
في محاولة واضحة لتبييض وجه جماعة الإخوان، وإعادة تموضعها كطرف سياسي شرعي بعد أعوام من العنف والتحريض على الدولة المصرية والمنطقة العربية، أطل علينا القيادي التنظيمي، رئيس المكتب السياسي بجماعة الإخوان (حلمي الجزار) في حلقة خاصة، ببرنامج "بلا قيود"، على قناة (بي بي سي)، أطل بالعديد من الرسائل التي أراد هذه المرة توضيحها كاملة مستهدفاً الشارع المصري بالأساس، من خلال منصة لا ترتبط بالإخوان بشكل مباشر، مهادناً السلطة إلى حد بعيد، في تحول لافت لموقف الإخوان من الدولة المصرية.
إخفاء النوايا
تصريحات الجزار جاءت في مجملها محاولة لتلميع صورة الجماعة وتبرير سياساتها دون الاعتراف بجوهر المشكلة، الذي يتمثل في طبيعة التنظيم ذاته وأهدافه، وكالعادة حاول الجزار تقديم الجماعة باعتبارها ضحية، وسعى إلى الترويج للحوار السياسي، في نداء مكرر ومرفوض من جانب الدولة المصرية كأداة للتسوية، ولا تخرج دعوة الجزار بحسب مراقبين عن كونها خدعة تهدف إلى كسب التعاطف الدولي والتغطية على تاريخ الجماعة في استخدام العنف لتحقيق أهدافها، خاصة في الفترة التي أعقبت السقوط المدوي للتنظيم عن الحكم في مصر في 2013، إثر ثورة شعبية كاسحة.
حاول الجزار تقديم الجماعة كأنّها تسعى للمصالحة والسلمية مع الدول العربية، إلا أنّه لم يقدم اعترافاً حقيقياً بجرائمها أو اعتذاراً عنها، ولم تعكس تصريحاته نية حقيقية لدى التنظيم للتخلي عن أجندته التخريبية الحقيقية، التي ترتكز على الوصول إلى السلطة بأيّ وسيلة، بما في ذلك العنف في فترات سابقة، كما ظهر في صراعهم مع الدولة في مراحل معينة لعل أقربها الفترة التي أعقبت ثورة حزيران (يونيو) في مصر.
وهنا أعاد الجزار تدوير تصريحاته القديمة بأنّ "الإخوان لا يسعون للصراع على السلطة، بل يهدفون إلى تحقيق تسوية سياسية تعود بالنفع على جميع الأطراف في مصر"، في مغالطة حاول الجزار من خلالها وضع جماعة الإخوان كطرف شرعي في المعادلة السياسية المصرية وليست تنظيماً محكوماً بالإرهاب، ومنبوذاً شعبياً ورسمياً.
وصرّح بأنّ الجماعة لا تسعى لتقديم مبادرات جديدة، بل تبحث عن حلول لإنهاء ما وصفه بالانقسام المجتمعي الحاد، وألمح إلى التشكيك في جدوى استمرار حالة العداء بين الجماعة والمؤسسات أو التعامل مع التنظيم باعتباره "إرهابيّاً"، ودعا إلى مقاربة سياسية شاملة تشارك فيها كل القوى السياسية، في دعوة مباشرة للقيادة السياسية المصرية إلى أن تكون شريكاً في الحوار، ممّا يعكس تحولاً كاملاً في موقف الجماعة من التعامل مع الدولة ومؤسساتها واعترافاً بشرعيتها الكاملة.
التهديد للأمن القومي
دعوة الجزار، وإن كانت تحمل في ظاهرها مضامين جيدة للتصالح والسلمية بين الإخوان والدولة في مصر، إلا أنّها في جوهرها لا تعدو كونها مناورة إخوانية جديدة لتقويض الدولة من الداخل.
ويرى مراقبون أنّ الجماعة تحاول استغلال الوضع الراهن للعودة إلى المشهد السياسي في مصر، وتستغل الديمقراطية لتحقيق مكاسب تكتيكية، وعندما تتمكن من السيطرة، تعمل على تقويض النظام من خلال نشر أفكار إيديولوجية تهدد الأسس الديمقراطية للدولة، وهذا ما دفع عدة دول مثل مصر والسعودية والإمارات إلى تصنيف جماعة الإخوان تنظيماً إرهابياً، مستشهدين بتورطها في دعم حركات مسلحة وإثارة الفوضى السياسية.
المراجعات الفكرية كغطاء
الجزار تحدث عن عقد مؤتمر لمراجعة أفكار الجماعة ومسيرتها التاريخية، ممّا يعطي انطباعاً بأنّ الجماعة تسعى لإصلاح داخلي، غير أنّ هذه المراجعات مجرد واجهة لتهدئة الرأي العام الدولي والمناوئين للجماعة، والغرض من هذه المراجعات هو التهرب من تحمل المسؤولية عن الأعمال الإرهابية التي تم ارتكابها باسم الإخوان في دول مختلفة، خاصة بعد فشلهم في الاحتفاظ بالسلطة في مصر عقب ثورة 30 حزيران (يونيو) 2013.
وخلال حديثه أعلن أنّ جماعة الإخوان المسلمين ستعقد مؤتمراً بمناسبة مرور (100) عام على تأسيسها، وسوف تجري مراجعات شاملة لأفكارها ومسيرتها، وقال إنّ هذه المراجعات ستكون بمثابة فرصة للجماعة للاعتراف بأيّ أخطاء محتملة ارتكبتها في الماضي. وهو ما يحدث للمرة الأولى منذ سقوط الإخوان عن الحكم في مصر، وبالرغم من أنّ التصريح يحمل اعترافاً ضمنياً بأخطاء التنظيم، إلا أنّ الجزار لم يتحدث صراحة عن موجات العنف التي اجتاحت مصر في أعقاب الثورة، ممّا يجعل مسألة المراجعات مجرد غطاء لإعادة التنظيم بأفكاره المتطرفة وعملياته المسلحة.
الخلافات الداخلية
على الرغم من اعتراف الجزار بوجود خلافات داخل الجماعة، إلا أنّه حاول بقدر كبير تجميل الصورة، ووصفها بأنّها خلافات حول تفسير اللوائح الداخلية، مؤكداً أنّها في طريقها إلى الانحسار، وأوضح أنّ هذه الخلافات لا تمسّ المبادئ الأساسية للجماعة، مشدداً على وحدة الهدف بين جميع الأعضاء، وفي هذا السياق سعى الجزار إلى طمأنة أنصار الجماعة بأنّ هذه الخلافات ليست تهديداً وجودياً لها، وأنّ التنظيم يظل ملتزماً بنهجه.
وفي الحقيقة تواجه جماعة الإخوان تصدعات عميقة تتعلق بالاستراتيجيات والسياسات القيادية، وهذه الخلافات لا تقتصر فقط على التباين في الرؤى السياسية، بل تشمل أيضاً الصراعات حول توزيع السلطة وتأثير الأجيال المختلفة داخل الجماعة.
الجماعة تحاول استغلال الوضع الراهن للعودة إلى المشهد السياسي في مصر، وتستغل الديمقراطية لتحقيق مكاسب تكتيكية، وعندما تتمكن من السيطرة، تعمل على تقويض النظام من خلال نشر أفكار إيديولوجية تهدد الأسس الديمقراطية للدولة، وهذا ما دفع عدة دول مثل مصر والسعودية والإمارات إلى تصنيف جماعة الإخوان تنظيماً إرهابياً، مستشهدين بتورطها في دعم حركات مسلحة وإثارة الفوضى السياسية.
وتعكس التصريحات المتداولة على لسان قادة التنظيم منذ أعوام أنّ هناك انقسامات واضحة بين الأعضاء التقليديين الذين يفضلون نهجاً أكثر تحفظاً، وأولئك الذين يدعون إلى التغيير والتحديث، وهذا التباين يعكس أزمة قيادة داخلية تؤثر على فعالية الجماعة في التفاعل مع التحديات الإقليمية والدولية، ممّا يساهم في إضعاف قدرتها على تحقيق أهدافها السياسية وإدارة أزمات المرحلة الراهنة.
التقارب المصري التركي
بدا واضحاً في حديث الجزار، بسؤاله عن موقف التنظيم من التقارب المصري التركي الأخير، الالتزام بحد كبير من الدبلوماسية، أو المراوغة، إن صحّ التعبير، ولم يظهر انطباعات حقيقية حول موقف الجماعة، الأمر الذي يتفق مع تصريحات سابقة لمصادر من داخل التنظيم أكدت على ورود تعليمات مشددة للإخوان بعدم التعرض لمسألة التقارب من قريب أو بعيد والتزام الصمت حيال الأمر.
وقال الجزار معلقاً على التقارب: "نبارك التقارب المصري التركي، وإنّ الإخوان المسلمين مع هذا التقارب لأنّه يصبّ في مصلحة الشعبين، ولم يواجه أعضاء الإخوان في تركيا أيّ مضايقات بسبب هذا التقارب".
السجل العنيف للإخوان
بالرغم من محاولة الجزار التأكيد على سلمية الجماعة وعدم لجوئها إلى العنف إلا في مواجهة الاحتلال الأجنبي، فإنّ تاريخ الإخوان يحكي قصة مختلفة، كون الجماعة لديها سجل طويل من التحريض على العنف، بدءاً من تشكيل النظام الخاص في الأربعينيات إلى دعم حركات مسلحة في مصر ودول أخرى.
وشهدت الفترة ما بعد ثورة حزيران (يونيو) في مصر تصاعداً كبيراً في النشاط الإرهابي لجماعة الإخوان المسلمين وأذرعها المسلحة، وقد استهدفت الجماعة مؤسسات الدولة المصرية خاصة الأمنية والقضائية، وظهرت عدة جماعات مسلحة ترتبط بها. هذه الجماعات، مثل "حركة حسم" و"لواء الثورة"، نفذت سلسلة من الهجمات الإرهابية على قوات الأمن والمرافق العامة؛ ممّا أسفر عن سقوط العديد من الضحايا وإحداث أضرار جسيمة.
وعموماً فإنّ تصريحات الجزار محاولة لإعادة تدوير الأفكار القديمة في صورة جديدة تناسب الظروف الراهنة، خاصة مع الضغوط الدولية والمحلية على الإخوان، ويظل الخلاف الأساسي بين وجهتي النظر هو حول نوايا الجماعة الحقيقية: هل تسعى بالفعل إلى مصالحة شاملة وبناء دولة ديمقراطية، أم أنّها تستخدم هذه الشعارات وسيلة للوصول إلى السلطة وتفكيك الدولة من الداخل؟