
تشكل جماعة الإخوان المسلمين تحدياً أمنياً وسياسياً كبيراً في أوروبا، وقد اتسع نفوذها على مر العقود لتصبح واحدة من أبرز التنظيمات الإسلاموية المتطرفة التي تعمل في القارة بفضل شبكاتها المعقدة التي تعمل تحت غطاء منظمات ومؤسسات خيرية واجتماعية ودينية. ونجحت الجماعة في الاندماج داخل المجتمعات الأوروبية واستغلال البيئة الديمقراطية في تعزيز وجودها، ممّا أدى إلى زيادة المخاوف الأمنية حول تأثيرها على الاستقرار الاجتماعي والسياسي داخل تلك الدول.
ويخشى العديد من الحكومات الأوروبية من أنّ الجماعة لا تقتصر أنشطتها على العمل الخيري والاجتماعي، بل تتورط في أنشطة سياسية وإيديولوجية تهدف إلى التأثير على صناع القرار في أوروبا، وترويج خطاب إيديولوجي يعزز الانقسام المجتمعي بين المسلمين وغير المسلمين هناك، ولذلك زادت في الآونة الأخيرة الدعوات لمواجهة أنشطة التنظيم في أوروبا واتخاذ إجراءات قانونية وأمنية للحدّ من تأثيره.
خريطة التمويل
تعتمد جماعة الإخوان المسلمين في أوروبا على مجموعة متنوعة من مصادر التمويل التي تتيح لها مواصلة أنشطتها والتمدد داخل المجتمعات الأوروبية، ومن أبرز هذه المصادر التبرعات الخيرية، حيث تستغل الجماعة شبكاتها الواسعة في أوروبا لجمع التبرعات من الأفراد والمؤسسات من خلال المساجد أو الجمعيات الخيرية التي تعمل تحت ستار تقديم المساعدات الإنسانية. وتلك الأموال التي يتم جمعها غالباً ما تكون موجهة لدعم المشروعات الدينية مثل بناء المساجد والمدارس الإسلامية، بالإضافة إلى الأنشطة الاجتماعية والخيرية المعلنة، إلا أنّ هناك شكوكاً متزايدة حول استخدام تلك الأموال في تمويل أنشطة سياسية أو دعم إيديولوجيات متطرفة داخل المجتمعات الأوروبية.
وتعتمد الجماعة على الجمعيات والمراكز الإسلامية المنتشرة في العديد من الدول الأوروبية التي تعمل تحت مظلة تنظيم الإخوان، وتشكل هذه المراكز والجمعيات واحدة من أهم القنوات التي تستخدمها الجماعة للحصول على التمويل، حيث تنظم تلك الجمعيات فعاليات دينية وثقافية واجتماعية تسهم في جمع الأموال، سواء من خلال اشتراكات الأعضاء أو التبرعات المباشرة. بالإضافة إلى ذلك تلعب هذه المراكز دوراً كبيراً في تعزيز تواجد الجماعة داخل المجتمعات المسلمة في أوروبا، وتقدم خدمات تعليمية واجتماعية تسهم في جذب المزيد من الأتباع وتعزيز تأثير الجماعة في تلك المجتمعات من خلال خطاب ديني يوائم الأوضاع الاجتماعية في أوروبا، لكنّه يحمل في طياته الإيديولوجية الإخوانية التي تدعو إلى بناء مجتمعات إسلامية على النمط الذي تؤمن به الجماعة.
من ناحية أخرى يُعدّ الدعم المالي الخارجي أحد أهم مصادر تمويل جماعة الإخوان في أوروبا، وقد تلقت الجماعة على مدار الأعوام الماضية دعماً مالياً من دول وحكومات في الشرق الأوسط مثل قطر وتركيا، وهذه الدول قدمت تمويلات سخية للجماعة في إطار دعمها للحركات الإسلامية التي تتماشى مع توجهاتها السياسية والإقليمية، وهذا الدعم الخارجي أسهم في تمكين الجماعة من تأسيس بنية تحتية مالية قوية داخل أوروبا، حيث تمكنت من بناء شبكات معقدة من المؤسسات والجمعيات التي تعمل بشكل مستقل عن الرقابة الأوروبية، ممّا يجعل من الصعب تتبع مصادر التمويل الحقيقية أو الغرض الذي تستخدم فيه تلك الأموال.
إلى جانب ذلك تستفيد الجماعة من نظام التبرعات الخاصة والشبكات غير الرسمية لجمع الأموال من الجاليات المسلمة الكبيرة التي تعيش في أوروبا، تلك التبرعات تأتي بشكل رئيسي من رجال أعمال وشخصيات مؤثرة تنتمي إلى تلك الجاليات، وتسهم في توفير تمويل مستدام لأنشطة الجماعة. وعلى الرغم من أنّ العديد من هذه التبرعات يتم تقديمها بطرق مشروعة وتحت غطاء العمل الخيري، إلا أنّ هناك دلائل تشير إلى أنّ بعضها يُستخدم لدعم أنشطة متطرفة أو تعزيز النفوذ السياسي للجماعة داخل المجتمعات الأوروبية.
إجراءات أوروبية صارمة ضد الإخوان
مؤخراً اتخذت عدّة دول أوروبية إجراءات صارمة لمواجهة تأثير جماعة الإخوان المسلمين، والحدّ من مصادر تمويلها، فقد بدأت بعض الدول مثل فرنسا وألمانيا والنمسا في تطبيق قوانين تهدف إلى مراقبة التمويل الأجنبي للجمعيات الإسلامية وضمان أنّ الأموال التي تتدفق إليها لا تُستخدم لأغراض سياسية أو دينية متطرفة، وهذه الإجراءات تضمنت أيضاً تشديد الرقابة على الجمعيات والمراكز الإسلامية التي يشتبه في ارتباطها بجماعة الإخوان وإغلاق بعض تلك الجمعيات التي تبين أنّها تمول أنشطة غير قانونية، أو تتورط في دعم التطرف، وتم فرض قيود على الأنشطة التي تنظمها تلك الجمعيات، مثل المحاضرات الدينية أو الدروس التعليمية التي قد تروج لأفكار متطرفة أو تعمل على تجنيد الشباب للانضمام إلى الجماعة.
علاوة على ذلك بدأت الحكومات الأوروبية في فرض مزيد من الشفافية فيما يتعلق بالتبرعات المالية التي تتلقاها الجمعيات الإسلامية، وتم تشديد القوانين المتعلقة بالإبلاغ عن التبرعات الكبيرة ومصادرها، بالإضافة إلى فرض عقوبات صارمة على الجمعيات التي لا تلتزم بالقوانين المالية الجديدة، وهذه الإجراءات تهدف إلى قطع التمويل الذي يصل إلى الجماعة من الخارج ومنع استخدام الأموال في دعم الأنشطة التي تشكل تهديداً للأمن القومي الأوروبي.
في هذا السياق يرى لورينزو فيدينو مدير برنامج التطرف في جامعة جورج واشنطن، وأحد أبرز الباحثين في شؤون الإسلام السياسي، أنّ "جماعة الإخوان المسلمين في أوروبا اعتمدت لعقود على شبكة معقدة من الجمعيات الخيرية والمراكز الإسلامية التي مكنتها من العمل تحت غطاء شرعي وقانوني"، ويضيف فيدينو أنّ "هذا الوضع جعل من الصعب على السلطات الأوروبية تتبع أنشطتها أو معرفة مصادر تمويلها الحقيقية، لكن في الأعوام الأخيرة بدأ يتضح للجميع أنّ هذه الجمعيات لا تعمل فقط في المجال الخيري، بل تروج لأجندة سياسية وإيديولوجية تهدف إلى تعزيز نفوذ الجماعة في أوروبا."
من جهة أخرى، يؤكد صامويل شويني الباحث في المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات أنّ "التحدي الأكبر الذي تواجهه الدول الأوروبية في التعامل مع الإخوان المسلمين هو قدرتهم على الاندماج في المجتمعات الأوروبية، واستغلال القوانين الديمقراطية لتعزيز نفوذهم". ويشير إلى أنّ الجماعة طورت أساليب تمويل معقدة تجعل من الصعب تفكيك شبكاتها بالكامل، لكنّه يرى أنّ "الإجراءات القانونية الجديدة التي تتبنّاها بعض الدول الأوروبية، كفرض رقابة مشددة على التمويل الأجنبي وإغلاق الجمعيات المشبوهة، قد تكون خطوة مهمة في الحد من تأثير الجماعة".
وأشار هانس جورج ماسن الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات الداخلية الألماني (BfV) إلى أنّ "جماعة الإخوان المسلمين تشكل تهديداً طويل الأمد على الاستقرار الاجتماعي والسياسي في أوروبا"، مضيفاً أنّ "التهديد ليس بالضرورة في التحول إلى العنف، بل في السعي إلى بناء مجتمع موازٍ يعتمد على إيديولوجية الجماعة المتشددة". ويرى ماسن أنّ الإجراءات التي تتخذها ألمانيا وعدة دول أوروبية أخرى قد بدأت تؤتي ثمارها، حيث تم إغلاق عدد من الجمعيات المرتبطة بالجماعة، كما تم تحجيم أنشطتها في بعض المدن الألمانية.
كيف أثرت الإجراءات الأوروبية على أنشطة التنظيم؟
تأثير هذه الإجراءات بدأ يظهر بشكل ملحوظ على أنشطة الجماعة في أوروبا، وأصبح من الصعب على الجماعة الحصول على تمويلات كبيرة كما كان في السابق، ممّا أدى إلى تراجع بعض الأنشطة الدعوية والسياسية التي كانت تقوم بها الجماعة، كما أنّ إغلاق بعض الجمعيات والمراكز التابعة لها أدى إلى تقليص قدرتها على التواصل مع المجتمعات المسلمة وتجنيد المزيد من الأتباع من الجيل الجديد من المسلمين في أوروبا. علاوة على ذلك فإنّ التشديد في الرقابة المالية قد أجبر الجماعة على اللجوء إلى وسائل غير رسمية لجمع الأموال، ممّا يزيد من المخاطر الأمنية التي تواجهها، ويزيد من احتمالات تعرضها لتحقيقات قانونية وأمنية أوسع نطاقاً.
ومع استمرار الضغوط الأوروبية على جماعة الإخوان، من المتوقع أن يواجه التنظيم تحديات متزايدة في الحفاظ على تواجده في أوروبا، خاصة مع تنامي الدعوات إلى حظر أنشطته بشكل كامل في بعض الدول الأوروبية التي ترى في الجماعة تهديداً لأمنها واستقرارها الاجتماعي والسياسي. ومن جهة أخرى قد تلجأ الجماعة إلى محاولة تغيير استراتيجيتها في أوروبا من خلال إعادة ترتيب صفوفها والاندماج في هيئات أخرى أو تغيير واجهاتها التنظيمية، لكن يبقى السؤال مفتوحاً حول مدى قدرتها على الاستمرار في ظل هذه الضغوط.