
ما تزال فرنسا تخوض معركتها المحمومة ضد تغلغل قوى الإسلام السياسي في المجتمع، حيث تقوض شبكاتها التنظيمية المعقدة قيم "الجمهورية"، وخاصة من خلال جيوب عدة تتمثل في المدارس والمؤسسات الثقافية والمراكز التعليمية والدينية الدعوية. وهذه الشبكات تتمكن من عزل الأفراد وتقليل فرص اندماجهم، وتحويلهم إلى وسائط لنقل الأفكار المتشددة والمؤدلجة، وتدشين مجتمعات موازية.
ولادة العنف والإرهاب
ويوماً تلو الآخر تتكشف جهات ومؤسسات عديدة في أوروبا تضطلع بهذا الدور المشبوه الذي يكاد يصبح مصنعاً جاهزاً لولادة العنف والإرهاب، وتتفاقم الأوضاع مع وفرة الموارد المالية. ولا يبدو ما ذكرته صحيفة (العين) من معلومات عن مدرسة ابن سينا في فرنسا باعتبارها ضمن المؤسسات التعليمية لجماعة الإخوان المصنفة إرهابية في عدد من البلدان العربية، لا يبدو أمراً جديداً أو مباغتاً، فقد سبق أن أعلنت وزيرة التربية الوطنية الفرنسية نيكول بيلوبيه عن إغلاق مدرسة ابن سينا الموجودة في مدينة نيس الفرنسية وفي إحدى ضواحيها الفقيرة والتي تصف نفسها في لافتة بأنّها مدرسة "للتعليم الإسلامي".
وثمة شبهات عديدة تحوم حول تلك المدرسة، سواء على مستوى مناهجها وارتباطها بأدبيات وأفكار الإسلام السياسي، تحديداً جماعة الإخوان، أو مصادر تمويلها الغامضة، حيث إنّ رئيسة أكاديمية نيس التعليمية ناتاشا شيكوت، صرحت بأنّ المدرسة طالتها عمليات تفتيش وإنذارات. بل إنّ رئيس بلدية المدينة كريستيان إستروسي سبق أن عارض افتتاح المدرسة، وجدد معارضته مؤخراً في سياق محاولات توسيعها. وأكد فيليب فاردون، وهو من المدينة ذاتها وضمن حزب الاستعادة الفرنسي، "الروابط المباشرة لهذه المدرسة في نيس مع اتحاد المنظمات الإسلامية السابق، وبالتالي مع تنظيم الإخوان الإرهابي". وهذا التنظيم الإسلامي الذي بات يُعرف تحت مسمّى "مسلمو فرنسا" راهناً يضم معه مجموعة من القوى المعروفة بارتباطاتها بالإخوان، وتساهم في نشر التشدد.
"مسلمو فرنسا"... ما ينبغي معرفته عن إخوان أوروبا
وفي حديثه لـ (حفريات)، يوضح الكاتب السياسي المقيم في فرنسا، شيار خليل، أنّ المدرسة لا تُعدّ الأولى ضمن المؤسسات التعليمية المنتشرة، والتي لها "طبيعة إسلاموية، وتخالف بطبيعة الحال القيم الجمهورية القائمة على العلمانية واللائكية الفرنسية، بل إنّه مع بدء فرنسا نشاطها المكثف لاستهداف أنشطة الإسلام السياسي المختلفة، وتقويض عملية انتشارها وتوغلها بالمجتمع، بدأت تصفية مصادر التمويل، ومصادرة وتجميد مكتبات ومدارس، كما حدث مع مدرسة ابن رشد بمدينة ليل، ومدرسة ابن سينا، لافتاً إلى أنّ "تلك المؤسسات لديها مناهج تحض على العنف والكراهية، ونبذ القيم الفرنسية بوجه خاص، والمجتمع الأوروبي بوجه عام، فضلاً عن تعبئة الأفراد برؤى وأفكار متشددة تؤدي بهم إلى العزلة والتطرف. وفي التحقيقات كافة برز ارتباطها بتنظيم "مسلمي فرنسا".
وبحسب صحيفة (العين)، فإنّ مدرسة (ابن سينا) الخاصة، في مدينة نيس الفرنسية، لا أحد حتى الآن، بما في ذلك السلطات، يعرف مصادر تمويلها، وكيف تدفع نفقاتها لتؤمن سير دروس نحو (100) طالب ممّن يرتادونها، لكنّ المؤكد هو أنّ لهذه المدرسة "روابط مباشرة" مع ما كان يُعرف بـ "اتحاد المنظمات الإسلامية"، وبالتالي مع تنظيم الإخوان في فرنسا. كما أنّ المدرسة حاولت جاهدة البقاء بعيداً عن الجدل المتنامي في فرنسا حول مخاطر مثل هذه المدارس على أمن البلاد واستقرارها، إلا أنّ قانون 2021 لمكافحة النزعة الانفصالية أسقط عنها القناع. وعند توجيه استفسارات حول التمويل كشفت الإدارة أسماء عائلات المساهمين سواء كانوا أولياء أمور الطلاب أو من المتبرعين.
شيار خليل: المدرسة لا تُعدّ الأولى ضمن المؤسسات التعليمية المنتشرة والتي لها طبيعة إسلاموية وتخالف بطبيعة الحال القيم الجمهورية القائمة على العلمانية واللائكية الفرنسية
وتابع التقرير أنّ المدرسة "حاولت الإيهام بأنّ الفئة الأولى تدفع (200) يورو شهرياً عن كل طالب، وأنّها تعتمد بشكل كبير على الفئة الأخيرة التي تدفع أكثر بكثير لتغطية ميزانيتها، لكنّ عملية مقارنة بسيطة بين الإيرادات والنفقات تظهر خللاً واضحاً، ليس في الحسابات فقط، بل في مصادر التمويل نفسها. وبناء على ذلك؛ تم إعلان قرار إغلاق مدرسة ابن سينا في 26 شباط (فبراير) الماضي من قبل وزيرة التربية الفرنسية نيكول بيلوبيه، وقد أمر بتطبيقه محافظ مدينة نيس أوغ مطوح في 14 آذار (مارس) المنقضي. لكنّ المحكمة الإدارية في نيس فاجأت الرأي العام الفرنسي بإلغائها الأمر الصادر بإغلاق المدرسة، معتبرة أنّ الأخطاء في حسابات المؤسسة لا تبرر اتخاذ مثل هذا الإجراء النهائي".
وذكرت المحكمة الإدارية في حكمها: "إذا كانت الجداول والمستندات التي قدمتها جمعية ابن سينا للأعوام 2018 إلى 2022 تنطوي على أخطاء ومغالطات، فإنّها لا تشكل مخالفات تبرر الإغلاق النهائي للمؤسسة".
أنشطة مشبوهة
وبالعودة إلى الكاتب السياسي شيار خليل، يوضح أنّه "يمكن أن يختلف تأثير جماعة الإخوان المسلمين في أوروبا، بما في ذلك فرنسا وألمانيا، وتختلف الآراء حول تأثيرها. وبينما انخرطت جماعة الإخوان المسلمين في أنشطة خيرية واجتماعية في مناطق مختلفة، فإنّ إسناد تأثير موحد أو كاسح على جميع المجموعات الصغيرة في أوروبا قد يبالغ في تبسيط الديناميكيات المعقدة داخل المجتمعات الإسلامية. ومن المهم أن نلاحظ أنّ المجتمعات الإسلامية في أوروبا متنوعة، حيث يحمل الأفراد وجهات نظر وانتماءات ومستويات مختلفة من المشاركة. ويعتمد مدى التأثير على عوامل مختلفة، بما في ذلك السياقات الثقافية والاجتماعية والسياسية".
ويقول خليل لـ (حفريات): إنّ "مشاركة أيّ منظمة أو جماعة، بما في ذلك جماعة الإخوان المسلمين، في الأنشطة السياسية داخل مجتمعات الشتات، هي قضية معقدة ومثيرة للجدل، وخاصة بعد الفضائح العديدة والمتنوعة التي تسربت للإعلام حول تغلغل هذه التنظيمات بين الجالية الإسلامية في ألمانيا وفرنسا. وقد تتعامل الحكومات بالفعل مع المجتمعات لأسباب مختلفة، بما في ذلك تلك المتعلقة بالمخاوف السياسية أو الأمنية. ويحاول الإخوان في كل الدول التي تتواجد فيها الجاليات المسلمة تمرير أجنداتهم من خلال تقديم الخدمات العديدة للجالية سواء من الطلاب أو من الطبقات الأخرى، وذلك لتوسيع القاعدة الجماهيرية لها في أوروبا، وتنفيذ أجنداتها السياسية والدينية ببطء داخل هذه التجمعات".
ويضيف خليل: تعكس محاولات الإخوان المسلمين "تأثيرهم المتنوع في أوروبا"، وخاصة في فرنسا وألمانيا، ويختلف تأثيرهم بـ "اختلاف السياقات والظروف المحلية"، "فيتعاملون بشكل خاص مع الجاليات المسلمة عبر تقديم خدمات وبرامج متنوعة، خاصة للطلاب وطبقات أخرى". كما أنّ توفير الخدمات يُعدّ وسيلة لتوسيع نطاق تأثيرهم وكسب تأييد أوسع في المجتمعات الإسلامية. فيهدفون إلى تحقيق أجنداتهم الدينية والسياسية بتأثير تدريجي داخل هذه المجتمعات. ويُعتبر هذا التفاعل تحدياً للحكومات التي قد تتفاعل بطرق متنوعة في محاولة لمواجهة الأمور السياسية والأمنية، وفق المصدر ذاته.