كيف يكون الإنسان حراً إذا لم يتحرر عقله؟

كيف يكون الإنسان حراً إذا لم يتحرر عقله؟

كيف يكون الإنسان حراً إذا لم يتحرر عقله؟


10/02/2020

في كتابه "مشكلة الحرية"، يرى المفكر المصري زكريا إبراهيم أنّ الحرية، بمفهومها الاشتقاقي، عبارة عن انعدام القسر الخارجي. والإنسان الحر بهذا المعنى هو من لم يكن عبداً أو أسيراً. أما الحرية بالمعنى الفلسفي، فهي اختيار الفعل عن روية مع استطاعة عدم اختياره، أو استطاعة اختيار ضده.

كيف نتحدث عن عالم حر في وقت لا يزال هناك أكثر من ملياري إنسان يتعرضون لجوانب متعددة من الحرمان؟

مفهوم الحرية لا يتحدد إلا على ضوء مفهومات أخرى تتضمن معاني الضرورة أو الحتمية أو الجبرية. فالحرية لا يمكن أن تفهم إلا على ضوء نقيضها، وبالتالي فإنّ فهم معنى "الضرورة" قد يساعد على تحديد معنى الحرية، فالفعل الحر ليس دائماً وليدَ اختيار إرادي مقصود، بل نشعر أحياناً بأنّ علينا أن نتخطى مجال الاختيار لكي ننفذ إلى عالم الحرية بمعنى الكلمة، حيث يكون الفعل الحر إنما هو ذلك الذي لا نستطيع أن نفعل سواه، أي ذلك الفعل الذي يعبّر تعبيراً جوهرياً عن حقيقتنا الباطنة. فالفعل الحر بهذا المعنى لا يفهم على ضوء فكرة الإمكانية، بل بالأحرى على ضوء فكرة الضرورة، ولكن الضرورة هنا ليست ضرورة عقلية، بل هي ضرورة حية أو ضرورة وجودية.
وتعددت آراء الفلسفة في الحرية منذ فجر التفكير الإنساني، وما زالت تحتل مكانة محورية في التاريخ الحديث والمعاصر وشغلت الكثير من أقلام الفكر السياسي والأدب والشعر والفلسفة لدى مختلف شعوب الأرض ولو بنسب متفاوتة، وبمضامين وخلفيات اجتماعية وثقافية وبظروف تاريخية مختلفة، كما يقول الباحث فارس أبي صعب، مدير التحرير في مركز دراسات الوحدة العربية، في دراسته المنشورة على الموقع الإلكتروني للمركز.
غلاف كتاب "مشكلة الحرية" للمفكر المصري زكريا إبراهيم

خطوات في الفكر الإنساني التحرري
وعلى الرغم من أنّ الحضارة البشرية قد حققت في القرون الثلاثة الأخيرة في بعض مناطق العالم خطوات عظيمة على مستوى الفكر الإنساني التحرري الذي ما لبث أن فرض نفسه في العلاقات الاجتماعية وإعادة إنتاج صورة جديدة للإنسان الفرد عن نفسه، وبالتالي على مستوى البنية السياسية وعلى مستوى نماذج الحكم، فإنّ هذه الحضارة شهدت في الفترة نفسها أبشع أنواع السحق لحريات الكثير من الشعوب؛ ففي الوقت الذي كانت أفكار جان جاك روسو تضيء مشاعل الحرية في الثورة الفرنسية كانت أفكار "الحرية" نفسها تسحق شعوباً وحضارات متعددة في معظم مناطق العالم وتبني على أنقاضها المستعمرات، وتصطاد البشر في أفريقيا وترسل من تبقى حيّاً منهم بالأقفاص، لكي يُحوّلوا إلى عبيد لدى أسياد الأرض الجديدة في شمال القارة الأمريكية التي أبيد الملايين من أبناء شعبها الأصلي، ودائماً باسم الحرية، بحسب أبي صعب.
حرية العقل
ولكن ما المرتكزات المشتركة التي تعطي الحرية بعدها الإنساني؟

تجيب الدراسة بأنّ أول هذه المرتكزات هو حرية العقل، بوصفه أداة للتفكير الذي تميز به الإنسان من سائر الكائنات الحية، هو مصدر إنسانية هذا الإنسان. فالإنسان يحقق إنسانيته ويكملها إذاً بقدر ما يفتح أمام عقله آفاق التفكير غير المقيد وغير المحدود. ولكي يأخذ هذا العقل مداه يجب أن يتحرر من جملة قيود؛ فهو يجب أن يتحرر من الإيمانية. فإيمان العقل بنصوص جاهزة وبمقولات وأفكار راسخة بوصفها حقائق مطلقة ممنوع الشك فيها، يحد من عقلانية العقل ويضعف قدرته على التفكير وعلى البحث عن الحقيقة، وبالتالي على إدراك الظواهر. وهذا التحرر من إيمانية العقل هو الذي يعيد الوصل بين العقل والدين، ويشق الطريق أمام الاجتهاد، ويسمح للفكر الديني بالتجدد، في نظر أبي صعب.

يتساءل الباحث فارس أبي صعب: كيف يغدو الإنسان حراً إذا لم يتحرر عقله من ثنائية الخوف والإغراء؟

لكن العقل الإيماني هذا لا يقتصر على الفكر الديني وحسب، بل يشمل الفكر العلماني أيضاً، إذ إنّ الإيمانية تقع في ذلك المستوى من العقل المسؤول عن طريقة التفكير بموضوع ما وليس عن عملية التفكير في حد ذاتها، لذلك نجد الكثيرين من أصحاب العقائد الفكرية، بما فيها العقائد العلمانية أو حتى الإلحادية، يتعاطون مع عقائدهم تعاطياً إيمانياً، فيؤمنون بالنصوص العقيدية والأيديولوجية التي يعتنقونها على نحو يعيق العقل لديهم من استخدام قدراته لإدراك مدى نسبية الحقيقة التي تحملها هذه النصوص، أو مدى محدودية النظرة أو مدى خصوصية الزاوية التي ترى الأمور من خلالها، أو على الأقل مدى تجاوز الواقع التاريخي لهذه النصوص التي تكون قد مضى على وضعها عشرات السنين أو مئات السنين أو آلاف السنين، وتكون هذه النصوص قد وضعت أصلاً لتجيب عن تساؤلات أو لتعالج قضايا كان المجتمع يشهدها في العصور التي وضعت النصوص فيها، الأمر الذي يسقط العقل الإيماني هذا في فخ اللاتاريخية.
كي يتحرر العقل يجب أن تُحطم الأصنام الموجودة فيه

تحطيم أصنام العقل
ولكي يتحرر هذا العقل، يجب أن يحطم الأصنام الموجودة فيه، فبنية الإنسان العقلية كثيراً ما ترتكز على منظومة معايير ثقافية تستمد بعض جوانبها من مجموعة قيم ومقولات ومفاهيم وأقوال وأمثلة ومثل، متوارثة أو مكتسبة حديثاً، يعتمدها العقل كأدوات قياس، فيغدو العقل أسير أحكام مستَمدّة من ارتكازه على تلك المنظومة القيمية التي تمثل حالة صنمية تحكم العقل بمجموعة مقدسات ومحرّمات جامدة خارج إطار حركة التاريخ وما تحمله من تحولات في البنى الاجتماعية والثقافية.

وحرية هذا العقل تتطلب كذلك تحريره من القَدَريَّة التي تدفع الإنسان إلى الشعور بالعجز حيال إمكان تغيير السلطة. وتستغل السلطة هذه البنية القدرية في عقل الإنسان، فتمارس عليه لعبة استعراض القوة على نحو يزيد شعوره بالعجز عن إمكان إحداث أي تغيير فيها، فتغدو هذه القدرية ذريعة لتأبيد النظام أو لاستبداد السلطة.
والنظام الرأسمالي، كما تتابع الدراسة، يؤسس بدوره للفكر القَدَري، بهدف إبعاد الشعب والدولة عن التدخل في مصالح قواه. فالسوق لا تحتاج إلى راعٍ يديرها أو رأس يخطط لها وينظمها من خارجها، لأن السوق لها إلهها الذي يرعاها، وهي لها قدرها الذي لا يجوز أن يعاند أحد مشيئته، وبالتالي لا يجوز لطرف آخر كالدولة أن تتدخل في شؤون هذه السوق.

ولكي يتحرر العقل، على الإنسان أن يتحرر من مناهج التعليم ومن أنماط التربية المدرسية والأسرية ومن برامج الإعلام التي تقوم جميعها على المنحى التلقيني الإملائي. وهو منحى يؤسس عقلاً استسلامياً لدى الإنسان، خاضعاً للأمر الواقع، مقفلة أمامه آفاق رؤية الأمور بطريقة مختلفة.
لكي يكون العقل حراً يجب ألا يقع أسير الشكلانية في قراءته الظواهر والنصوص

ثنائية الخوف والإغراء
ويتساءل الباحث فارس أبي صعب: كيف يغدو الإنسان حراً إذا لم يتحرر عقله من ثنائية الخوف والإغراء؟

نجد الكثيرين من أصحاب العقائد الفكرية، بما فيها العقائد العلمانية أو حتى الإلحادية، يتعاطون مع عقائدهم تعاطياً إيمانياً

ولكي يكون العقل حراً، يجب ألا يقع أسير الشكلانية في قراءته الظواهر والنصوص. وعلى الرغم من أنّ هذه الظاهرة ليست بجديدة في مسيرة العقل البشري، فإننا نلحظ اليوم تعميماً متسارعاً ومقصوداً لها من جانب بعض المدارس البحثية الإمبيريقية في العلوم الإنسانية التي تركز على وقائعية الظاهرة وعلى نصية النص، وتبني نظامها المعرفي انطلاقاً من تلك الوقائعية أو تلك النصية، واضعة أمام العقل حدوداً تحول دون استخدام إمكاناته المعرفية والمنهجية التي تتيح له النفاذ إلى معنى النص بدلاً من التوقف عند حدود شكله، أو تتيح له فهم بنية الظاهرة وشروطها الزمكانية بدلاً من التوقف عند حدودها التعبيرية، الأمر الذي ينعكس على البنية الثقافية، التي يدخل العقل معها في دائرة مغلقة تساهم في جعل كل منهما يعيد إنتاج الآخر، وجعل هذه البنية أسيرة النظرة الشكلانية للبنية الفوقية للمجتمع في مختلف مستوياتها المتمثلة في الدين والحداثة والتراث ونظام القيم والتقليد والتجديد.
التحرر من الفقر والجهل والمرض
ويرى الباحث بأنه إذا كان تحقيق الحرية مشروطاً بمدى تحرر الإنسان من الفقر والجوع والمرض والجهل والأمية والخوف من المستقبل فلا يبدو أنّ هذين النموذجين السائدين على مستوى الدولة الوطنية وعلى مستوى النظام العالمي، يوفران حقاً شروط الحرية للإنسان بوجه عام، فالتفاوت في توفير هذه الشروط واسع جداً بين إنسان وآخر وبين شرط وآخر.

فكيف، يتساءل أبي صعب، نتحدث عن عالم حر في الوقت الذي لا يزال هناك أكثر من ملياري إنسان يتعرضون لجوانب متعددة من الحرمان في حياتهم، وفي الوقت الذي لا يزال متوسط الدخل في بلدان جنوب العالم لا يتعدى نسبة 7 في المئة من متوسط الدخل في بلدان الشمال، وفي الوقت الذي لا يزال هناك أكثر من مليار ونصف المليار من البشر يعيشون بأقل من دولار واحد يومياً، في حين لا يزال أكثر من 820 مليون إنسان جياعاً لا يحصلون على ما يكفيهم من طعام. وفي الوقت الذي لا يزال يوجد أكثر من 750 مليون إنسان أميين، وأكثر من 100 مليون إنسان مشردين بلا مأوى، وأكثر من مليار ونصف المليار إنسان يعيشون في مساكن غير مناسبة؟!

مواضيع ذات صلة:

- هل سنكون أكثر أخلاقاً إذ قلّصنا نوافذ الحرية؟

هكذا عاين زكريا إبراهيم مشكلة الإنسان والحرية والعجز عن إيقاف الزمن



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية