سلام بلا خرائط مستعارة.. رؤية إماراتية للشرق الجديد

سلام بلا خرائط مستعارة.. رؤية إماراتية للشرق الجديد

سلام بلا خرائط مستعارة.. رؤية إماراتية للشرق الجديد


06/07/2025

هاني سالم مسهور

منذ مؤتمر مدريد، مرورًا بأوسلو ووادي عربة، ووصولًا إلى اتفاقيات إبراهيم، لا يزال الشرق الأوسط يُدار كمنطقة مؤجلة السلام، مؤجلة الحل، مؤجلة المصير. وخلال أكثر من ثلاثة عقود، تعثرت كل المحاولات لا لأنها كانت خاطئة بالضرورة، بل لأن أحدًا لم يمتلك شجاعة الجملة الكاملة. لطالما كُتب السلام مبتورًا، ولطالما حُذفت منه فلسطين حينًا، وسُحبت منه الضمانات حينًا آخر، وذُبح في تفاصيله على موائد الهوامش.

وفي هذا السياق تبرز مقالة لانا نسيبة المنشورة مؤخرا في الفايننشال تايمز كوثيقة سياسية نادرة، لا لأنها تحلل، بل لأنها تجرؤ. تجرؤ على تسمية التوقيت: “الفرصة التي لا تتكرر إلا مرة في الجيل،” وتجرؤ على المطالبة بدور أميركي قيادي لا يكتفي بإدارة الأزمة، بل يقود إلى إنهائها. تكتب نسيبة بوعي إستراتيجي، لا نيابة عن دولة فقط، بل نيابة عن منطقة بأكملها تبحث عن مخرج من دوامة دم بدأت منذ أكثر من قرن، ولم تهدأ.

فحوى المقال ليس دعوة إلى سلام خادع، بل إعادة تعريف لطبيعة الصراع وحدود المسؤولية. فعندما تكتب ممثلة السياسة الإماراتية عن أن “المنطقة لم تعد تحتمل خرافة الحلول الجزئية،” فهي تقول ضمنًا إن عصر تقطيع الملفات، وشراء الوقت، وحصر التفاوض داخل غرف معزولة عن الواقع قد انتهى. لقد صمدت الإمارات في اختبار الواقعية: أبرمت اتفاقات سلام، وبنت جسورًا، لكنها لم تساوم يومًا على حق الفلسطينيين في دولة قابلة للحياة. بل إنها، وعلى عكس كثيرين، ربطت السلام باستقراره، لا بفراغه.

المقال لا يطلب من العالم أن يصدق حسن نوايا الشرق الأوسط، بل يطلب من الشرق الأوسط أن يصدّق واقعه، أن يعترف بأن الصراع، كما هو اليوم، لم يعد قابلًا للإدارة، وأن من يعتقد أن بإمكانه التحكم بمسارات النار من تل أبيب إلى جنوب لبنان إلى غزة، يراهن على وهم.

ترامب، بما له وما عليه، رجل صفقة. لكنه أيضًا رجل لحظة. ولعل المفارقة أن لحظة الشرق الأوسط تأتيه في ولايته الثانية، بعد أن باتت خريطة الصراعات أكثر تعقيدًا، وبعد أن تحولت الحروب بالوكالة إلى صراعات ميدانية مباشرة، من البحر الأحمر إلى الجولان، ومن نطنز إلى النقب.

تكتب لانا نسيبة بلهجة تقول كل ما لم يُقل منذ زمن طويل: إن الزمن لم يعد في صالح أحد. لا إيران قادرة على تصدير الثورة كما كانت تفعل، ولا إسرائيل قادرة على حصد الأمن من مستوطنات معلقة فوق هشيم سياسي. أما العالم العربي، فقد تعب من الترميم، وبدأ يطرح سؤال إعادة التأسيس.

حين تتحدث الإمارات عن هندسة أمنية واقتصادية جديدة، فهي لا تعرض “مقايضة”، بل تقدم رؤية: أن لا أمن دون ربطه بالتنمية، ولا سلام دون ربطه بالعدالة. أن لا نفع لاتفاقيات ما لم تكن مدعومة بقرارات واقعية تعالج جذور الأزمات: من تفكيك البنى الميليشياوية إلى إنهاء الاحتلال، ومن ترسيم الحدود إلى الاعتراف بالشعوب.

تاريخيًا، لم تكن الإمارات في موقع من يكتب خريطة السلام. لكنها اليوم تكتب بتوازن من امتلك القوة دون أن يتنكر للمبدأ. فالدولة التي استطاعت أن تنتقل من هامش التسويات إلى مركز القرار الإقليمي، تفهم جيدًا أن السلام لا يُهدى، بل يُبنى، أن الاستقرار لا يتحقق بالتمني، بل برؤية متكاملة تحمي الحاضر من ارتدادات الماضي.

السلام ليس نزهة أخلاقية، بل حاجة وجودية. وإذا كان بعض العالم العربي قد استُهلك في فصول المواجهة والصراعات العبثية، فإن المرحلة الجديدة تتطلب مقاربة أكثر جرأة، تقطع مع منطق الانتظار، وتبادر إلى تشكيل نواة صلبة لعالم عربي جديد، يشبه طموحات شعوبه، لا أوهام المتقاتلين على الأطلال.

ومثلما كتب سايكس وبيكو خرائطهما فوق الرمال، يُطلب اليوم من المنطقة أن تكتب خرائطها فوق الأمل. وأن تعي أن تأجيل السلام هو تأجيل للانفجار، لا لتفاديه.

ما يُطلب من ترامب ليس كثيرًا إذا قورن بما يطلبه التاريخ. فالمنطقة لا تريد رئيسًا أميركيًا منحازًا، بل رئيسًا يمتلك الشجاعة ليقول لإسرائيل إن استقرارها يبدأ من انسحابها، ويقول لإيران إن نفوذها لا يُبنى على فراغ الدول. ويقول للعالم إن السلام ليس مشهدًا بروتوكوليًا، بل بنية مستدامة.

ربما كان هذا المقال هو أخطر ما كُتب من داخل بيت القرار العربي منذ سنوات. لا لأنه يؤيد أميركا، بل لأنه يطالبها بفعل ما لم تفعله من قبل: أن تقود إلى سلام شامل، لا إلى إدارة نزاع مزمن.

لسنا بحاجة إلى جولات تفاوض جديدة، بل إلى مفاوضات تُبنى على خرائط جديدة: خرائط تعترف بأن الفلسطيني لا يمكن أن يُنسى، والسوري لا يمكن أن يُقصى، والعراقي لا يمكن أن يُفتت. خرائط تعيد الاعتبار للدولة، وللمركز، وللحق.

لقد اعتادت المنطقة أن تُدار من خارجها. لكن من يقرأ مقال لانا نسيبة اليوم يفهم أن اللحظة التاريخية قد تنبع من الداخل؛ من عاصمة عربية تؤمن بأن الدبلوماسية ليست
صناعة توازنات فقط، بل أداة هندسة للسلام.

سيُقال إن ترامب لن يغيّر. وقد لا يفعل. لكن ماذا إن وجد رئيسًا عربيًا واحدًا، أو ثلاثة، يشاركونه نفس الرؤية؟ ماذا إن وُلدت كتلة إقليمية عقلانية تؤمن بأن التفاوض ليس ضعفًا، بل ذكاء؟

في زمن تعيد فيه أوروبا تعريف أمنها، وتستيقظ آسيا على دورها، وتعيد أفريقيا صياغة تحالفاتها، لم يعد مسموحًا للشرق الأوسط أن يبقى مرتهنًا بخرائط الموت. لقد حان وقت الخروج من ظلال التاريخ.

ربما لا ينجح المسار. ربما تتغلب الضغوط. ربما تعود الميليشيات لتسرق اللحظة. لكن يكفي أن يقول صوت عربي واحد، من داخل السلطة، من قلب الدبلوماسية، من نافذة نيويورك أو أبوظبي أو الرياض: “إننا جاهزون للسلام العادل، فمن يجرؤ على الجواب؟”

هذه ليست لحظة تسوية. هذه لحظة تأسيس. وهذا ليس زمن انتظار المبادرات، بل زمن صناعتها.

ولهذا فإن من واجب الصحافة العربية، والنخب السياسية، أن تواكب هذه اللحظة بخطاب يرتقي إلى حجم الفرصة. لا يكفي أن نتفرج، ولا أن نصفق، بل أن نضع أوراقًا على الطاولة، وأن نعيد تعريف النخبة بوصفها فاعلًا، لا شاهدًا.

منذ سايكس وبيكو إلى أوسلو، دُفنت الكثير من الفرص بسبب غياب الجرأة في اللحظة المناسبة. وقد لا تكون هناك لحظة أكثر نضوجًا من الآن. ولذلك، فإن السؤال ليس: هل نثق بترامب؟ بل: هل نثق بأنفسنا لنقود التغيير، إذا قرر هو أن يفتحه؟

العرب




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية