أردوغان وإسلاميون آخرون: دمج الإسلامي بالقومي

أردوغان وإسلاميون آخرون: دمج الإسلامي بالقومي

أردوغان وإسلاميون آخرون: دمج الإسلامي بالقومي


05/02/2024

أعاد أردوغان إنتاج الإسلام السياسي التركي في صيغة تدين علماني؛ متجاوزاً بذلك أستاذه نجم الدين أربكان، لكنّه أنشأ تحولاً آخر في إيديولوجيته وحزبه منقلباً على شركائه وأصدقائه المتدينين والإسلاميين مؤسسي حزب العدالة والتنمية، مثل عبد الله غول وأحمد داود أوغلو، وخاض حرباً تبدو حتى اليوم غير مفهومة مع جماعة الخدمة التي حافظت على مدى العقود السابقة في حماية الطابع الإسلامي التقليدي والخالص من السياسة والمصالح لتركيا، وأعاد منذ الانقلاب الغامض عام 2016 بناء إيديولوجيا إسلامية قومية تحميها الأجهزة الأمنية والاستخبارية أكثر من القواعد الاجتماعية والسياسية، بل أعاد بناء تركيا جديدة تشبه حدّ التطابق روسيا البوتينية التي دمجت القومية الروسية مع الكنيسة الأرثوذكسية، وظلت روسيا البوتينية برغم ليبراليتها وأوليغارشيتها قادرة على جذب أحلام اليساريين العرب والمعادين لأمريكا والغرب؛ كما نجح أردوغان برغم قوميته التركية وعلمانيته الدينية أن يجتذب تأييد الإسلاميين العرب، دون أن يلهمهم تجربته، كما لم يلهم بوتين اليساريين. وهذا أمر محيّر، فجماعات الإسلام السياسي العربية تؤيد أردوغان في كل أفكاره ومواقفه مثل العلمانية دون أن تقتبسها وتلتزم بها مثله.

الدمج الإسلامي القومي ليس جديداً، ولم يقتصر على أردوغان. حماس مثلاً تدمج الإيديولوجيا الإسلامية بالوطنية الفلسطينية، ومثلها الإخوان المسلمون وحزب جبهة العمل الإسلامي في الأردن في اجتذاب المواطنين من أصل فلسطيني على أساس القضية الفلسطينية، والاهتمام بـ "القضية المركزية"، وتحويل القضايا اليومية والحياتية للفلسطينيين إلى قضية "مقدّسة"، واجتذب تنظيم داعش السنّة في العراق وسوريا على أساس طائفي وقومي وليس إيديولوجي، وفي مالي اجتذب العرب في مواجهة الزنج، وفي أفغانستان اجتذبت طالبان البشتون في مواجهة الجماعات والقوميات الأخرى.

جماعات الإسلام السياسي العربية تؤيد أردوغان في كل أفكاره ومواقفه مثل العلمانية دون أن تقتبسها وتلتزم بها مثله

عندما تشعر الأمم والجماعات بالخوف والتهديد توظف جماعات توظف هذا الشعور، مقدّمة نفسها للخائفين على أنّها المظلة التي تحميهم ويواجهون بها التهديد. في تركيا على سبيل المثال ثمّة شعور عميق بالتهديد والزوال والخوف على الهوية التركية؛ لسبب واضح هو أن تركيا في الحقيقة ليست تركية، ولا علاقة لها بالترك والأمّة التركية، ولا يشكل الترك فيها نسبة تُذكر، فما سُمّي تركيا عام 1924 كانت موطناً للعرب والسريان والكرد واليونان والأرمن، وأمّا العثمانيون السلاجقة، فهم قبيلة مغولية جاءت من أنتاليا المغولية (هي اليوم جزء من الصين وتقع على الحدود الصينية المنغولية)، وتحولت هذه القبيلة إلى أسرة حاكمة (العثمانيون) لأجزاء واسعة من البلاد والأمم الإسلامية، ومن المعلوم كما تؤكد جميع المصادر التاريخية الإسلامية أنّ ما صار تركيا كان جزءاً من بلاد الروم (الروم ليست الرومان، ولا علاقة لها بروما)، وكان المؤرخون المسلمون يسمّون السلاطين العثمانيين ملوك الروم، ويسمّون البلاد "التركية" بلاد الروم، وظلت هذه التسمية قائمة حتى قيام جمهورية تركيا بقيادة مصطفى كمال، وكان اسم الدولة "العثمانية" نسبة إلى العائلة الحاكمة، كما سمّيت دول العباسيين والأمويين وغيرهم.

