
غابريال غارسيا ماركيز واحد من كتاب العالم الثالث العظام، ومن أشهر رجالات القارة الأمريكية الجنوبية على الإطلاق، وُلد الكاتب في قرية فقيرة مُعظم سكانها من الأمّيين، ووسط أسرة كبيرة من أب وأم وجدّين و(11) طفلاً.
مرّت بكاتب كولومبيا الكبير أيام صعبة، تَشرّد وسَكِر وضاع، وبحث عن طعامه في القمامة، وقيل له بعد الاطلاع على إحدى مسودات كُتبه: "توقفْ عن الكتابة".
لا أدري ما مصير الأدب لو كان خلا من سحرّية قلم غوبا؟ الحمد لله أنّ ماركيز لم يسمع النصيحة. كم كانت ستنقص الرواية العالمية بغياب "مئة عام من العزلة"، و"الحبّ في زمن الكوليرا"!
لوحة بعنوان موت معلن
في روايته الأقلّ شهرة وليست أقلّ جمالاً: "قصة موت معلن" يتحدى الكاتب الأدب نفسه، ويكتب رائعة قصيرة لا تتجاوز (110) صفحات، لكنّها ليست رواية عادية، بل هي لوحة فنية، كلّ ضربة فرشاة تعرفُ مقاصدها ومكانها، فالجمل القصيرة والسريعة والاقتصاد في الكلمات مع سحرية الوصف للأحداث جعل لكل جملة في الرواية أهميتها، لسنا أمام ثرثرة، فلا يمكن أن نمرر صفحات بأكملها دون أن يكون فاتنا من الأحداث شيء... لا، كان ماركيز يعني تماماً كل حرف يقوله في روايته.
"كان ماركيز يعني كل حرف في روايته؛ فكل جملة قصيرة وساحرة، وكل صفحة مشبعة بالأحداث دون مساحة للثرثرة أو الحشو المجاني."
"موت مُعلن" إحدى روائع ماركيز على الإطلاق، نُشرت عام 1981. الكثيرون عدّوها أفضل أعماله، ووضعوها قبل "الحبّ في زمن الكوليرا" و"مئة عام من العزلة".
تبدأ القصة بقرية كاملة تعرف أنّ أحد مواطنيها "سانتياغو نصار" سوف يُقتل على يد الأخوين "فيكاريو"... سانتياغو شاب من أصول عربية ثري وذكي، يطارده أخوان يعملان في جزارة الخنازير؛ فبعد زواج أختهما بعدة ساعات يُعيدها زوجها لأنّها ليست عذراء، وعندما تُسأل عن الفاعل تقول: سانتياغو.
ورغم أنّ القصة تكشف نهايتها منذ البداية، وتحرق الحدث الرئيسي، إلا أنّه لا يوجد أيّ ملل في السردية، لأنّ ماركيز، بواقعيته الساحرة، يشدّ معه الأنفاس إلى آخر كلمة في الرواية.
"في قصة موت مُعلن، يعرف الجميع أن سانتياغو سيُذبح، ومع ذلك لا أحد يحرّك ساكنًا؛ الكارثة تُشاهد، لا تُمنع."
تدور ثيمات الرواية حول المسؤولية الأخلاقية الجماعية والشرف والصداقة. مركزية الرواية تدور حول أنّه على الرغم من علم أهل القرية بأنّ سانتياغو سيُذبح، لم يتحرك أحد ليُحذّره أو يمنع الأخوين " فيكاريو" من قتله، بل بعضهم متأكد من براءة سانتياغو، وأنّه على الرغم من كثرة علاقاته، لكنّه لم يواقع هذه الفتاة، والغريب أنّ الأخوين كانا يتصرفان ويعلنان في كل مكان يذهبان إليه بأنّهما سيقتلان سنتياغو، كما لو أنّهما أرادا داخليّاً أن يمنعهما أحد، كانا غاضبين نعم، ويريدان أن يثأرا لشرف أختهما، لكنّهما كانا يريدان استعراضاً مُرضياً أمام القرية دون أن يتورطا في الجريمة. وفي النهاية يُذبح سنتياغو بأفظع طريقة وعلى مرأى من أهل القرية، وهو أعزل وبريء وغير مستوعب، لأنّ الجميع توقف ليراقب الحدث.
موت معلن آخر على مرأى من العالم
من هنا أخذت الرواية اسمها الذكي "قصة موت مُعلن"، وتتلاحم هذه القصة تماماً مع ما يحدث في غزة الآن، إذ إنّ هناك البلادة الأخلاقية الجماعية نفسها على المستوى الإقليمي والعالمي، فالجميع يعلم أنّ هناك (2) مليون إنسان حياتهم جميعهم مسألة وقت، وجميعهم أموات بفارق التوقيت، وكل طفل وامرأة ورجل وشيخ يمشي بموته المؤجل، لا أحد منهم يحمل إيديولوجيا، هذا الموت المعلن والمعروف للجميع لا يتحرك لإيقافه أحد، البلادة واللّا-مسؤولية نفسها التي جعلت من كل فرد في قرية سنتياغو يدري أنّها مسألة وقت، ومع ذلك تركوه.
"اثنان مليون إنسان يمشون فوق موتهم المؤجّل، موتهم مُعلن... يُعلن في نشرات الأخبار، ولا تُكتب فيه بيانات الغضب."
هل ستحدث صحوة بعد عِقد أو قرن، ويظهر شخص يفتش في الأحداث وفي ضمائر القتلة وضمائر المتفرجين، كما فعل الراوي لقصة سنتياغو، الذي راح بعد عقدين يستجوب من عاصروا الأحداث؟ هل سيأتي يوم يقدّمون لنا فيه تحرّياً خاصّاً حول هذا الصمت الكوكبي من باحثين نفسيين أو اجتماعيين أو مُنظّرين للحرية والديمقراطية والإنسانية، نعرف من خلاله لماذا صمت العالم بأكمله مدة عامين، وهو يرى حرق البشر أحياء؟ لماذا صمتوا عن قصف المستشفيات وقتل الرُضّع وتدمير أقسام غسيل الكلى والعلاج الكيماوي؟ عن تعرية النساء والرجال؟ عن استهداف الجياع برصاص حي وهم يسيرون ساعات تحت الشمس ويُغمى عليهم من قلة الطعام ويقفون ويواصلون، لكي يصلوا إلى الحصول على كيس طحين ينزفون عليه دماءهم قبل العودة به لأطفالهم؟ هل سيكون هناك علم نفس جديد، يوضح لنا لماذا ينتهج عرق إنساني خط القتل وكأنّ وجوده يتغذى على الدماء على حساب شعب آخر، ويقف العالم ويتفرج على الموت من خلال الشاشات؟
"هل سنشهد يومًا رواية تبحث في ضمائر القتلة والمتفرجين؟ هل سيأتي ماركيز آخر ليسأل: لماذا تركوه يُذبح؟"
هل سنعرف لماذا سكت العالم عن قصف خيمة من القماش بأطنان من المتفجرات؟ ولماذا يضعون المخدرات في أكياس الطحين، ولماذا يحددون مناطق آمنة للنزوح ثم يقصفونها؟ ولماذا يمنعون عبور المساعدات الغذائية وحليب الأطفال؟ ولماذا يقصفون صهاريج المياه ومحطات الكهرباء ويمنعون البنزين؟ إن لم يكن هذا تطهيراً عِرقيّاً فماذا يكون؟
هناك (2) مليون بريء موتهم مُعلن... موتهم مُعلن يا عالم.