
ناصر الحزيمي
هنالك شبه إجماع بين المؤرخين ومدوني التاريخ أن الحج بعد دخول الحجاز تحت الحكم السعودي يعتبر "أي الحج" من آمن فترات الحج ولا يوازيها إلا المراحل المبكرة بعد سيطرة الرسول على الحجاز وطرق الحاج ومرحلة الخلفاء الراشدين، أما بعد ذلك فقد دخل الحج في حالات من انعدام الأمن وسيادة الظلم والتنمر على الحجيج وأصبحت الجريمة المنظمة والسرقة محمية في مكة في بعض الأوقات.
يذكر ابن كثير في أحداث سَنَة سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
((وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا نَائِبُ الْمِصْرِيِّينَ، وَهُوَ الْأَمِيرُ بَادِيسُ بْنُ زِيرِي أَخُو يُوسُفَ بْنِ بُلُكِّينَ.
وَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ اللُّصُوصُ، وَسَأَلُوا مِنْهُ أَنْ يُضَمِّنَهُمُ الْمَوْسِمَ هَذَا الْعَامَ، بِمَا شَاءَ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَأَظْهَرَ لَهُمُ الْإِجَابَةَ إِلَى مَا سَأَلُوا، وَقَالَ لَهُمْ: اجْتَمَعُوا كُلُّكُمْ حَتَّى أُضَمِّنَكُمْ كُلَّكُمْ، فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ بِضْعٌ وَثَلَاثُونَ حَرَامِيًّا، فَقَالَ: هَلْ بَقِيَ مِنْكُمْ أَحَدٌ؟ فَحَلَفُوا لَهُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَعِنْد َ ذَلِكَ أَمَرَ بِقَطْعِ أَيْدِيهِمْ كُلِّهِمْ، وَنِعْمَ مَا فَعَلَ. وَكَانَتِ الْخُطْبَةُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ لِلْفَاطِمِيِّينَ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ دُونَ الْعَبَّاسِيِّينَ.))
وهذا يعني أن ضمان اللصوص لموسم الحج كان سائدا والضمان يعني أن يدفع اللصوص مبلغا معينا لأمير مكة وقتها وبالمقابل يحصل "بتشديد الصاد" اللصوص المبلغ من الحجيج بشتى الطرق الغير مشروعة من غير مسائلة أو منع من القائم بأمور الحجاز والحج.
لقد كان الحجاج يلاقون المحن والظلم سواء في طريق الحج أو في مكة المكرمة أو المدينة المنورة لدرجة أن بعض فقهاء الأندلس كانوا يفتون بعدم وجوب الحج لانعدام الأمن.
يقول ابن جبير" ت 614هجري" في رحلته ((وأكثر هذه الجهات الحجازية وسواها فرق وشيع لا دين لهم قد تفرقوا على مذاهب شتى. وهم يعتقدون في الحاج ما لا يعتقد في أهل الذمة، قد صيروهم من أعظم غلاتهم التي يستغلونها: ينتهبونهم انتهابا ويسببون لاستجلاب ما بأيديهم استجلابا. فالحاج معهم لا يزال في غرامة ومؤونة إلى أن ييسر الله رجوعه إلى وطنه. ولولا ما تلافى الله به المسلمين في هذه الجهات بصلاح الدين لكانوا من الظلم في أمر لا ينادي وليده ولا يلين شديده... وجعل عوض ذلك مالا وطعاما يأمر بتوصيلهما إلى أمير مكة فمتى ابطأت عنهم تلك الوظيفة المترتبة لهم عاد هذا الأمير إلى ترويع الحاج وإظهار تثقيفهم بسبب المكوس. واتفق لنا من ذلك أن وصلنا جدة فأمسكنا بها خلال ما خوطب مكثر الأمير المذكور. فورد أمره بأن يضمن الحاج بعضهم بعضا ويدخلوا إلى حرم الله فإن ورد المال والطعام اللذان برسمه.
... والذي جعل له صلاح الدين بدلا من مكس الحاج ألفا دينار اثنان وألفا إردب من القمح وهو نحو الثمانمائة قفيز بالكيل الإشبيلي عندنا حاشى إقطاعات أقطعها بصعيد مصر وبجهة اليمن لهم بهذا الرسم المذكور ولولا مغيب هذا السلطان العادل صلاح الدين بجهة الشام في حروب له هناك مع الإفرنج لما صدر عن هذا الأمير المذكور ما صدر في جهة الحاج. فأحق بلاد الله بأن يطهرها السيف ويغسل أرجاسها وأدناسها بالدماء المسفوكة في سبيل الله هذه البلاد الحجازية لما هم عليه من حل عرى الإسلام واستحلال أموال الحاج ودمائهم.
فمن يعتقد من فقهاء أهل الأندلس إسقاط هذه الفريضة عنهم فاعتقاده صحيح لهذا السبب وبما يصنع بالحاج مما لا يرتضيه الله عز وجل. فراكب هذا السبيل راكب خطر ومعتسف غرر. والله قد أوجد الرخصة فيه على غير هذه الحال فكيف وبيت الله الآن بأيدي أقوام قد اتخذوه معيشة حراما، وجعلوه سببا إلى استلاب الأموال واستحقاقها من غير حل ومصادرة الحجاج عليها وضرب الذلة والمسكنة الدنية عليهم تلافاها الله عن قريب بتطهير يرفع هذه البدع المجحفة عن المسلمين.))
هذه أمثلة يسيرة على ما كان يعانيه الحاج من ظلم وحيف وكتب التراث مليء بنماذج متعددة وأخبار مخزية في طريق الحج وفي الحرمين حفظها الله من كل سوء وأدام عليها الأمن والأمان الذي تنعم به في ظل حكومتنا الرشيدة.
عن "العربية"