تحظى المثالية برصيدٍ كبيرٍ من الاحترام والاهتمام في جميع الثقافات على الإطلاق، وهي تشير دائماً إلى محتوى إيجابي، فيكفي أن نصف أحداً أو شيئاً بالمثالي كي ينفي الذّهن أيّةُ نقيصة عنه، وهذا ما يجعل من الكمال شرطاً لازماً لما هو مثالي، كما عبّر عنه أفلاطون حين ذهب إلى أنّ عالم المثل الذي لا تشوبه شائبةٌ هو العالم الوحيد الكامل، فما قصده أفلاطون؛ أنّ الواقع الذي نعيش مجرّد نسخة مشوّهة عنه، وعبر التاريخ تولّت التربية المسؤولية في محاكاة عالم المثل؛ حيث جعلت من المثل البوصلة التي تُرشدها وتهتدي بها، في واقع يدفع الحياة بالاتجاه المضاد.
اقرأ أيضاً: هذا ما تنبئنا به فيديوهات ضرب الأطفال!
تُحيل المثالية إلى إحالات مختلفة؛ تتفق فيما بينها على أنّ الأفكار تسبق الواقع، وأنّ الواقع ينتج عنها، ولكن ما أرمي إليه هنا ليس الفهم الأكاديمي للمثالية؛ إنما ما يترتب على وجودها في حياتنا، خاصةً أنّ المثالية كيفما كانت، فإنّها تشكّل حجر الأساس في بناء سلوك وعقائد الأفراد، بالتالي فإنّ التربية التي تضع المثال نصب عينها، من المفترض أنّها تطمح لخلق عالمٍ أفضل، ولكن ماذا لو أنّها أسهمت في عكس ذلك، وشكّلت عبر تاريخها عائقاً تربوياً في بناء الفرد السليم؟ ألا يعني هذا أن نرمي كلّ ما تعلمناه خلف ظهورنا؟!
إصرارنا التاريخي على المثالية أكبر عملية تعمية مارسناها على أنفسنا، فمع المثالية أصبح ما سيكون أهم ممّا هو كائن
تقول والدة إحدى الإرهابيين، بعدما تفاجأت بورود اسم ابنها على لوائح المطلوبين: "أشعر بصدمة كبيرة لما اقترفت يدا ابني؛ فقد كان منذ صغره ودوداً مطيعاً متفوقاً في مدرسته، محباً للجميع، حتى إنّه لم يقدم على إيذاء نملة، كان حقاً ابناً مثالياً"، ربما هذه الأم لم تكن مخطئة في وصف ابنها بالمثالي، ولكن هذه المثالية التي تراها الأم نقطة إيجابية لصالح ابنها، هي بالتحديد ما جعلته يصل إلى ما وصل إليه، فأطفالنا الذين نعتقد أنّهم مثاليون، لا يبلغون هذه المثالية إلا بعد تعرضهم لكثير من عمليات القمع والبرمجة، من خلال تربية ترغم الطفل على ما نريده ونتوقعه منه؛ إنّها الإطار الذي يحدّد ما يجب أن يكونه الطفل، عملية قولبة تخلق صراعاً مستمراً داخله، وهذا الصراع الداخلي الذي لن يبقى حبيساً، فحين تُتاح له الفرصة سيتجسد على أرض الواقع بأكثر الأفعال تطرفاً.
اقرأ أيضاً: لا داعي للتفلسف!
فمن نعتقد أنّه طفلٌ مثالي هو ببساطة من يحاكي طموحاتنا نحن الكبار، فالطفل المثالي هو المطيع الذي يتصرف وفق ما نمليه عليه، لا يسبب إحراجاً لنا، مجتهدٌ يحفظ دروسه عن ظهر قلب، إنّه كلّ ما يجعلنا فخورين أمام الآخرين، ويقوده إلى التكيف مع تناقضاتنا، بالتالي الطفل المثالي هو ضحيّة تصوراتنا عن أوهام الكمال، التي يرتفع سقفها كلّما كانت الحياة متدنية، وهنا تأخذ المثل شكل القوالب الجاهزة، لتجعل من الصواب والخطأ مطلقين، مما يجعلنا نعامل الطفل كما نعتقد، لا كما هو، وهذا سيشكّل أولى المصادرات على تجربة الطفل في فهم نفسه وفهم الواقع.
اقرأ أيضاً: لماذا لا يرتدي الإمبراطور ثياباً؟
إنّ إصرارنا التاريخي على المثالية هو أكبر عملية تعمية مارسناها على أنفسنا، فمع المثالية أصبح ما سيكون أهم بكثير ممّا هو كائن، وممّا هو موجود، هذا التجنّب الكامل والمتعمّد للحاضر يجعل من الجوانب الشخصية والنفعية الجوانب الأقوى في التربية؛ فالمستقبل المثالي الذي نعدّه للطفل، هو مستقبلنا الذي يلغي حاضر أطفالنا؛ "فالمربي الذي يرغب في فهم طفله لا ينظر إليه عبر عدسة المثاليات، فإذا كان يحبّه حقاً عليه أن يراقبه ويدرسه لرؤية توجهاته وأمزجته وخصوصياته، أما عندما لا يكون المرء محباً يتمتع بالفهم والصبر، يقوم بإجبار الطفل على التقولب في نموذج للسلوك، ندعوه آنذاك بالمثالي، إنّه الحلّ السريع الذي يعطي نتائج رائعة لنا وليس للطفل"، بتعبير كريشنا مورتي، في كتابه "التعليم وقيمة الحياة".
الطفل المثالي هو ضحيّة تصوراتنا عن أوهام الكمال التي يرتفع سقفها كلّما كانت الحياة متدنية
بمجرد تذكّر ما تعلمناه في المدرسة، أو ما نعلّمه حالياً، سيفاجئنا الحضور الكثيف للمثل في مناهجنا منذ مراحل التعليم الأولى حتى النهائية، ويرافق هذه المثل جهد تلقيني كبير يتناسب طرداً مع انفصال الأفكار عن الواقع، فرغم دعوة المثل الدائمة إلى المحبة والسلام، والصدق، واحترام حقوق الغير، والعدالة، لكنّها لم تنجح حتى الآن إلّا في صناعة واقع تتهدده العداوة واللامبالاة، وهذا ما قد نلمسه في الإجابة عن سؤال: ما الذي يمكننا فعله لإنقاذ الأجيال القادمة من التلوث الذي سيدمّر الأرض؟ طفلة في عمر13 عاماً أجابت: "بالنسبة إليّ لن أكون على قيد الحياة إلى حين دمار كوكبنا، وبالنسبة إلى الأجيال القادمة لا خوف عليهم، فالدراسات على قدمٍ وساق لإيجاد كوكب آخر قابل للحياة"، ولنا أن نتساءل: ما الذي قدّمته كلّ القيم والمثاليات التي تعلمتها وتتعلمها هذه الطفلة حتى وصلت إلى هذه الإجابة؟ وهل إجابتها أقل صدمة لنا من صدمة الأم التي تحوّل طفلها المثالي إلى شاب إرهابي؟
يتلخص التناقض الذي تحمله المثل بأنّ من يروّج لها ينظر إليها على أنّها مطلقة وصالحة لكلّ زمان ومكان، بينما هي نسبية، ومتباينة تباين المجتمعات واختلافاتها؛ فكلّ مجتمع له مثله الخاصة التي يُخفي عقائده في داخلها، وهذه المثل نفسها ستنقلب عند كلّ طرفٍ على ما تدّعيه، حين تصبح سبباً في الصراع والحرب ضدّ الآخر؛ فالمثل عندما تصبح أهم ممن وضعها تجرّ الواقع إلى الهاوية، والإنسان الذي وُضعت من أجله، سيصبح وقودها الأول.
لا يوجد صراع في هذا العالم لم تغذّه المثل، فدائماً ما كانت الأفكار والمثل الذريعة الأقوى للتضحية بالبشر، وربما تكون أيديولوجيات القرن الماضي، التي أشعلت أكبر الحروب في تاريخ البشرية، الدليل الواضح على ذلك، حتى الآن؛ نحن لم نتعلّم الوجود من فهمنا لأنفسنا، ومما نحن فيه؛ لذلك كلّ الطرق التي سلكناها كانت مغلقة، أو بتعبير إدغار موران، في كتابه "تربية المستقبل": "إنّنا لا نمتلك المفاتيح التي من شأنها أن تفتح لنا أبواب مستقبلٍ أفضل؛ لأنّنا لا نعرف طريقاً مرسوماً يمكن السير فيه، لكننا نستطيع أن نكتشف الطريق من خلال السير".