قنع السلطان محمّد الفاتح بنصيبه من عملية فتح القسطنطينية، والذي تمثل في الكنيسة العظمى آيا صوفيا وجميع مباني المدينة، بينما ترك لجنوده باقي المدينة كلها من أجل الحصول على كافة الغنائم المادية والبشرية. وفي دلالة على حجم الثروات الهائلة التي كانت تحتفظ بها مدينة القسطنطينية في ذلك الوقت، تشير إحدى الحوليات البيزنطية إلى أنه ربما شعر السلطان العثماني بالندم على قراره السابق، بعدما شاهد الكمية الهائلة من الذهب والأموال والأسرى الذين ظفر بهم الجنود الإنكشارية. غير أنّ الرجل رضي في النهاية بخياره السابق: الكنيسة العظمى ومباني القسطنطينية.
اقرأ أيضاً: أردوغان يبحث عن بطولة ثانية على غرار آيا صوفيا… ما علاقة متحف كاريه؟
لقد امتلك السلطان الفاتح مبنى كاتدرائية آيا صوفيا، وقام بتحويلها منذ اليوم الأول إلى مسجد جامع بمقتضى حقّ فتح "العنوة"، حسب المذهب الحنفي الذي يعتنقه الأتراك العثمانيون. ولا توجد ثمّة وثيقة بيع بأيّ صيغة كانت بين السلطان والرهبان الأرثوذكس، لأنه لم يكن يحتاج إلى ذلك ومعه دليله الشرعي الإسلامي. فضلاً عن أنّ آيا صوفيا لم تكن مملوكة لأحد بعينه حتى يستطيع التصرف فيها.
إنّ تعدد المذاهب رحمة للمسلمين غير أنهم لا يسعون إلى إدراك ذلك بشكل حقيقي لأسباب تتعلق بمظاهر أخرى مثل السياسة أو الأعراف والتقاليد، أو ضيق الأفق أو الاستحسان
وعلى ذلك، فإنّ ما سبق أن ذكر من قبل ـ بحماسة شديدة ـ عن وجود وثيقة بيع وشراء، وأنّ الرجل قد قام بشراء الكنيسة العظمى من "حرّ ماله"، فهو مجرّد لغو عاطفي لا يرتقي إلى مرتبة الحقيقة العلمية. إذ لو كانت هناك وثيقة بالفعل، لتمّ الاحتفاء بها منذ زمن بعيد، وسط ملايين الوثائق العلمية التي يزخر بها الأرشيف العثماني الذي يمثل كنزاً علمياً هائلاً لجميع الباحثين في تاريخ الدولة العثمانية بمجالها الواسع في العالم القديم (أوروبا ـ آسيا ـ أفريقيا).
أمّا عن وثيقة وقف الفاتح، فهي صحيحة، وتُعتبر تطوّراً طبيعياً لامتلاكه مبنى الكنيسة، فضلاً عن مجموعة عقارات أخرى قرّر أن يوقفها على عمل الخير إلى الأبد.
اقرأ أيضاً: كاتدرائية آيا صوفيا بين البيزنطيين والسلطان محمد الفاتح
لقد كانت الكنيسة العظمى هي أيقونة المدينة وجائزتها الكبرى، وأكثر مباني القسطنطينية بهاء وفخامة وعراقة، لذا جعل منها السلطان الفاتح مركز الإشعاع الروحي الجديد للإسلام في العاصمة العثمانية الجديدة، التي تحوّلت داخلها أيضاً بعض الكنائس الأخرى والأديرة إلى مساجد في عصر السلطان محمّد الفاتح وخلفائه من بعده. إلّا أنّ هذا لا ينفي عن الرجل أنه أمّن الرهبان على أرواحهم ومكانتهم الدينية، حسب المصادر العثمانية والبيزنطية معاً. وقد قام أوائل العام التالي 1454م بتعيين جيناديوس سكولاريوس، رجل الدين الذي كان معارضاً للاتحاد الكنسي مع كنيسة روما الكاثوليكية، بطريركاً على ما تبقى من السكان البيزنطيين الأرثوذكس بالمدينة.
مرّة أخرى يجب التذكير بأنّ قرار السلطان محمّد الفاتح بتحويل كنيسة آيا صوفيا الأرثوذكسية إلى مسجد قد جاء استجابة طبيعية لمفهومه عن شريعة الإسلام على المذهب الحنفي، ولم يقم بذلك أبداً ردّاً على قيام الأسبان الكاثوليك بتحويل مسجد قرطبة البديع إلى كاتدرائية كاثوليكية عام 1236م. فلم تشر المصادر العثمانية أو المصادر البيزنطية إلى ذلك على الإطلاق.
اقرأ أيضاً: واقعة «آيا صوفيا»: لا دين معتبر... ولا سياسة حكيمة!
لقد كان الأمر أبسط من ذلك؛ لأنّ السلطان العثماني لم يكن يحمل روحاً انتقامية من الأسبان، فضلاً عن أنّ كنيسة آيا صوفيا كانت راعية روحية فقط لسكان ما تبقى من الإمبراطورية البيزنطية وغيرهم من السكان الأرثوذكس في بلاد اليونان وقبرص ومسيحيي البلقان وروسيا. وكانت لا تمثل أيّ أهمية على الإطلاق للأسبان الكاثوليك، الذين كانوا مشغولين آنذاك باستكمال مشروعهم من أجل طرد المسلمين من الأندلس، وهو ما تمّ لهم بعد فتح القسطنطينية بـ4 عقود. بل إنّ البابوية الكاثوليكية في روما لم تمدّ يد العون الحقيقي إلى الأباطرة البيزنطيين المتعاقبين الذين سافروا بأنفسهم إلى الغرب من أجل استجداء المساعدة ضد العثمانيين، بسبب الاختلاف المذهبي ورغبة البابوية في أن تكون كنيسة القسطنطينية تابعة له، وهو الأمر الذي رفضه البيزنطيون على الدوام، كما سبق القول، اعتماداً على تفوّق كنيستهم في الجانب الإيماني، وخوفاً من تكرار الكوابيس السوداء والذكريات المؤلمة التي نتجت عن استيلاء اللاتين الكاثوليك على القسطنطينية الأرثوذكسية طوال الأعوام 1204 ـ 1261م.
اقرأ أيضاً: آيا صوفيا.. هل ينجح أردوغان في طمس الهوية الحقيقية؟
وبالعودة إلى قرار السلطان العثماني محمّد الفاتح بتحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد، سوف نجد ثمّة إشكالية في القرار تستحق الذكر. غير أنه يجب التذكير، قبل أن ندلف إلى مناقشة الحيثيات الشرعية لهذا القرار، بأنّ لدى عامّة المسلمين في عصرنا الحالي نقصاً واضحاً في ما يتعلق بدراسة المذاهب الإسلامية الـ4 وغيرها. ونتيجة لأسلوب التعليم "الأحادي" الذي يتعرّض له غير المتخصصين في علوم الشريعة، نجد أنّ الغالبية قد تربّت على معرفة رأي واحد باعتباره رأي الدين أو رأي الإسلام (بالألف واللام) في العديد من الممارسات الحياتية للمسلمين. يحدث هذا بسبب عدم توافر الثقافة الإسلامية الكافية، أو بسبب التقتير الواضح من لدن المتخصصين، أو نتيجة نقص في معلومات الأئمة وخطباء المساجد...إلخ .
وهذا هو المدخل الذي نراه مناسباً من أجل مناقشة هادئة لقرار السلطان الفاتح بتحويل الكنيسة إلى مسجد. فقد أجمعت كافة المذاهب الإسلامية على عدم جواز التعرّض لكنائس البلاد التي فتحت صلحاً، بينما اختلفت المذاهب نفسها حول موقف كنائس البلاد التي فتحت عنوة، وهو الأمر الذي جرى مع مدينة القسطنطينية.
امتلك السلطان الفاتح مبنى كاتدرائية آيا صوفيا، وحولها منذ اليوم الأول إلى مسجد بمقتضى حقّ فتح "العنوة"، حسب المذهب الحنفي الذي يعتنقه العثمانيون
وحسب ما ذكره العلّامة ابن قيم الجوزية (ت ق 8هـ/ 16م) في "أحكام أهل الذمّة"، عند الحديث عن (مآل معابد أهل الذمّة) و(ما فُتح عنوة)، فإننا نجد رأيين حول فتح العنوة، وليس رأياً واحداً، كما يردّد الجميع دائماً، الأوّل يرى أنه لا يجوز التعرّض للكنائس، حسبما يراه الشافعية والمالكية اعتماداً على ما أقرّ النبي الكريم أهل خيبر فيها، وكما أقرّ الخلفاء الراشدون الكفار على المساكن والمعابد التي بأيديهم، واعتماداً أيضاً على قول ابن عباس رضي الله عنهما: "أيّما مصر مصّرته العجم ففتحه الله على العرب فنزلوه، فإنّ للعجم ما في عهدهم". والرأي الثاني يرى أن يخيّر الإمام أن يترك لهم كنائسهم، أو يقوم بتملكها، حسب ما تقتضيه مصلحة المسلمين، وهو مذهب أبي حنيفة والحنابلة، ودليلهم تقسيم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نصف خيبر وترك نصفها لمصالح المسلمين.
اقرأ أيضاً: تحويل آيا صوفيا إلى مسجد لا يخدم تركيا ولا المسلمين
وهكذا تصبح كلّ الاحتمالات حول الوضع الجديد لكنيسة آيا صوفيا متاحة للتطبيق أمام السلطان العثماني محمّد الفاتح، الذي فضّل تملكها نظراً لاتباعه المذهب الحنفي. ونحن هنا لسنا في موقف التدخل بالطبع في قراره، فهو اجتهاده الذي سوف يتحمل تبعاته، ولكننا نحاول فقط أن نظهر للمثقفين والقرّاء المسلمين، وغيرهم، أنّ القرار الذي اتخذه الرجل ليس هو رأي الإسلام؛ بل هو رأي مذهبي يحقّ للمسلم المعاصر الموجود أيامها، وكذلك الموجود حالياً، أن يوافق عليه، أو أن يتبنّى الرأي المذهبي الآخر دون تثريب عليه على الإطلاق. وليس معنى ذلك أيضاً أننا نتبنّى الرأي القائل إنّ الصلاة في آيا صوفيا من الآن هي صلاة غير مقبولة، حتى لا نفعل مثل البعض ونفتئت على الله ـ سبحانه وتعالى ـ الذي يحقّ له وحده قبول الصلوات ورفضها.
اقرأ أيضاً: أردوغان و"آيا صوفيا"... محاولة لهزيمة التاريخ من أجل انتصار سياسي
إنّ تعدد المذاهب رحمة للمسلمين، كما نعرف، غير أنهم لا يسعون إلى إدراك ذلك بشكل حقيقي لأسباب تتعلق بمظاهر أخرى مثل السياسة أو الأعراف والتقاليد، أو ضيق الأفق أو الاستحسان... إلخ.
تلك كانت دوافع السلطان محمّد الفاتح في تحويل كاتدرائية آيا صوفيا الأرثوذكسية إلى جامع كبير للمسلمين في العاصمة العثمانية الثالثة. وهي المبنى الذي أزيل منه كثير من مظاهر الديانة المسيحية، دون جدوى، وتمّت إضافة العديد من مظاهر الدين الإسلامي كالمنبر والمحراب والمآذن، بالإضافة إلى لوحات كبرى تشير إلى أسماء الرسول ـ محمد صلى الله عليه وسلم ـ والخلفاء الراشدين.