ويمكن على سبيل المثال النظر في الخلفيات القومية والمكانية للرؤساء الترك؛ أردوغان جورجي، وحسين رؤوف أباي أول رئيس لجمهورية تركيا شركسي، وعلي فتحي أوكيار مكدوني، وعصمت إينونو كردي، وجلال بايار بلغاري، وشمس الدين كنالتاي أذري، وربما يكون سليمان ديميريل يونانياً، ويلماز من أرمينيا، وتشيلر من أوروبا الشرقية، ويلدرم كردي. ولم تكن الأسرة العثمانية تقدّم نفسها على أساس تركي أو قومية تركية، بل إنّ القومية التركية كانت معادية للعثمانيين، وعلى أيّ حال فإنّ القوميات ظهرت في القرن التاسع عشر ولم تكن من قبل ذات وجود حقيقي، أو رابطاً سياسياً أو إيديولوجياً للأمم. لكنّها صعدت بسرعة، وتحولت إلى مظلة إيديولوجية ملهمة للأمم، ومحركاً فاعلاً وعجيباً للحروب والصراعات والشعور بالتميز والأفضلية وكراهية واحتقار الغير!

"تديين القومية" أو "قومنة الدين" يلحق ضرراً بالغاً بالدين والقومية معاً، فيتحولان إلى مصدر للتعصب والاستعلاء والشعور بالتميز والأفضلية وكراهية الآخر والاشمئزاز منه

لكن ما الخطورة والخطأ في المزج بين الإسلامية والقومية؟ الحال أنّ ذلك يشبه السلاح الكيماوي المزدوج، إذ تتيح للإيديولوجيات القدرة على البقاء والانتشار والاستمرار، وأن تضيف للسياسة محركات ودوافع من خارجها ومن غير بيئتها، فتغيب المصالح والأغراض المؤسسة للحكم والسياسية، وهي العدل والتنمية والازدهار، وتزين الاستبداد والفشل وتبرره. وتجهض الديمقراطية وتخترقها وتبطل مفعولها، فتعمل صناديق الانتخاب لصالح أعدائها (المثال الشهير في التاريخ هو النازية)، وفي ذلك فإنّ "تديين القومية" أو "قومنة الدين" يلحق ضرراً بالغاً بالدين والقومية معاً، فيتحولان إلى مصدر للتعصب والاستعلاء والشعور بالتميز والأفضلية وكراهية الآخر والاشمئزاز منه، وعدم الشعور بالخطأ الديني أو الأخلاقي أو القانوني تجاه التجاوزات والظلم والإساءات.

صحيح أنّه في الحالة الأردوغانية هناك تقدم اقتصادي واستمرار ديمقراطي، لكنّ أردوغان انقلب على نفسه، وتحول إلى دكتاتور وحاكم فردي يستعين بالقومية والإسلامية ليحقق نجاحات (ديمقراطية). وفي المقابل يمكن القول إنّ هذه التحولات في الإسلام السياسي (السلمي منه أو العنيف) نحو القومية تؤشر إلى التراجع التأثيري لفكرة الإسلام السياسي، وأنّها لم تعد تحظى بالجاذبية والثقة التي كانت تتمتع بها من قبل، وتنجح على أساسها في التأثير العام والانتخابات.

مواضيع ذات صلة:

أردوغان.. السياسي المتلبس بالمهدوية

العثمانية الجديدة وأحلام التوسع المستحيلة.. أيّ وهم يعيشه أردوغان؟



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية