من يُغلق أفواه أطفالنا بحلوى المصاص؟

من يُغلق أفواه أطفالنا بحلوى المصاص؟


22/03/2020

"من كان وعيه بحجم كرة غولف، سيرى الكون بحجمها"، هذه الجملة ربما تجعلنا نعيد التفكير في الوفرة التي تحمل الاتساع إلى المعرفة، ومن بين ما سنفكّر به طويلاً هو المكتبة، التي حملت مع الكاتب الأرجنتيني بورخيس معنى (اللا نهاية)، إنّها المكان الذي تحظى به المعرفة بالاتساع، والوعي الإنساني بالانفتاح والنمو، لذلك لم يكن القصد في المقال السابق تعظيم المكتبة المدرسيّة الغربيّة؛ بل هو إشارة إلى الفقر المعرفي الذي تنتجه مجتمعاتنا، عندما نقلّص ونختزل حوامل المعرفة أو نزدريها، إنّه الفقر الذي يجعلنا نرى الكون بحجم كرة الغولف.

من المريب أنّ المدرسة التي توقّر المعرفة والكتاب وتسرف في تمجيد العلم والنور بين دفّتيه تزدري مكتبتها المدرسية

ففي معرض سؤالي لطفلٍ في الصف الثالث: هل يمكن أن تصف لي مكتبة المدرسة؟ استغرق وقتاً وهو يفكر في الإجابة، وفي محاولة مني لمساعدته، سألته: هل تحتوي رفوفاً أم خزانةً للكتب، جاءت إجابته مع ضحكةٍ خجولة: مكتبتنا درج صغير فيه مجموعة من القصص؛ فإذا كانت تقاس أهمية المكتبة المدرسية بما تنطوي عليه من معارف مختلفة، وبما تنعم به من سبل الراحة والهدوء والتنظيم، والأنشطة التي تقدمها، ودورها الفاعل في المناهج الدراسية الحديثة، وعلاقة الطفل بها، فإنّ درجاً يحتوي مجموعةَ قصص، أو خزانة صغيرة نصف كتبها تمجّد العقائد والرموز، يحتمل ذلك أي مسمّى إلا مسمّى المكتبة المدرسية.

اقرأ أيضاً: المكتبة المدرسية: هل تكون مستودعاً لمخيلة أجيالنا؟
وإذا قمنا بالتفتيش في قوائم الضروريات والحاجات والكماليات، هذه التقسيمات الشائعة للأشياء في مجتمعاتنا التي أنتجتها سياسة التفقير، لن نجد المكتبة المدرسية في أية قائمةٍ منها، فهي لم تحظَ حتى أن تكون في قائمة الكماليات؛ لأنّ الكماليات رغم عدم توفرها قد تشكل طموحاً عاماً في الحصول عليها، بينما المكتبة المدرسية لم تفقد أهميتها فقط، وإنما فُقد الإحساس بوجودها أيضاً، فوجودها الذي لم يشكل فارقاً في عملية التحصيل المعرفي والثقافي في معظم مدارسنا، ودورها الذي يُختصر إلى توزيع الكتاب المدرسي في بداية العام واستلامه في نهايته، يحمل ازدراءً فاقعاً للمعرفة والعلم، إنّها المكتبة المدرسيّة التي تحولت من ضرورة معرفيّة وثقافية وإنسانيّة إلى لا شيء؟

اقرأ أيضاً: بماذا حشونا وسائد نوم أطفالنا؟
من المريب أنّ المدرسة التي توقّر المعرفة والكتاب، وتسرف في تمجيد العلم والنور بين دفّتيه، تزدري مكتبتها المدّرسية، وإن وجد استثناء في مدرسةٍ ما فما هو إلّا تأكيدٌ للقاعدة، فالمكتبة المدرسية في معظم مجتمعاتنا تعاني هزالاً معرفياً، يتبدى في فقرها وفقر كتبها، كما تعاني من إهمالٍ متعمّدٍ لدورها التربوي، بالتالي هي تؤكد أنّ المناهج المطورة التي تعتمد على المعرفة البحثية، هي مناهج شكليّة لا تهدف حقاً لتغيير بنية الثقافة القائمة على الحفظ والتلقين، وإنما إلى ترسيخ السطحيّة والانحطاط  في المعرفة. 

اقرأ أيضاً: صخرة سيزيف.. العقوبة التي ورثتها مجتمعاتنا
بحسب رصد فيصل خير الله المداينة وهشام يعقوب مريزيق للمكتبات المدرسية في كتابهما "المدرسة المعاصرة"، وجدا أنّ هناك معوقات كثيرة تحول بين الطفل والكتاب، من أبرزها: عدم توفر حصص خاصة لزيارة المكتبة، وعدم توفر الوقت المناسب للأطفال لزيارة المكتبة، وعدم توفر المكان والتجهيز المناسب، وسعة المناهج وتشعبها بحيث لا يُترك مجال مناسبٌ للأطفال لتحقيق رغبتهم في المطالعة الحرّة، وندرة تشجيع الإدارة والهيئة التدريسية للطلبة للإقبال على المطالعة الحرة وزيارة المكتبة.

اقرأ أيضاً: أطفال السوشيال ميديا.. نجومية أم عمالة من نوع جديد؟
وأضافا على ذلك أنّ أغلب مؤسساتنا الثقافية لا تُعنى كما يجب بثقافة الطفل وأدبه على امتداد الوطن العربي، وهذا يؤدي إلى عدم توفر العدد الكافي والمناسب من الكتب تلائم عدد الطلاب وفئاتهم العمرية المختلفة، فإذا علمنا أنّ عدد الكتب الموجهة للأطفال في سائر مكتبات المملكة العامة والخاصة لا يتجاوز ثلث مليون كتاب، أي بواقع كتاب لكل ستة أطفال، في حين تتحدث النسبة الدولية عن 3 كتب لكل طفل، إذا عرفنا ذلك أدركنا حجم المشكلة.
ما سبق سيجعل من الإحصائية التي أجراها الباحثان في عدد من مدارس الزرقاء وشمال عمان في الأردن، من الصف الثاني الأساسي وحتى العاشر، إحصائية غير مفاجئة، بل هي مقدمة ونتيجة في آنٍ واحد لتلك المعوقات، فقد وجدا أنّ 10%من عدد الأطفال شبه أميين وحوالي 20% منهم يعانون صعوبات كبيرة في القراءة وهذا يعني أنّ نسبة 30% من عدد الطلاب يعانون صعوبات كبيرة في القراءة تقف عائقاً بينهم وبين المطالعة الحرّة، وبرأيهما هذا رقمٌ كبير يستدعي إعادة النظر في مجمل العملية التعليمية.

اقرأ أيضاً: الطفولة المقيّدة أمام عدسة المثاليات
النتائج التي توصّل إليها الباحثان تعكس النمط الثقافي والتربوي الذي تنتجه المدرسة، بناءً على الشروط الاجتماعية والسياسية التي تحدّها وتقيدها، فالتفاصل بين العلم والمعرفة الذي تحرسه تلك الشروط، هو ديدن بقاء هذه البنى التسلطيّة وطريقتها الوحيدة للحفاظ على نفسها، وهي لا تقتصر على مجتمع بعينه إنما تعمّ أغلب مجتمعاتنا، وبما أنّ "الحياة في التفاصيل" قد تكفي جولة بين المكتبات المدرسية، لنشاهد بوضوح ما الذي يحدث هناك.
يبدو أنّ الخطوات التي تنتهجها أنظمتنا العامّة مدروسة بعناية، فأمين المكتبة المدرسية الذي تطوّر دوره في المدرسة الحديثة ليصبح أخصائي المكتبة، مازال الوظيفة الشاغرة للمعلمين المرضى الذين لم يعد بإمكانهم مزاولة المهنة، فالمكتبة المدرسية هي استراحة المحارب بالنسبة إليهم، وفي ظل عدم تفعيلهم لدور المكتبة، غالباً ما يُملأ جدول استعارة الكتب باستعارات وهمية للحفاظ على البريستيج الشكلي للعمل، وفي سؤالٍ لأحد أمناء المكتبة المدرسية: لماذا لا يعمل على تفعيل دور المكتبة المدرسية؟ كانت إجابته: إنه يخشى أن يُتلِف الأطفال الكتب، فهو الوحيد الذي يتحمّل مسؤولية تلف أي كتاب. هذه الإجابة تشير إلى أنّه هناك رقابة على الكتب، ولكن ما شكل هذه الرقابة؟

اقرأ أيضاً: هذا ما تنبئنا به فيديوهات ضرب الأطفال!
فمن خلال الاطلاع على سلسلة قصصية مصوّرة بأحرف مضبوطة الشكل، في إحدى المكتبات المدرسية، يحرص عليها أمين المكتبة ككنزٍ ثمين في مكتبته الفقيرة، نجد أنها لا تناسب الفئة العمرية لأطفال هذه المرحلة وإنما تناسب الفئة العمرية الأصغر، والقصص التي تضمّها غير مدروسة تربوياً، حيث تساهم في تشويه وعي الطفل ونموّه النفسي، بالإضافة للأخطاء اللغوية والنحوية التي تشوه ذائقته، هذا يؤكد أنّه إن وجد رقابة فهي رقابة فقط على المحظور من الكتب التي تهدد أنظمة مجتمعاتنا، وبالتالي فإنّ ما يدخل من كتب إلى المكتبة المدرسيّة وما يُمنع عنها، هو سياسة مُمَنهجة لأنظمةٍ تعمل على تغييب الوعي والمعرفة في الأماكن التي يجب أن تصنعها، لذا فإنّ فقدان المعنى هو المعنى الوحيد من وجود المكتبة في واقعنا.

أمين مكتبة صرخ بالأطفال: اذهبوا إلى البوفيه واشتروا المصاص. هل أصبحت الكتب كالمصاص بالنسبة لكم!

في مقال سابق عنوانه، "إذا كنا نعلّم أطفالنا القراءة فأين يختفي القارئون؟" قد يكون جزءاً من الإجابة هنا: "ففي إحدى مدارس المرحلة الأولى اكتشف الأطفال أنّ هناك مكتبة في مدرستهم، فبدؤوا يتوافدون في الاستراحة لاستعارة القصص، فما كان من أمين المكتبة الذي ضاق ذرعاً بهم، إلّا أن صرخ بهم، أنا لست بائع (مصاص)، اذهبوا إلى البوفيه واشتروا المصاص من هناك، هل أصبحت الكتب كالمصاص بالنسبة لكم"، ربما يبدو في ردّه أنّه يعلي من شأن الكتاب، ولكن في الحقيقة قام بتوجيه الأطفال إلى المصاصة التي تمتصها ألسنتهم، بدل الكتاب الذي تمتصّه عقولهم.
من هنا يبدأ القارئون بالاختفاء مع اختفاء مكتبتهم، الحلقة المفقودة للمعرفة؛ حيث تصبح القراءة في المنهاج الدراسي، هي مفهوم الطفل عن القراءة، فإذا كان الكتاب هو الحامل الأساسي للمعرفة التي ستعبر بالفرد إلى الوعي، فليس من مصلحة أية سلطة أن تعلي من شأن المكتبات وتصنع أعداءً لها، إنّها ستبذل جهدها في إنتاج المزيد من حلوى المصاص، الذي يغلق الأفواه بدل الكتاب الذي يفتحها.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية