا التيار في تونس من زاويتين؛ زاوية مستقبل هذا التيار من الناحية التنظيمية، وزاوية مستقبل هذا التيار من الناحية الأيديولوجية.
فمن الزاوية الأولى يشير الباحث في دراسته إلى أنّه بات من الواضح في تونس اليوم أنّ حركة النهضة باعتبارها ممثلة الإسلام السياسي الإخواني من الناحية التنظيمية قد تراجعت مكانتها وتقلص حضورها وفقدت قدرتها التأثيرية والاستقطابية في المجتمع، إضافة إلى استبعادها سياسياً من أجهزة الدولة وأنهى الدستور الجديد من الناحية القانونية قواعد المنظومة التي كانت تهيمن عليها وبها توجه سياسات الدولة وتفرض سلطانها على مؤسساتها وتتحكم في المشهد السياسي.
ولم تستطع حركة النهضة منذ حدث 25 تموز (يوليو) 2021 رغم المجهودات التي بذلتها داخلياً وخارجياً، أن تحدث اختراقاً يتيح لها العودة إلى المنظومة السابقة أو أن تحول دون المسار السياسي الذي سلكه رئيس الجمهورية.
ويشير واقع الحال إلى أنّها في حالة من العزلة السياسية والاجتماعية، إضافة إلى ما تواجهه قياداتها، وعلى رأسها راشد الغنوشي من قضايا، وهو ما قد يثير التساؤلات حول وجودها قانونياً وشرعياً في الساحة السياسية التونسية، وقد يتعزز هذا الأمر في ضوء تمسك الحركة الإسلاموية برفضها الدستور الجديد والقواعد القانونية التي ستتولد عنه ولاسيما قانون الأحزاب وقانون الانتخابات.
وتشير الدراسة إلى أنّ من السيناريوهات الممكنة في هذا الإطار في صورة ما أصبح وجودها القانوني على المحك أن تلجأ إلى تأسيس صيغة تنظيمية بديلة أو أن تخرج من تحت عباءتها تنظيمات جديدة على غرار ما فعله بعض المستقيلين منها في الآونة الأخيرة، إذ أنشأ بعض القياديين المستقيلين حزباً جديداً يحمل اسم "العمل والإنجاز"، برئاسة عبد اللطيف المكي.
ويبدو أنّ مستقبل حركة النهضة في تونس في مرحلة المنظومة السياسية النابعة من الدستور الجديد باعتبارها ممثلة للإسلام السياسي الإخواني من الناحية التنظيمية مفتوح على احتمالات متعددة بحسب موازين القوة داخلياً وخارجياً من ناحية، ومآلات القضايا المرفوعة ضدها من ناحية أخرى، ولعلّ أقرب هذه الاحتمالات أنّ الإسلام السياسي قد يعمد إلى اتخاذ أشكال تنظيمية بديلة ويعمل على عدم تكرار تجاربه السابقة في مرحلة الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين أو تجربة جماعة الإخوان المصرية بعد انهيار تجربة حكمهم في صيف 2013؛ بمعنى تجنب الدخول في مصادمات مع السلطات القائمة بما يجعل قضيته تتحول إلى ملف أمني وقضائي والسعي إلى أن يحافظ على حضوره في الحقل السياسي، باعتباره مكوناً من مكوناته وممثلاً لفئة من المجتمع، وإن اقتضى الأمر القيام بمراجعات وفق قواعد المنظومة الجديدة في انتظار أن تتهيأ فرص لاستعادة ثوبه الأصلي وهويته القديمة الراسخة، مستفيداً من قدرته على المناورة والمخاتلة.
يبين استشراف مستقبل الإسلام السياسي في تونس من الناحيتين التنظيمية والأيديولوجية أنّ القطيعة مع هذا التيار لا تنحصر في مستوى اتخاذ إجراءات قانونية أو محاسبة قضائية أو تغيير دستور فحسب، وإنما تقتضي تغيير العقليات وتثوير الأفكار والقيم
وفي واقع الأمر، فإنّ التحولات في طبيعة الجيل الجديد لحركة النهضة بعد 2011 من جهة ظهور طبقة برجوازية إسلاموية مسيطرة على القيادة المتنفذة داخل الحركة وحريصة على مصالحها الاقتصادية مع مراكز القوى الحاكمة، اقتصادياً ومالياً وسياسياً، هذه التحولات، جعلت الحركة تفقد عمقها الاجتماعي في الطبقات المتوسطة والفقيرة، وهو ما أدى إلى أن تكون هذه الطبقة المتحكمة في الحركة الإسلاموية أقل ميلاً إلى النضالية وإلى خوض تجربة الصدام مع الدولة، كما كانت تفعل الأجيال السابقة، وأصبحت أكثر حرصا على البقاء في ظلال مساحات العمل السياسي والمعارضة القانونية المتاحة، وفق الدراسة.
وأما من الزاوية الأيديولوجية، وهي الزاوية الأكثر أهمية باعتبار ما تشكله الأيديولوجيا بمقولاتها وشعاراتها من مخزون له طاقة على الاستقطاب والجذب خصوصاً في الأوساط الاجتماعية التي تعاني الهشاشة فكرياً أو مادياً ويسهل خداعها بالخطابات المغلفة بالشعارات الدينية البراقة، فإنّ مستقبل الإسلام السياسي في تونس يبقى، وفق الباحث، رهين عدة عوامل لعل أبرزها 3 عوامل أساسية.
يتعلق العامل الأول بمصير شبكة من الجمعيات والمنظمات الناشطة في المجتمع المدني والتي يكمن دورها في الترويج لأيديولوجيا الإسلام السياسي بطريقة ناعمة من خلال الدورات التكوينية والدروس والتدريبات، ومنها، على سبيل المثال، الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
العامل الثاني يتصل بمتابعة مصادر التمويل وتجفيفها، وهو أمر كفيل بالحد من قدرة الإسلام السياسي على التحرك والتمدد، ولاسيما في الطبقات الاجتماعية الفقيرة والمهمشة.
وأما العامل الثالث، وهو أكثر العوامل حسماً، فيتعلق بوضع سياسات إصلاحية في البرامج التربوية والتعليمية والثقافية، وبمتابعة الخطابات الدينية وفق رؤية تجديدية وتنويرية في المساجد وفي الوسائط الإعلامية.
في المحصلة يبين استشراف مستقبل الإسلام السياسي في تونس من الناحيتين التنظيمية والأيديولوجية أنّ القطيعة مع هذا التيار لا تنحصر في مستوى اتخاذ إجراءات قانونية أو محاسبة قضائية أو تغيير دستور فحسب، وإنما تقتضي تغيير العقليات وتثوير الأفكار والقيم من أجل تحصين النشء والأجيال القادمة من الانجذاب إلى الأيديولوجيا الإسلاموية تحت أي صيغة تنظيمية كانت، وهو أمر يستدعي رؤية واضحة ثاقبة وإرادة سياسية ومشاركة من النخب الفكرية والثقافية والإعلامية.
مواضيع ذات صلة:
- تونس: الغنوشي انتهى سياسياً فهل تختفي "النهضة"؟