تقع العاصمة الإيرانية، طهران، تحت وطأة احتجاجات عنيفة، وبخاصة من سكان محافظة أصفهان، على خلفية مشاريع نقل المياه التي يقوم بها النظام، والمتسببة في توقف جريان نهر رئيسي (زاينده رود) في المدينة التاريخية، الأمر الذي ألحق أضراراً جمّة بالمزارعين.
اعتراف إيراني بالأزمة
ويواصل آلاف المحتجين تظاهراتهم في أصفهان التي تعد ثالث أكبر المدن الإيرانية، ووقفوا عند مجرى النهر الذي تعرض للجفاف، بحسب وكالة الأنباء الفرنسية، بينما رددوا هتافات عدة منها: "لا لنقل المياه من تشار محل"، و"الموت لخامنئي"، "مياه النهر تتعرض للنهب منذ عشرين عاماً"، و"على المياه أن تعود الى مجاري زاينده رود"، "شرق أصفهان بات مهجوراً"، و"مياهنا رهينة".
وتشير وكالة أنباء "فارس"، المنصة الإعلامية التابعة للحرس الثوري الإيراني، إلى وقوع حوادث عنف بين المتظاهرين وقوات الأمن، مضيفة أنّ "المتظاهرين، وكانوا مجموعات تضم كل منها ما بين 40 و50 شخصاً في الشوارع، حول جسر (پل خواجو)، ويقدر عددهم الإجمالي بنحو 300، قاموا بإلقاء الحجارة على الشرطة، وأشعلوا النار في دراجة بخارية تابعة لها، وكذا سيارة إسعاف".
الجبهة الإصلاحية التي يقودها خاتمي: أزمة المياه الحالية في إيران، مثال واضح لقضية معقدة في صنع السياسة، وخلق هذه الأزمة، هو نتاج عقود من تراكم الخطأ السياسي
ووفق التلفزيون الرسمي بإيران، تم بث مقاطع مصورة لقوات الأمن وهي تقوم بتفريق المتظاهرين بواسطة الغاز المسيل للدموع، وذلك أثناء تجمعهم في قاع النهر الجاف. وبينما اعتبر قائد شرطة أصفهان، محمد رضا ميرحيدي، المحتجين بأنّهم مجموعة من "الانتهازيين والمضادين للثورة (يقصد الثورة الإسلامية)"، فإنّ دوائر عديدة داخل النظام، وتحديداً الجناح المقرب من المرشد الإيراني، علي خامنئي، قد ألمح إلى أنّ الاحتجاجات بمثابة "مؤامرة" ضد النظام، وقالت صحيفة "كيهان" التابعة لمكتب خامنئي هناك "طابور أمريكي خامس تسلل إلى أحداث النهر الجاف، وذلك مع اقتراب المحادثات في فيينا، لإثارة الشغب، والدفع نحو عقوبات أمريكية جديدة على طهران".
أصفهان تعد مركزاً رئيسياً للحركات الاحتجاجية ذات الطابع الفئوي، لا سيما من جانب المزارعين المتضررين من أزمة نقص المياه، والتي تؤثر على مصدر دخلهم الرئيسي، حسبما يوضح مدير تحرير مجلة الدراسات الإيرانية بالمعهد الدولي للدراسات الإيرانية (رصانة)، محمود حمدي أبو القاسم، الذي أبلغ لـ"حفريات" أنّ "ملف المياه له دور مؤثر في كثير من الاحتجاجات التي شهدتها إيران، خلال السنوات الأخيرة؛ إذ لم يمنع قمع النظام، وضيق مساحات التعبير عن الرأي في الفضاء العام المواطنين الإيرانيين من الخروج للاحتجاج والتظاهر، على خلفية أزمات متعلقة بالحقوق المائية للسكان، وقد شهد العديد من الأقاليم والمحافظات خروج عشرات المظاهرات والاحتجاجات المتواصلة، ولعل كان أهمها احتجاجات الأحواز مع نهاية ولاية الرئيس السابق حسن روحاني".
المياه بيد الحرس الثوري: قمع وتعطيش
ولا تعد أزمة المياه في إيران مشكلة ظهرت مؤخراً، أو أنّها ترجع فقط إلى الجفاف وانخفاض هطول الأمطار، وتغير المناخ الناجم عن ظاهرة الاحتباس الحراري، بل إنّها ترجع بالأساس إلى "سوء إدارة ملف المياه والإفراط في استخدامها في الصناعة والزراعة، وسياسات التنمية العشوائية في هذه القطاعات"، كما يشير أبو القاسم. ويردف: "فعلى مدى أربعة عقود، لم تعط السلطات العناية الكافية للبيئة؛ حيث أدت التنمية غير المستدامة، والاهتمام فقط بالفوائد قصيرة المدى، إلى تدهور البيئة على نطاق واسع، وفقدان الموارد الطبيعية مثل المياه. وقد حذر الباحثون في هذا المجال من هذه السياسات، وتهديدها لأمن إيران المائي والغذائي والأمن الاجتماعي والسياسي، وكان اعتقال السلطات لعلماء البيئة مؤشراً على نمط تعامل النظام مع هذا الملف".
ولذلك؛ كان إسناد ملف المياه للحرس الثوري لإنشاء السدود بكثافة على مجاري الأنهار، دون دراسة علمية جادة، سبباً في اندلاع الأزمة، وقد وصلت مشكلة المياه إلى مرحلة خطيرة، باتت تهدد حياة السكان، وفقاً للمصدر ذاته، بينما تتحمل الحكومة أمام المواطنين المسؤولية عن هذا الوضع، سواء من خلال تبنيها لمشروعات أثرت على الوضع المائي بقصد، أو من خلال سياستها التمييزية لمناطق على حساب مناطق أخرى، ناهيك عن فشلها في تطوير البني التحتية، وتحقيق التنمية المستدامة والمتوازنة، بما يحفظ للإيرانيين حقهم في المياه اللازمة لنشاطهم الاقتصادي وللشرب.
مدير تحرير مجلة الدراسات الإيرانية محمود حمدي أبو القاسم لـ"حفريات": أصفهان مركز رئيسي للاحتجاجات ذات الطابع الفئوي، لا سيما من جانب المزارعين المتضررين من أزمة نقص المياه
وتسببت مشروعات السدود التي تولى تنفيذها الحرس الثوري بإيران، خلال العقود الأخيرة، فضلاً عن مشروعات تحويل المياه، كما يقول أبو القاسم، في "خلق أزمة مياه في بعض المناطق، الأمر الذي أدى لخروج المواطنين في احتجاجات متواصلة، كما هو الحال في أصفهان، حالياً".
وإلى ذلك، علق هادي قائمي، مدير حملة حقوق الإنسان في إيران، عن الاحتجاجات الأخيرة في أصفهان: "سلطات النظام الإيراني مسؤولة، بشكل أساسي، عن حياة وصحة المتظاهرين الذين أصيبوا واحتجزوا". كما أصدرت المنظمة الحقوقية، نهاية الشهر الماضي تشرين الثاني (نوفمبر)، بياناً جاء فيه: "على الرغم من الاعتراف بالاحتجاجات السلمية للشعب، في المادة 27 من دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فإنّ النظام، عملياً، وضع القوات العسكرية والأمنية في مقدمة التعامل مع الاحتجاجات، في أصفهان، وجعل نهر زاينده رود دموياً".
اقرأ أيضاً: اندلاع اشتباكات مسلحة بين عناصر طالبان وحرس الحدود الإيراني... ما الأسباب؟
ودانت المنظمة الحقوقية "القمع الشديد للمحتجين من قبل السلطات"، كما شددت على ضرورة "الاعتراف بحق الشعب في الاحتجاج على أزمة المياه".
ما الحلول الممكنة لمشكلة المياه؟
وبحسب المحلل السياسي الإيراني، مهيم سرخوس، فإنّ سياسة الملالي لا تختلف في مواجهتها للمعارضة؛ إذ يعمد النظام إلى زيادة وتيرة القمع واستهداف الناشطين والمحتجين، كما يقوم بتصنيفهم كمجموعة من العملاء لقوى خارجية، الأمر الذي جرى مع تظاهرات الوقود والخبز والمعلمين ثم مع تظاهرات المياه، حالياً، الأمر الذي تؤكده التقارير الرسمية والحقوقية، على حد سواء.
ولفت في تصريحه لـ"حفريات"، إلى تصريحات قائد الوحدات الخاصة في قوی الأمن الداخلي، حسن كرمي، الذي قال إنّه تم اعتقال نحو "67 شخصاً، فقط"، غير أنّ المؤشرات ترجح أنّ الأعداد تجاوزت الـ200 شخص.
اقرأ أيضاً: الوكالة الدولية للطاقة: إيران تخصب اليورانيوم خلال استئناف مفاوضات فيينا
وكان رئيس القضاء الإيراني، غلام حسين محسني إجه إي، شدّد على ضرورة التعاطي بحسم من قبل "الشرطة وقوات الأمن والنيابة" مع المحتجين، بينما وصف المتظاهرين بأنّهم مجموعة من "الجهلة والخبثاء في الخارج، الذين رکبوا الموجة بهدف تعكير صفو أمن الناس".
اقرأ أيضاً: ما من نفع من أي اتفاق نووي مع إيران
بيد أنّ الجبهة الإصلاحية في إيران التي يقودها الرئيس السابق، محمد خاتمي، أعلنت، بشكل مباشر، دعمها للتظاهرات، وطالبت بـ"اصطفاف وطني" لجهة حل مشكلة المياه، بحسب بيان رسمي، كما شددت الجبهة الإصلاحية على ضرورة نبذ العنف من قبل السلطات، وقد أكد البيان أنّ "أزمة المياه في إيران أزمة وطنية، ويجب على المؤسسات الامتناع عن العنف في مواجهة الاحتجاجات".
ويرى أنّ أزمة المياه الحالية في إيران، "مثال واضح لقضية معقدة في صنع السياسة، وكما أن خلق هذه الأزمة، هو نتاج عقود من تراكم الخطأ السياسي، فإنّ حل جذورها والتكيف بنجاح مع ندرة المياه في إيران، ليس له حل بسيط وفوري".
اقرأ أيضاً: إيران ترفض المحادثات مع واشنطن وضغوط على بايدن لمنع رفع العقوبات
وخلص البيان إلى مجموعة من الحلول الممكنة لإنهاء أزمة المياه؛ حيث ذكر أنّ "إحدى ضروريات التحديد الناجح لحل فعال لهذه الأزمة، تتمثل في إشراك ممثلي جميع أصحاب المصلحة في مختلف الفئات الاجتماعية والمناطق في إيران، ومختلف الوكالات ذات الصلة، وكذلك الخبراء من الدرجة الأولى في مختلف المجالات المتعلقة بإدارة المياه وسياستها.. والاحتجاجات الأخيرة من قبل سكان أصفهان، واحتجاجات أبناء وطننا في خوزستان، وشهار محال، وبختياري، وتزايد القضايا المتعلقة بالمياه في 28 مقاطعة من البلاد، تظهر خطورة هذا التحدي الفائق..".