
كان التحدي المجتمعي غير المُتبصر واحداً من أهم التحديات التي عرقلت مشروع تحديث المناهج، وكانت تهدئة ثائرة أولياء الأمور تجاه منهج في طور التجريب، من الطبيعي أن يُعدل ويكيف ويُصحح مساره وفق رؤى تربوية وأبحاث جامعية، أمراً طبيعياً، وكان منوطاً بوزارتي التربية والإعلام التمهيد لذلك، وهو الخطأ نفسه الذي نراه في التغييرات العميقة التي يشهدها نظام الثانوية العامة حالياً، فقد جرت دون تمهيد إعلامي أو اجتماعي، في أمر يمسّ كل الأسر المصرية.
ثاني هذه التحديات هو المعلم، ذلك العنصر البشري المنوط به شرح تلك المناهج، في وزارة الجميع يعرف أنّها تعاني من عجز مؤلم، ولا تفي التعيينات القليلة بتسكينه، في ظل تدني تدريبات إعداد المعلمين، وفي ظل شرائح عمرية لمعلمين لن يستطيعوا النهوض بكفايات تلك المناهج، ومدارس بها كثافات لن تستطيع أن تتواءم مع حيوية تلك المناهج ومتطلباتها، فضلاً عن تدني أجور المعلمين، وانخفاض الوضع الأدبي لهم، إلى حدّ خروج واحد من كبار الإعلاميين وقوله: "آخره هيكون مدرس"، في إشارة مُهينة إلى ضياع هيبة تلك المهنة.
أزمات متراكمة
لأنّ الوزارة تعاني من عجز في المعلمين في المواد الأساسية، فمن المستحيل أن يكون لمادتي التكنولوجيا والقيم والمهارات، التي أضافتهما الوزارة ضمن خطة التحديث، جدولاً تدريسياً حقيقياً، على أهمية هاتين المادتين البالغة، وحاجة المجتمع المصري والعصر الحالي لهما، فالحديث عن تدريس حقيقي لهذه المواد في ظل الأوضاع الحالية ترف.
ولأنّ الحلول الموضوعة من قِبل الوزارة لتسكين عجز المعلمين لا تبني مدارس قوية معرفياً، فاقتراح أن يُسد العجز بطالب كليّة التربية أو بخريج الخدمة العامة، الذي يتغير كل عام، وليس عن طريق معلم ثابت يبني صلات تراكمية وخبراتية مع المناهج والطلاب وأولياء الأمور وبيئات العمل، هو اقتراح غير واقعي.
كما أنّ دعوة المعلمين الذين أحيلوا للتقاعد، للعودة إلى التدريس للاستفادة من خبراتهم، هو حل غير عملي كذلك؛ لأنّ المعلم في هذا العمر، وإن كان خبيراً في المنهج وخبيراً في العمل الإداري والإشرافي، فليس لديه، بحكم السن، الجهد اللازم والحيوية المطلوبة لعملية التدريس، أو النشاط المطلوب داخل الفصل.
ظاهرة الدروس الخصوصية مجرد رد فعل
كل هذه الأسباب دفعت إلى استشراء ظاهرة "الدروس الخصوصية"، وأدت إلى أن يصبح هناك تعليم يوازي التعليم الحكومي، ولأنّ المناهج أصبحت أكثر تخصصية، بينما المدارس على واقعها الحالي هزيلة معرفياً، كان توجه الطلاب وأولياء الأمور لـ "مراكز" التعليم الخاصة أمراً حتميّاً، وهو أحد أبرز نواتج سوء التخطيط المتكامل للمنظومة التعليمية، فمناهج بهذا العمق كان من الواجب أن يصحبها كوادر بشرية بالعمق نفسه من الإعداد، وزيادة عدد الطلاب كان من الواجب أن يزداد معه عدد المعلمين، ومناهج تتكامل فيها المعرفة، وتبحث عن تكامل معرفي وروحي وجسدي، كان يلزمها مدارس مصممة لخدمة تلك المُتطلبات.
إنّ خطورة تلك المراكز الخاصة ليس في كونها تُثقل جيوب الأسر المصرية، فهذا أهون ما في خطورتها، ولكن لأنّ هناك تعليماً يتم بعيداً عن أعين الدولة، وبعيداً عن رقابتها في أماكن معرضة لنمو مناهج خفية وسلوكيات وتوجهات بعيدة عن فلسفة المجتمع وأمانه، وهي أزمة حقيقية.
كما أنّ هذه المراكز الخاصة تركز في هدفها على إنماء الجانب العقلي فقط، دون بقية جوانب النمو الإنساني، وهذه مشكلة كبرى، وحتى هذا الجانب العقلي الذي تستهدفه، إنّما تقصد به أداءً مرتفعاً وكميّاً في ورقة الاختبار، دون أن تكون أحدثت ما هو مطلوب بشكل كامل من حقيقة المعرفة وسموها؛ بعيداً عن الاختبار ودرجته.
لقد أصبح لمراكز التعليم الخاصة دور يتحدى دور الدولة، ويقزم من دور المدرسة، وهي البُنيان المختص بالنمو المتكامل للطالب، والذي لن تغني عنه أفضل المراكز التعليمية، ولا الحصول على الدرجات النهائية.
إنّ أيّ حل تتخذه وزارة التعليم، لا يتضمن عودة الطالب إلى المدرسة، وعودة المعلم مُهاباً ومصوناً ومصدراً مهمّاً للتعلم، وعودة المدرسة ككيان رسمي منوط به التربية والتنشئة الحقيقة، لن يكون حلّاً واقعيّاً في أزمة كبيرة لأمّة كبيرة.