
تمتلك جماعة الإخوان مشروعًا ثوريًا تسعى من خلاله إلى إحداث تغيير جذري في المجتمع، حيث تنطلق من رفض الواقع بشكل كبير وتقوم بتوصيفه بأنّه لا يمثل النموذج الإسلامي، وتعمل على استبداله وتأسيس واقع جديد يمثل ذلك المجتمع المنشود، ومن بين أهم الآليات التي تعمل الجماعة على القيام بها من أجل ذلك إعادة تشكيل الوعي بالشكل الذي يتوافق مع أفكارها ويحقق أهدافها ومشروعها، وتسعى الجماعة إلى إعادة تشكيل الوعي من خلال العديد من الوسائل والأدوات مثل الدعوة الفردية وتجنيد الأفراد، والأنشطة العامة التي تنشر من خلالها أفكارها، والكتب والمقالات والخطب، وغير ذلك من وسائل تعمل من خلالها على إيجاد الفرد المسلم والأسرة المسلمة والمجتمع المسلم والحكومة المسلمة وفق ما ورد في أدبياتها.
"تسعى جماعة الإخوان إلى إحداث تغيير جذري في المجتمع عبر تشكيل وعي يتوافق مع أفكارها، مستهدفة الفرد والأسرة والمجتمع والحكومة الإسلامية."
ومع التقدم في أدوات التكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي، ومع تراجع حضور الجماعة بعد صدامها مع الدولة المصرية في العام 2013 الأمر الذي ساهم في تحجيم نشاطها على أرض الواقع؛ عملت الجماعة على توظيف الأدوات التكنولوجية في استمرار حضورها وتأثيرها وتشكيلها لوعي الجمهور، وتوظيفها في صراعها السياسي ومحاولة العودة مرة أخرى إلى المتن بعد أن أفضى بها الصراع إلى الهامش.
أهمية صناعة الوعي
يمثل الوعي مساحة للصراع بين الأطراف والقوى المختلفة، لأنّ من يملك تشكيل الوعي أو الجزء الأكبر منه يمكنه التحكم والسيطرة وتوجيه الرأي العام وتحريك الأفراد في الاتجاه الذي يخدم مصالحه ويحقق أهدافه، فالوعي بما يتضمنه من معرفة ورموز ومعانٍ يمثل صورة من صور رأس المال الذي يمنح من يمتلكه قوة تجعله يسيطر ويهيمن بها على المجتمع، وعملية تشكيل الوعي ممتدة وتتطلب الكثير من الأعوام، ويُستخدم فيها العديد من الأدوات والوسائل المتنوعة، وتعتمد على التكرار والإلحاح المستمر من أجل ترسيخ تصورات وأفكار وقناعات معينة تتوافق مع أفكار وسياسات وأهداف طرف ما، ومن أدوات تشكيل الوعي الإعلام والتعليم والثقافة بأشكالها المختلفة والفن بأنواعه والخطاب الديني ووسائل التكنولوجيا الحديثة. والتيار الإسلامي يمارس عملية تشكيل الوعي منذ أعوام طويلة، خاصة منذ مرحلة السبعينات التي استطاع أن يتمدد فيها وينتشر في المجتمع ويترك أثره على العقل المصري، وقد نجح بدرجة كبيرة في إعادة صياغة الوعي بالشكل الذي يتوافق مع رؤيته للعالم ويخدم سياساته ويحقق أهدافه.
"بعد 2013، ركزت الجماعة على وسائل التواصل الاجتماعي لتوسيع تأثيرها وتشكيل وعي سياسي يخدم أهدافها بعد تراجعها في الواقع السياسي المصري."
ويقدّم لنا عالم الاجتماع الفرنسي غوستاف لوبون من خلال كتابه "سيكولوجيا الجماهير" تفسيرًا لقدرة أحد الأطراف أو القوى على التأثير في الأفراد وتوجيههم بشكل ما، فيرى أنّ سلوك الفرد حين ينخرط في مجموعة ما تربطهم روابط معينة ويتواجدون في ظروف مشتركة ويخضعون لتأثير معين؛ فإنّهم يشكّلون في هذه الحالة جمهورًا نفسيًا يمكن التأثير فيه بشكل كبير من خلال خطاب معيّن يتم توجيهه إليهم دون الحاجة إلى أن يكونوا مجتمعين في مكان واحد، أو أن يعرفوا بعضهم بعضًا، وفي تلك الحالة تُطمس الشخصية الواعية للفرد وتتشكل روح جماعية تتمتع بخصائص محددة، مثل سرعة الانفعال والتهور، وتقلب المزاج والهمجية، والسذاجة والقابلية لتصديق أيّ شيء، وسيطرة اللّاشعور واللّاوعي بشكل أكبر من العقل الواعي، وشدة التأثر بالكلمات والشعارات العامة والصور، وعدم الاقتناع بالمنطق والحجج العقلانية، وإصدار الأحكام المطلقة على الأمور، وعدم الاعتراف بنسبية الأفكار والمواقف، وقوة العاطفة وغياب العقل النقدي، وسهولة الوقوع تحت سيطرة الوهم والخرافة.
كيف توظف الجماعة التكنولوجيا في ذلك
منذ سقوط الجماعة من الحكم ودخولها في صراع مع الدولة المصرية وسعيها إلى إحداث تغيير في الواقع من أجل العودة مرة أخرى بأيّ وسيلة كانت، حتى لو أدى الأمر إلى إحداث الفوضى في المجتمع والإضرار بالدولة، منذ ذلك الحين تعمل الجماعة على استخدام العديد من الأدوات في سبيل ذلك، ومنها توظيف الأدوات التكنولوجية ووسائل التواصل الاجتماعي، فقد أنشأت العديد من المواقع الإلكترونية، والصفحات والمنصات المختلفة على تلك الوسائل من أجل نشر أفكارها ورؤيتها وسرديتها للأحداث منذ 2011، وترسيخ تلك السردية وجعلها الحقيقة المطلقة لدى شريحة من المجتمع، وذلك من أجل كسب التعاطف معها وتبرير ما حدث لها وما قامت به من أخطاء وجرائم، وكذلك من أجل زيادة حجم الغضب والمعارضة في الشارع المصري وتوجيه الرأي العام نحو التغيير الذي تريده.
"المعركة مع الجماعة معركة وعي، لا تُكسب بردّ الفعل فقط، بل بإعادة بناء الحسّ النقدي وتفعيل دور التعليم والثقافة في المجتمع."
ومن خلال وسائل التواصل الاجتماعي تعمل الجماعة على نشر العديد من المعلومات والتحليلات للأحداث والمواقف المختلفة على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في المجتمع المصري، وتهدف الجماعة إلى إحداث حالة من الغضب تجاه النظام الحاكم، وذلك من خلال اعتمادها على الشائعات، وليس بالضرورة أن تكون الشائعات قائمة بشكل كامل على معلومة غير صحيحة أو حدث غير حقيقي، فكثيرًا ما تُبنى على أحداث حقيقية أو معلومات صحيحة ولكن مع إضافة الكثير من التفاصيل غير الحقيقية عليها وإضفاء تحليلات وتفسيرات غير موضوعية الهدف منها خدمة سياسة الجماعة الساعية إلى إحداث الفوضى وتراكم الغضب تجاه الدولة، وتوجيه الرأي العام تجاه تحقيق الأهداف التي تسعى إليها الجماعة.
"تستغل الجماعة الصور والفيديوهات الحقيقية القديمة لخلق تعاطف جماهيري، مدفوعة بضعف الوعي العام وعدم التحقق من السياق الزمني للمادة."
وتتمّ صناعة الشائعة إمّا بشكل تلقائي، وذلك مثلًا عندما يكتنف الحدث بعض الغموض أو عدم توافر معلومات كافية بشأنه؛ فيبدأ الناس في تفسير وتحليل الحدث كلّ حسب فهمه ومصلحته وقناعاته السابقة، وإمّا بشكل ممنهج سواء من خلال أدوات بشرية كأن يقوم أفراد مؤثرون تابعون للجماعة بالنشر على وسائل التوصل الاجتماعي من خلال صفحات شخصية أو عامة أو مجموعات، أو من خلال لجان إلكترونية مكونة من أفراد وظيفتهم النشر بصورة ممنهجة لمواد ترد إليهم من الجماعة تتم صياغتها في صور مختلفة بالشكل الذي يخدم أهدافها، أو من خلال أدوات رقمية أو تكنولوجية مثل "البوتات"، وهي حسابات وهمية تعمل بشكل إلكتروني وتتميز بالسرعة والقدرة على نشر مئات البوستات أو التويتات في اليوم الواحد، وأحيانًا تتم صناعة الشائعة بشكل يمثل خليطًا من الأمرين، بمعنى أن يكتنف الغموض حدثًا معينًا وتُطرح تفسيرات له مع توظيف الجماعة لذلك وإعطاء الحدث الكثير من التفاصيل غير الحقيقية، أو تفسيره وتحليله بشكل غير موضوعي، ولكن بشكل يتوافق مع سياساتها وأهدافها من خلال أدواتها البشرية والرقمية.
"تُصاغ الشائعات بصيغ متعددة — فيديو، صورة، تحليل، قصة — لتناسب مختلف المنصات والفئات، ولتعزيز المصداقية عبر النشر المتزامن والمتنوع."
وتتم صياغة الشائعة في صيغ مختلفة من الممكن أن تكون صورة أو فيديو أو قصة أو تحليلًا سياسيًا أو كوميكس... إلخ، والهدف من ذلك أوّلًا جذب شرائح وفئات كبيرة ومتنوعة من الجمهور، فالشباب يناسبهم مثلًا صيغة تختلف عن تلك التي تناسب الكبار وتختلف عن التي تناسب المرأة أو الأطفال... إلخ، وثانيًا من أجل أن تتناسب الصيغة مع المنصة التي يتم النشر من خلالها، فالصيغة التي تناسب جمهور (الفيسبوك) تختلف عن تلك التي تناسب جمهور منصة (X)، وتختلف عن التي تناسب جمهور (تيك توك)، وثالثًا من أجل إعطاء الشائعة مصداقية، فعندما تُنشر من أكثر من طرف وعلى أكثر من صفحة باهتمامات مختلفة وبأكثر من صورة يكون لها مصداقية أكبر عند الجمهور، ورابعًا من أجل ترسيخها في الذهن من خلال التكرار الذي تتحول معه إلى حقيقة ومُسلّمة.
"الشائعة قد تبدأ من غموض طبيعي، لكن الجماعة تستغل الحدث وتضخمه برسائل مصاغة بذكاء، تُكرر حتى تترسخ كحقيقة لا تقبل التشكيك."
كما يتم أحيانًا استخدام صور وفيديوهات حقيقية لكنّها قديمة من أجل إكساب الشائعة مصداقية، حيث إنّ الصورة الحقيقية أو الفيديو يعطي مصداقية أكبر للخبر أو المعلومة لأنّها في الأساس تمثل مادة حقيقية وليست مزيفة، ويجعل التعاطف والتفاعل معها أكبر، ويتم الاعتماد هنا على عدم وعي الناس وعدم القدرة عند الكثيرين على التمييز بين الصور من حيث تاريخها ومكانها والحدث الخاص بها، ومن ثم تفعل تلك الصورة أو الفيديو القديم تأثيرًا كبيرًا جدًا يخدم الهدف الذي تسعى إليه الجماعة من وراء الشائعة، وكثيرًا ما تستخدم الجماعة مؤثرات نفسية ودينية من أجل ترسيخ الشائعة بصورة أكبر، كأن يتم ربطها بمشاعر خوف أو غضب أو أمل... إلخ، أو بمؤثرات دينية كأن يتم تصوير الأمر على أنّه تطبيق لنص أو أمر ديني، أو مرتبط بتفسير أو قراءة أو رأي فقهي ما، فهذه المؤثرات تعطل الحسّ النقدي وتجعل قبول الشائعة أسهل وأثرها أعمق.
خاتمة
هناك مناخ يساعد على انتشار الشائعات وتزييف الوعي بدرجة أكبر، هذا المناخ يتمثل في وجود حالة من الاستقطاب السياسي أو الديني في المجتمع؛ لذلك تأتي ضرورة العمل على التقليل من تلك الحالة على رأس الأدوات التي يمكن من خلالها الحد من أثر الشائعات، أيضًا ينبغي المواجهة ليس فقط من خلال البيانات الرسمية للدولة، ولكن أيضًا من خلال استخدام الأدوات والآليات نفسها التي يتم بها نشر الشائعات وتشكيل الوعي، وينبغي أن يتم ذلك بشكل استباقي، فتشكيل الوعي هو محل الصراع الأوّل الذي بناءً عليه يمكن لجهة ما أو طرف من الأطراف السيطرة على المجتمع وتوجيه أفراده في الاتجاه الذي يريد، والدولة في إطار صراعها مع الإخوان والجماعات الدينية الأخرى لا يمكن أن تكون دومًا في مربع ردّ الفعل، أيضًا الأهم من ذلك في إطار مواجهة الجماعات الدينية في صراع الوعي هو العمل على إكساب الأفراد الحسّ النقدي من أجل القدرة على التمييز بين الصحيح والخطأ، والقدرة على التفسير والقراءة السليمة للأحداث، من أجل تقليل الوقوع تحت سيطرة الشائعات والتحليلات غير الموضوعية، وذلك من خلال التعليم والثقافة وتفعيل دورهما في المجتمع.