وعلى الرغم من كبر حجم ومساحة جامع آيا صوفيا الجديد، فقد ظهرت الضرورة إلى تلبية الحاجات الروحية للسكان المسلمين الذين تزايدت أعدادهم بالمدينة منذ الفتح، بفضل الدعوات والامتيازات التي قرّرها السلطان الفاتح للسكان الجدد، وهو ما حدا به، وهو الذي حكم مدّة 30 عاماً (1451 ـ 1481م)، أن يأمر ببناء مسجد فخم جديد يحمل اسمه تمّ الانتهاء من عمارته العام 1470م. وطوال القرون التالية قام السلاطين العثمانيون بتشييد المزيد من المساجد الفخمة بالمدينة، مثل مسجد السليمانية نسبة إلى السلطان سليمان القانوني الذي انتهت عمارته العام 1557م، وكذا مسجد السلطان أحمد نسبة إلى السلطان أحمد الأول الذي تم افتتاحه للصلاة العام 1616م. وهو المعروف أيضاً بالجامع الأزرق بمآذنه الـ6، ويقع على مسافة تستغرق عدّة دقائق من آيا صوفيا. وقد تجلّت العمارة العثمانية بشكل عظيم في تلك المساجد وغيرها من المباني ذات الصبغة الدينية التي ملأت جوانب العاصمة العثمانية، وباقي المدن الأخرى.
اقرأ أيضاً: أردوغان يجد طريقاً جديداً إلى القدس يمر عبر آيا صوفيا
وقبل العودة مجدداً إلى الحديث عن مصير آيا صوفيا، ينبغي علينا الإشارة سريعاً إلى أنّ الدولة العثمانية قد مرّت في الربع الأول من القرن الـ20 بآخر أطوار ضعفها السياسي والعسكري والاقتصادي بعد الخسارة في الحرب العالمية الأولى، الأمر الذي زاد من حدة المؤامرات الخارجية عليها، ومن صعود جماعة الاتحاد والترقي. ونتج عن ذلك بزوغ نجم القائد العسكري مصطفى كمال أتاتورك (أبو الترك)، الذي كانت توجهاته السياسية والمجتمعية والثقافية تتعارض مع الإرث العثماني الكلاسيكي، فاستغلّ اعتراف الشعب التركي بدوره الكبير في حرب الاستقلال، وقبض على مقاليد الأمور. وكان من أبرز نتائج تلك المرحلة أن قام أتاتورك بإلغاء الخلافة الإسلامية العام 1924م، قبل أن يقوم بتحويل صفة مبنى آيا صوفيا من مسجد جامع للمسلمين إلى متحف إنساني العام 1935م. وهو الأمر الذي استمرّ حتى الشهور القليلة الفائتة.
اقرأ أيضاً: أردوغان مطالب بالإجابة... لماذا غير موقفه من آيا صوفيا؟
والحقيقة أنه منذ قيام الرئيس أتاتورك بتحويل آيا صوفيا إلى متحف، هناك دعوات لم تخفت في المجتمع التركي المسلم حول ضرورة عودتها إلى مسجد من جديد. وكان من الطبيعي أن ترتفع نبرة تلك الدعوات شيئاً فشيئاً مع بروز الإسلام السياسي التركي في نصف القرن الأخير، عبر حزبي نجم الدين أربكان ثم تلميذه رجب طيب أردوغان، الذي استطاع القفز إلى التحكّم بمصير الدولة التركية عندما أصبح رئيساً للوزراء العام 2003م، ثمّ رئيساً للجمهورية التركية منذ العام 2014م، قبل أن يقوم بالتحوّل إلى النظام الرئاسي عام 2018م.
وعلى الرغم من رفض الرئيس أردوغان في آذار (مارس) من العام 2019م للدعوات المطالبة بإعادة آيا صوفيا إلى مسجد جامع، محذّراً من التداعيات الخطيرة لمثل هذا القرار على تركيا وعلى مساجد المسلمين في الدول غير الإسلامية، وأنه أكثر ذكاء من أن يقع في فخ سياسي مثل هذا، فإنه عاد ـ عبر القضاء التركي ـ ليوافق على هذا القرار، ويقوم بالفعل بإعادة افتتاح آيا صوفيا مسجداً، في احتفال جرى الاهتمام بكلّ دقائقه بشكل استعراضي واضح، عبر صلاة الجمعة في 24 يوليو 2020م.
اقرأ أيضاً: آيا صوفيا: هل تعاني إسطنبول من نقص في المساجد؟
وفي ظلّ ما يعرفه المتابعون للحالة السياسية التركية والوضع التركي الجديد، لا يخفى علينا بالطبع دلالة افتتاح المسجد للصلاة بشكل سريع في هذا اليوم تحديداً، لكي يبدو رسالة واضحة للقارة الأوروبية في ذكرى معاهدة لوزان الثانية التي مزّقت الدولة العثمانية في 24 يوليو 1923م.
وفي ظنّي أنّ نكوص الرئيس أردوغان عن وعده بعدم تحويل آيا صوفيا إلى مسجد إنما مرجعه الى مستجدات داخلية وخارجية، أهمّها خسارة حزبه العام الماضي لأهمّ البلديات في تركيا، مثل إسطنبول وأنقرة وإزمير، وتراجع شعبيته أمام الخلاف مع رفاق مشواره عبد الله جول وأحمد داود أوغلو وعلي باباجان وغيرهم، وكذا الانشقاقات المتتالية في حزبه، الأمر الذي اضطرّه للتحالف مع القوميين الأتراك، في مفارقة تغذيها محاولات حثيثة تهدف إلى إعلاء شأن الدولة التركية في عالم اليوم، عبر العزف على أوتار القومية والوطنية، فضلاً عن أوتار الدين.
اقرأ أيضاً: أردوغان يحوّل "آيا صوفيا" إلى مسجد مجدداً.. لكن هل سيعزز ذلك شعبيته؟
لقد تحالف حزب العدالة والتنمية الإسلامي مع حزب الحركة القومية بعدما فكّ عُرى تحالفه السابق مع إسلاميي حركة فتح الله غولن، فقد عملا معاً طويلاً ضدّ أفكار القومية التركية، بل إنه اتهم الحركة بالوقوف وراء محاولة الانقلاب الأخيرة. كما أنّ وجود ما يُعرف في علم السياسة بفائض القوة لدى تركيا أردوغان، ومحاولتها فرض واقع دولي جديد، قد أدّى الى انغماسها في سياسة خارجية عدائية ضدّ جميع جيرانها تقريباً، في انقلاب واضح على سياسة صفر مشاكل السابقة. كلّ ذلك دفع القوميين إلى مساندة الرجل في طريقه لتحويل تركيا ـ الوطن والقومية ـ إلى قوة كبرى تقوم بعبور حدود جيرانها في سوريا والعراق بشكل متكرر، خاصة بعدما ساهت سياسته في إضعافهما بشكل كبير، وتحاول جاهدة فرض سياستها في منطقة شرق المتوسط.
اقرأ أيضاً: "ازدواجية أردوغان" في الحديث عن آيا صوفيا.. بالإنجليزية منفتح وبالعربية "فاتح"
وهكذا تمكّن أردوغان من خلق واقع جديد داخل تركيا، يرتكز على قيام تحالف إسلامي/ قومي يؤيد بشدة قراره بتحويل آيا صوفيا إلى مسجد مجدّداً. في الوقت الذي يستمرّ فيه أردوغان في استدرار عطف الإسلاميين العرب وإسلاميي العالم التركي في جمهوريات آسيا الوسطى.
وإذا ما حاولنا في النهاية تفسير ظاهرة التعاطف الواسع مع قرار الرجل داخل تركيا وفي العالم العربي، فإنّ ذلك سوف يدفعنا للتنبيه إلى عدّة نقاط ضرورية، لعلّ أهمها تعرّض العرب والمسلمين للظلم التاريخي على نطاق واسع من قبل الدول الأوروبية، عبر ما عُرف بحركة الاستعمار في القرنين الأخيرين، ناهيك عن تأييد تلك الدول وأمريكا للاحتلال الإسرائيلي على حساب فلسطين العربية، وغضّ الطرف عن الجرائم الوحشية للصهيونية. لذا رأى الكثيرون في قرار أردوغان لطمة تاريخية للعالم الأوروبي والأمريكي المسيحي. وهم في حقيقة الأمر لا يدركون أنّ كاتدرائية آيا صوفيا لا تخصّ سوى السكان الأرثوذكس في اليونان وقبرص وروسيا وبعض مناطق البلقان، وأنّ الغرب الأوروبي الكاثوليكي والبروتستانتي لن يتأثر على الإطلاق بتحويلها الى مسجد.
لقد كانت آيا صوفيا أيقونة المدينة وأكثر مباني القسطنطينية بهاء وفخامة لذا جعل منها السلطان الفاتح مركز الإشعاع الروحي الجديد للإسلام في العاصمة العثمانية الجديدة
الأمر الثاني أنّ المؤيدين رأوا في ذلك ردّاً على تحويل العديد من المساجد في البلقان وغيرها إلى كنائس أو مخازن، متناسين أنّ ذلك الأمر كان لاحقاً على تحويل آيا صوفيا إلى مسجد، كما أنه كان ردّاً على سياسة القبضة العثمانية الغليظة في البلقان.
وهناك نقطة أخرى في منتهى الأهمية تشي بأنّ المسلم العادي المعاصر ما يزال يعاني من ضبابية بعض المفاهيم الخاصة ببعض المصطلحات الرئيسة في الديانة المسيحية، مثل (الكنيسة) و(رجل الدين). حيث يظنّ الكثيرون أنّ دور الكنيسة في المسيحية هو المقابل لدور المسجد في الإسلام، وهو حديث غير دقيق على الإطلاق. إنّ مؤسسة الكنيسة في المسيحية لا تعادل (المسجد) في الإسلام، فهي مؤسّسة دينية تُعدّ باختصار شديد بمثابة الممرّ الذي تمرّ منه روح المسيحي التقي إلى الرب، عبر مساعدة رجل الدين. أمّا الإسلام، فليس فيه مؤسسة دينية وليس فيه رجل دين؛ لأنّ العلاقة مباشرة بين المسلم وبين الله ـ سبحانه وتعالى ـ دون وسيط على الإطلاق.
اقرأ أيضاً: كيف ربط الرأي العام الغربي بين أسلمة آيا صوفيا وتهويد الأقصى؟
وفي ظنّي أنّ هذا الأمر هو ما سهّل على كثير من المؤيدين للقرار المساواة في المصير بين الكاتدرائية العظمى، كنيسة المسيحيين الروم الأرثوذكس، وبين أيّ مسجد يتمّ تحويله إلى كنيسة، دون إدراك للفارق الروحي والمعنوي. فالكاتدرائية هي الكنيسة الأم والجامعة وطريق المرور إلى الرب في المسيحية، بينما طريق مرور المسلم إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ يمرّ عبر القلب والوجدان مباشرة دون وسيط.
وحتى لا نطيل، يتبقى أن نرصد أنّ ردّة أفعال المؤيدين لقرار أردوغان - تركاً وعرباً - إزاء الذين عارضوا ذلك القرار كانت فاجعة بحق، فقد عبّرت عن موقف أقلّ ما يوصف بأنه متعالٍ ومتجاوز، فقد جرى وصفهم بأسوأ الصفات التي تتدرّج من اتهامات تبدأ بالعمالة للغرب الصليبي الكافر لتنتهي بإخراجهم من الدين نفسه، ولعمري إنّ تلك ليست أخلاق المسلمين التقاة.
اقرأ أيضاً: كيف يقود تحويل كنيسة آيا صوفيا لمسجد إلى تحرير الأقصى؟
غاية الأمر، وانطلاقاً من أرضية تعدّد المذاهب الإسلامية، فليقبل من يريد هذا القرار دون تجاوز، وليرفضه آخرون دون تجريح. أمّا قبول الصلاة من عدمها، فعلينا التذكير مجدّداً بأنها من شأن الرحمن الرحيم لا من شأن البشر... وعلى الله قصد السبيل.