أردوغان إذ ينتصر للمال على حساب صحة شعبه

أردوغان إذ ينتصر للمال على حساب صحة شعبه


16/10/2019

منذ أن تعرّضت السّيّدة سيفجي جيبتجي للإصابة بالسّرطان قبل تسعة أعوام، صارت منخرطة في معركتين، واحدة ضدّ المرض وأخرى ضدّ الدّولة التّركيّة. جيبتجي (50 عاماً) تعيش في مدينة ديلوفاسي ضمن مقاطعة كوجالي في تركيا، على بعد حوالي 45 كيلومتراً (28 ميلاً) إلى الشّرق من إسطنبول. وتقول إنّ إقامتها هناك هي السّبب الدّقيق وراء معاناتها من سرطان الغدد الّليمفاويّة.

اقرأ أيضاً: "أردوغان".. وتقلبات السياسة التركية

في الماضي، كانت مقاطعة كوجالي عبارة عن امتداد ساحر من الأراضي الرّيفيّة بين بحر مرمرة والبحر الأسود؛ حيث انتشرت بساتين الكروم والخوخ. واليوم، بالرّغم من ذلك، يُفتقَد الكثير من هذا الانسجام الطّبيعيّ. فقد استقرّت أكثر من 2,000 شركة صناعيّة في المنطقة خلال العقود القليلة الماضية، وبين كلّ ثماني شركات تقريباً ثمّة واحدة أجنبيّة، بما في ذلك شركات ألمانيّة مثل باير وسيمنز.

جيبتجي رفعت دعوى ضدّ الدّولة التّركيّة مقابل مبلغ رمزيّ قدره ليرة واحدة لأنّ وزارة الصّحة تجاهلت تحذيرات بشأن التّلوث

لقد جعل التّصنيع من كوجالي منطقة مزدهرة، مع عدم وجود منطقة أخرى في البلاد، باستثناء إسطنبول، تتمتّع بناتج محليّ إجماليّ أعلى للفرد. إلّا أنّ هذا التّحوّل قد تسبّب أيضاً في إصابة السّكان بالمرض، وفقاً لما كشفته "دير شبيغل" بالتّعاون مع "الشّراكة الاستقصائيّة الأوروبيّة".

الإلقاء العشوائيّ للنّفايات

لا تكاد توجد أيّ منطقة تركيّة أخرى يكون فيها الهواء ملوّثاً كما هو الحال في كوجالي. فالإفساد قد لحق بالأنهار والتّربة، ويرجع ذلك جزئيّاً إلى أنّ بعض المصانع تُفرّغ نفاياتها بشكل عشوائيّ. كما كشفت عيّنات المياه الّتي استخلصتها "الشّراكة الاستقصائيّة الأوروبيّة" من النّهر في ديلوفاسي، وخضعت للاختبار في أحد المعامل الجامعيّة في إسطنبول، عن وجود تركيزات عالية من الحديد والنّيكل والفوسفور، من بين معادن ومواد كيميائيّة أخرى.

يعاني السكان من أمراض مختلفة بسبب التلوث البيئي

وفي عام 2005، كان أنور حمزة أوغلو، وهو أستاذ سابق للطّبّ بجامعة كوجالي، قد اعتمد على دراسة طوليّة لكشف أنّ خطر الوفاة من السّرطان في مسقط رأسه يصل إلى أكثر من ضعفي مثيله في باقي أنحاء البلاد. كذلك، أظهرت دراسة إضافيّة أجراها حمزة أوغلو وفريقه أنّ حليب الأمّ لدى نساء ديلوفاسي يحتوي على آثار من الألمنيوم والزّئبق. وفي عام 2007، أوصت لجنة برلمانيّة تركيّة بإعلان المقاطعة "منطقة كوارث صحّيّة". لكن بالرّغم من التّقارير، استمرّت الحكومة التّركية، برئاسة رئيس الوزراء رجب طيّب أردوغان، في فتح المنطقة أمام الصّناعة.

اقرأ أيضاً:  تركيا: احتجاجات على بيع مصنع الدبابات

ها هي سيفجي جيبتجي تجلس على كرسيّ بلاستيكيّ أمام منزلها في تلال ديلوفاسي، وتعاني صعوبة في التّحدّث، فيما يمسك زوجها أحمد بيدها. وكانت جيبتجي قد رفعت دعوى قضائيّة ضدّ الدّولة التّركيّة مقابل مبلغ رمزيّ قدره ليرة واحدة (0.16 يورو، 0.17 دولار)، مدعية أنّ وزارة الصّحة تجاهلت تحذيراتٍ بشأن التّلوث البيئيّ في مدينتهم. ومن جانبها، رفضت المحكمة الدّعوى.

وتلقي جيبتجي ببصرها نحو المنطقة الصّناعيّة في الوادي أدناه، حيث يجد طريق سريع مساره عبر أبنية سكنيّة شاهقة. والدّخان الكثيف ينجرف نحو السّماء من المداخن. وما من خيار أمام سكّان كوجالي سوى تنفس هذا الهواء السّيئ كلّ يوم.

"كأنّنا إحدى دول العالم الثّالث"

إسماعيل سامي، وهو مؤسّس منظّمة غير حكوميّة تُدعى "إيكوس-دير"، يستقبل الزوّار في مكاتبه في وسط ديلوفاسي. وشأن العديد من سكّان المدينة، يعاني سامي مشكلات في الجهاز التّنفسيّ. ويتمثّل هدف منظّمته غير الحكوميّة في تعريف النّاس بالتّجاوزات البيئيّة الّتي تقوم بها الشّركات في منطقتهم، وأيضاً تنظيم التّظاهرات. يقول: "كأنّنا إحدى دول العالم الثّالث. يمكن لأيّ شخص أن يأتي إلى هنا ويُنتِج على حساب صحّتنا".

اقرأ أيضاً:  كيف توظف تركيا قومية الإيغور في حساباتها السياسية؟

وكانت الشّركات الأولى في كوجالي قد استقرّت خلال السّتينيات، حيث قَيّمت القرب من إسطنبول وطرق الشّحن الّتي يمكن الوصول إليها بسهولة إلى أوروبا. لكن مع صعود أردوغان إلى السّلطة عام 2003، بدأ دخول التّصنيع إلى المنطقة في التّسارع. وتحوّلت الغابات والحقول إلى مصانع ومستودعات، ومنح أردوغان المليارات في شكل إعفاءات ضريبيّة خلال العقد الماضي للشّركات الّتي استقرّت في المنطقة.

تتمتّع الشّركات في كوجالي بضرائب أقلّ ولديها خوف أقلّ بكثير إذا انتهكت القوانين البيئيّة، بل لا تكاد تخضع للعقاب على الإطلاق

اليوم، هناك 13 "منطقة صناعيّة منظّمة" رسميّة في كوجالي، حيث تتمتّع الشّركات ليس فقط بضرائب أقلّ ولكن لديها أيضاً خوف أقلّ بكثير إذا انتهكت القوانين البيئيّة. وفي الواقع، لا تكاد تخضع للعقاب على الإطلاق.

باير وسيمنز ليستا الشّركتين الألمانيّتين الوحيدتين في هذه المنطقة الصّناعيّة. فشركات "بي أي إس إف" وثيسنكرب وشركة الغازات الصّناعيّة ليندي تمتلك مصانع في كوجالي. وقد دعمتها منظّمات مثل البنك الدّوليّ والبنك الأوروبيّ للإنشاء والتّعمير بملايين اليوروات. ولا يكاد أيّ شخص يشعر بالقلق الشّديد إزاء العواقب الصّحّيّة على شعب كوجالي، لا سيّما في أوروبا.

لا تكاد توجد أيّ منطقة تركيّة أخرى يكون فيها الهواء ملوّثاً كما هو الحال في كوجالي

مستقبل قاتم

عندما رغبنا في تعليق على القضيّة، صرّحت شركتا "بي أي إس إف" وسيمنز بأنّ مصانعهما في كوجالي تعتمد المعايير البيئيّة العالميّة وتخضع للتّفتيش بشكل منتظم. ووصفت وثيسنكرب منشأتها هناك بأنّها "جديدة ونظيفة نسبيّاً"؛ لأنّها بُنيت فقط في العام الماضي.

الإفساد لحق بالأنهار والتّربة بمقاطعة كوجالي التركية ويرجع ذلك جزئيّاً إلى أنّ بعض المصانع تُفرّغ نفاياتها بشكل عشوائيّ

ويشعر أهل كوجالي بأنّ حكومتهم، إلى جانب الاتّحاد الأوروبيّ، قد تركتهم في مأزق. ويقول طبيب في ديلوفاسي، لا يريد الكشف عن اسمه خوفاً من فقدان وظيفته: "إنّ الهواء سيئ للغاية بحيث يؤدّي إلى معاناة الجميع من المرض، الأطفال والمسنين على حدّ سواء". وتقول هيريي أوديمس، وهي أمّ شابّة تعاني الرّبو: "فقط تخيّل أنّنا نأتي إلى بلدكم، ونبني مصانع ونتسبّب في تلوّث الهواء. لن تسمحوا أبداً بمثل هذا الشّيء".

وتقوم حكومة أردوغان بإخماد الاحتجاجات البيئيّة في كوجالي بانتظام. كما أصبح من الصّعب على سامي، مدير المنظّمة غير الحكوميّة، حشد النّاس للتّظاهر.

ويستمرّ الاستغلال البيئيّ في التّوسّع في المنطقة. فشركة هيدلبرغ للإسمنت تعمل حالياً على بناء مصنع في كوجالي. وسامي يحاول منع المشروع مستخدماً حيلاً إجرائيّة. لكنّه يدرك تمام الإدراك أنّه بالرّغم من أنّه قد يكون قادراً على تأخير تدمير منطقته، فإنّه لن يكون قادراً على منع ذلك.

 

مينا إير أوغلو، دير شبيغل

مصدر الترجمة عن الإنجليزية: https://www.spiegel.de

 

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية