
ترجمة: محمد الدخاخني
على الرغم من كل خطابه الطنَّان، ربما لم يتوقع زعيم اليمين المتطرف المخضرم جان ماري لوبان أن يبقى على قيد الحياة كفاية ليرى الحزب الذي أنشأه يصل إلى أبواب السلطة.
لكنّ الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية التي جرت يوم الأحد وضعت فرنسا على حافة تغيير سياسي تاريخي.
بعد عيد ميلاده السادس والتسعين مباشرة، وفي ظل اعتلال صحته، أُقصي لوبان جانباً منذ فترة طويلة كجزء من سعي ابنته، مارين، لتحقيق النجاح بين القطاعات السائدة.
تُخُلِّصَ من المُسمَّى العسكري "الجبهة الوطنية" لصالح "التجمع الوطني" الأكثر توحيداً، ممّا شجع الناخبين على الشعور بالارتياح بشأن تقديم دعمهم للحزب. وقد بُذلت جهود مضنية للتخلُّص من وصمة العنصرية ومعاداة السامية التي كانت سمة من سمات قيادة جان ماري لوبان.
وكم نجحت استراتيجية إزالة السموم هذه!
الانتخابات المبكرة، التي لا شك أنّ الرئيس إيمانويل ماكرون نادم الآن بشدة على الدعوة إليها، جعلت "التجمع الوطني" على يقين بأنّه سيكّون أكبر مجموعة برلمانية بعد الجولة الثانية الحاسمة يوم الأحد المقبل مع كل إمكانية لتشكيل أغلبية مطلقة.
وهذا من شأنه أن يؤدي إلى فترة غير مستقرة من "التعايش" السياسي. سيظل ماكرون الوسطي مُحصَّناً في "قصر الإليزيه" ما لم يختر قطع فترة ولايته الثانية، لكنّ الشاب التابع للوبان، جوردان بارديلا، سيُنصَّب رئيساً للوزراء.
بارديلا، البالغ من العمر (28) عاماً، والذي يتمتع بلياقة حادة ويتقن التواصل الفعال، توقَّع النجاح بالفعل من خلال بعض الأعمال التمهيدية لتشكيل حكومته. وحققت مبادراته مع قادة الأعمال بعض التقدم في التغلب على شكوكهم السابقة حول قدرة "التجمع الوطني" على إدارة الاقتصاد.
أشاد بارديلا بنتائج الأحد، ووصفها بأنّها "حكم غير قابل للاستئناف"، ووعد بأن يكون رئيس وزراء لكل الشعب الفرنسي، وأن يتقاسم السلطة بمسؤولية ولكن بحزم. وتعهَّد بـ "تعايش صعب" يكون فيه مستعداً للوقوف في وجه ماكرون كلما لزم الأمر.
هذا التحول المضطرب في الأحداث حُدِّد من خلال ردّ الفعل غير المحسوب للرئيس عندما دعا إلى إجراء انتخابات بعد أن حقق "الجبهة الوطنية" نجاحات كاسحة في التصويت الشهر الماضي للبرلمان الأوروبي.
لم يكن في حاجة للذهاب إلى صناديق الاقتراع، لكنّه اعتمد على الناخبين المعارضين لليمين المتطرف في تشكيل "طوق وقائي" ضد التطرف، على نحو يؤدي إلى إبقاء لوبان وبارديلا خارج المناصب العليا.
لا شك أنّ سمعة فرنسا الدولية سوف تتضرر بشدة إذا فاز "الجبهة الوطنية" بالأغلبية المطلقة يوم الأحد
فشلت المقامرة بطريقة مذهلة، وهو ما يذكّرنا بتصويت الناخبين في المملكة المتحدة لصالح مغادرة الاتحاد الأوروبي، بعد أن دعا ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء آنذاك، إلى استفتاء كان يتوقع أن يرفض المشاعر المؤيدة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ويقضي على زملائه في حزب المحافظين المتشككين في أوروبا.
إذا كان ميل فرنسا نحو اليمين المتطرف متوقعاً على نطاق واسع في الفترة التي سبقت الانتخابات، فقد أرسل مع ذلك موجات من الصدمة عبر المؤسسة السياسية. كما قدمت حكومة ماكرون بالفعل تنازلاً متأخراً أمام الاستياء العام، فقد أوقفت خطط خفض إعانات البطالة.
تحوَّل الناخبون إلى شعبوية "الجبهة الوطنية" لأنّهم سئموا من مستويات الهجرة التي يعتبرونها خارجة عن السيطرة، والارتفاع المستمر في تكاليف المعيشة، والمشاعر العميقة لانعدام الأمان.
فعندما أصدر لاعب كرة القدم الفرنسي كيليان مبابي نداءً عاماً للناخبين، خاصَّة الشباب، لمقاومة التطرف، تساءل بارديلا لماذا ينبغي للناس العاديين، الذين يكافحون من أجل تغطية نفقاتهم، أن يستمعوا إلى أصحاب الملايين؟
قد يكون "للتجمع الوطني" جذور شريرة. كان من بين مؤسسي "الجبهة الوطنية" تحت زعامة جان ماري لوبان في عام 1972 متعاطفون مع النازيين ومتعاونون معهم، لكنّ الفرنسيين يرون على نحو متزايد أنّ مثل هذه التفاصيل غير مهمّة، ويتعاملون مع الحزب في عام 2024 مثل أيّ حزب آخر.
وساعد الحكم المعتدل نسبياً لشخصية أخرى من اليمين المتطرف في أوروبا، وهي جيورجيا ميلوني في إيطاليا، في تعزيز الاعتقاد بأنّ اليمين المتطرف الفرنسي يمكن الوثوق به في قمع الميول المتطرفة.
ومع قلة الوقت المتبقي لتعبئة حشد قوي بالقدر الكافي لمنع الحزب من تشكيل أغلبية مطلقة في البرلمان، بدأ العديد من المعارضين بالفعل في دفن خلافاتهم. وفي موجة من المساومات يتم حث المرشحين الذين جاؤوا في المركز الثالث يوم الأحد على التنحي على أمل أن يتحول الناخبون بعد ذلك إلى متنافسين من خارج "التجمع الوطني" يتمتعون بفرص أفضل للفوز.
لكنّ جاذبية التصويت التكتيكي ليست شاملة على الإطلاق. فبينما يدعو ماكرون ورئيس وزرائه غابرييل أتال إلى إعادة تنظيم القوى "الديمقراطية والجمهورية"، فإنّ الاستجابة على الأرض تختلف.
يؤيد زعيم أقصى اليسار جان لوك ميلينشون، الذي يُعَدّ حزبه، "فرنسا التي لا تنحني"، أكبر مكوِّن في تحالف "الجبهة الشعبية الجديدة" للمرشحين الخضر والاشتراكيين، يؤيد فكرة تنحي المرشحين في المركز الثالث جانباً إذا كانت هذه هي الطريقة الوحيدة لمنع فوز "الجبهة الوطنية".
لكنّ رئيس الوزراء السابق في عهد ماكرون إدوارد فيليب يقول إنّه لن يدعم مرشحاً من أقصى اليسار أو من أقصى اليمين. ويصرّ فرانسيس دوبوا، المرشح الجمهوري المحافظ والنائب المنتهية ولايته في دائرة كوريز الانتخابية بجنوب غرب البلاد، على أنّه سيظل في المنافسة على الرغم من احتلاله المركز الثالث خلف الرئيس الاشتراكي السابق فرانسوا هولاند ومايتي بوجيه من "التجمع الوطني".
إذا كان ميل فرنسا نحو اليمين المتطرف متوقعاً على نطاق واسع في الفترة التي سبقت الانتخابات، فقد أرسل مع ذلك موجات من الصدمة عبر المؤسسة السياسية
لا شك أنّ سمعة فرنسا الدولية سوف تتضرر بشدة إذا فاز "الجبهة الوطنية" بالأغلبية المطلقة يوم الأحد. وسوف تكون هناك مخاوف في بروكسل بشأن التشكُّك المزمن في أوروبا لدى الحزب. فعلى الرغم من تخلي "الجبهة الوطنية" عن "فريكسيت" وترك كتلة عملة اليورو كأهداف سياسية، فإنّ هدف الحزب المتمثل في تغيير الاتحاد الأوروبي من الداخل يشير إلى أنّ صراعاً مريراً ينتظرنا. فَتَرَت العلاقات الودية السابقة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لكنّ لدى أوكرانيا سبباً للقلق من أن تشعر حكومة يقودها بارديلا بحماس أقلّ تجاه دعم جهودها الحربية.
وقد اقترح بعض المراقبين الأشقياء أنّ فوز "الجبهة الوطنية" قد يكون بمثابة نعمة مُقنَّعة للأحزاب التقليدية إذا أحدث الحزب فوضى في الحكم، بحيث سرعان ما يرى الناخبون الخطأ في أساليبه.
لكنّ هذا يبدو الآن رداً خيالياً، فالاضطرابات السياسية هي آخر ما تحتاجه فرنسا التي تستعد لاستضافة الألعاب الأولمبية اعتباراً من 26 تموز (يوليو).
إنّ اعتقاد مارين لوبان بأنّ وقتها قد حان أمر مفهوم. وقد قالت وسط احتفالات بهيجة أمام أنصارها مساء الأحد: "قُضي على الكتلة الماكرونية عملياً. وقد أظهر الفرنسيون رغبتهم في طيّ الصفحة".
ومهما كانت النتيجة يوم الأحد، فإنّ الفصل التالي بدأ يتشكَّل بالفعل. وبناءً على الصعود الملحوظ لحزبها، ستبدأ لوبان الآن بالتخطيط لاستبدال ماكرون كرئيس عندما تنتهي ولايته الثانية والأخيرة في عام 2027.
المصدر:
كولين راندال، ذي ناشيونال نيوز، 10 تموز (يوليو) 2024
https://www.thenationalnews.com/opinion/comment/2024/07/01/france-macron-le-pen-right-bardella/