الإفراط في استخدام "أفعل التفضيل".. أحد عيوب العقل المتطرف

الإفراط في استخدام "أفعل التفضيل".. أحد عيوب العقل المتطرف


10/01/2018

في لغتنا العربية، هناك أسماء تصاغ على وزن "أَفعل"؛ للدلالة على أنّ شيئين اشتركا في صفةٍ، وزاد أحدهما فيها على الآخر، مثل: "كلاكما ذكي، لكنّ جارك أَذكى منك"، أو؛ كلّ منكما خيّر، لكنّ صاحبك أكثر خيرية منك. والوقوف عند هذا الحدّ لا ضير فيه، ولا إساءة، سيما إن كان الحكم مستقيماً، أمّا أن يسحب هذا إلى السياسة، ليتّخذ من "أفعل التفضيل" دليلاً على الأحقيّة في الحكم، أو تستخدم لترسيخ الشرعية، أو فرض الأمر الواقع على المحكومين، أو إثبات النقيض من كلّ هذا؛ أي عدم الأهلية للحكم، ونقض الشرعية، ورفض الأمر الواقع، فإنّ "أفعل التفضيل" هنا، ستفقد الكثير من براءتها اللغوية، وتتحول إلى أيديولوجيا شديدة الخطورة، على العقل السياسي، وعلى الممارسة، في آنٍ واحد، وهو ما نراه بوضوح في خطاب الجماعات والتنظيمات، التي توظّف الدين في تحصيل السلطة السياسية وحيازة الثروة.

نعم، قد تكون هناك ضرورة بلاغية لتوظيف "أفعل التفضيل" في الترجيح بين شيئين ماديين، متجسّدين في الواقع، أو في الطبيعة؛ حيث يكون في وسعنا أن نتحقّق، أو نتثبّت من هذا، لكن أن ينسحب هذا إلى المجال السياسي والاجتماعي، ويتم إطلاقه دون تقييد ولا تحديد، فإنّ لذلك ضرراً بالغاً على الفعل الجمعي، سيما حين تتلقف الآلة الدعائية هذا التفضيل، وتكرّسه على مدار الأيام، حتى يصير في رؤوس عموم الناس كأنّه حقائق لا لبس فيها، ولا يرقى إليها شكّ.

حين نقول: هذه الطاولة أكبر من تلك أو هذا الثور أضخم من ذلك فبوسع السامع أن يتأكّد بنفسه

فنحن، حين نقول: إنّ هذه الطاولة أكبر من تلك، أو إنّ هذا الثور أضخم من ذلك، فإنّ بوسع من يسمعنا أن يتأكّد من هذا بنفسه، ويكون من السهل عليه أن يحكم على صدق ما سمع. لكن، حين يتم نقل الأمر إلى المجال المعنوي والقيمي والرمزي، فلن يكون في وسعنا حسم حكم التفضيل بين أمرين، بهذه البساطة والسرعة والدقة، فإذا قلنا: إنّ شخصاً أكرم من آخر، فنحن بحاجة إلى تقديم أدلة على هذا الكرم، وفي الوقت نفسه، سنأخذ في الاعتبار أنّ مفهوم الكرم نفسه قد يتفاوت تعريفه أو تقديره من شخصٍ إلى آخر، بوصفه منزلةً بين التقتير والتبذير، كما أنّ المنتفعين من كلا الشخصين قد يختلفان حول تحديد أيّهما أكرم من الآخر، علاوةً على أهواء النفس، التي قد ترى الزين شيناً، والشين زيناً.

ويزداد الأمر صعوبة، إن انتقلنا إلى مجال قيمة أكثر تجريداً، فعلى الأقل، الكرم له جانب مادي متعين، أما إن قلنا: إنّ فلاناً أخلص من فلان، نكون قد انتقلنا إلى مجال حكم وتمييز أصعب، فالإخلاص شعور مربوط بالطوايا والسجايا والنوايا، وحتى إن كان يتم التعبير عنه بالسلوك، أو التصرف، الذي يظهر لنا، ويكون بمقدورنا مراقبته، فليس هناك من يضمن لنا ألّا يكون هذا الظاهر خادعاً، فيبدي شخص الإخلاص لآخر، بينما هو، في حقيقة نفسه، يضمر له الغدر والخيانة.

إذا قلنا: إنّ شخصاً أكرم من آخر فنحن بحاجة لأدلة آخذين في الاعتبار أن الكرم يتفاوت تقديره وتعريفه

ولأنّ الفعل السياسي جمعي بطبيعته، فإنّ أفعل التفضيل لا تبدو قادرة على وصف الحال، ولا يمكن أن تستعمل بطريقةٍ علميةٍ، وليس بوسعها أن تتفادى الدعاية السياسية، فنحن يمكن أن نقول: إنّ فرداً أذكى من فردٍ، لكن إن قلنا: إنّ شعباً أذكى من شعبٍ، فإنّ مثل هذا القول المُسيّس يقع في فخّ الدعاية، ويبدو لنا مشبعاً بروح العنصرية، واقعاً في فخ "الحتمية البيولوجية"، التي طالما صبغت رؤى تصوّر أصحابها أنّ شعوباً بعينها قادرة على تحقيق التقدّم، أو بإمكانها بناء الحضارة، بينما هناك شعوب تفرض عليها جيناتها الوراثية أن تظلّ متخلّفةً تابعةً خادمةً، واقعةً في ذيل الحضارات الإنسانية، أو حتى تمثّل عبئاً عليها.

وقد نقترب أكثر في توظيف "أفعل التفضيل" سياسياً، حين نكون بصدد المقارنة بين اثنين، يتباريان في انتخابات عامة مثلاً، أو الموازنة بين قيمة زعيمين تعاقبا على حكم بلدٍ، أو حكما بلدين مختلفين، فنقول: هذا أعظم من هذا، أو ذلك أقوى من ذلك. وتزداد وطأة استعمال اللغة المجازية تلك، في الوقت الذي يرتفع فيه صوت الدعاية السياسية، وهنا يقول عالم البلاغة الكبير، د. مصطفى ناصف، في معرض حديثه عن جانب من التوظيف السياسي للغة: "هذا زمن الاعتراف بأهمية الدعاية، وفتح الملفات، وكشف الخصومات، وتكوين الخضوع، هذا زمن حرب الكتابة، حرب الهيمنة، تكوين التشتت، وإنتاج الوسائل في حركة السياق الاجتماعي. ثقافة الجماهير موضوع عجيب من أجل السيطرة على الجماهير، قلّ أن تجد دفاعاً غير مقيد الآن عن الكشف الموضوعي، هناك توجه نحو الانتفاع بالريب، وتسويق الأفكار، والتردد بين الواضح والأقل وضوحاً".

تزداد وطأة استعمال اللغة المجازية دائماً في الوقت الذي يرتفع فيه صوت الدعاية السياسية

في الدعاية يكون لـ "أفعل التفضيل" دور كبير، حين تشتدّ المنافسة، أو تنزلق إلى صراعٍ، فيتعمّق التعصب والانحياز، وهنا يرى أعضاء كلّ حزب أنّه أعظم من غيره، وأتباع كلّ زعيمٍ أنّه أكثر وطنيةً من الجميع، وأنصار كلّ فكرةٍ، أو أيديولوجية، أنّها أبرع من سائر الأفكار، وأكثر تعبيراً عما يدور في عقول الناس، وأقدر على تلبية احتياجاتهم.

ويتعمّق هذا الوضع في الحروب؛ حيث يقال: "جيشنا الأحقّ بالنصر"، وهو "الأكثر" احتراماً لقوانين الحرب. وقد يأخذ الأمر منحى عنصرياً، حول الأكثر تحضراً، بالتالي، فإنّ الأفضل للجميع أن ينتصر هذا الطرف؛ لأنّ انتصاره في مصلحة البشرية، أو سكان الدولة أو الإقليم. ويمكن أن نضرب مثلاً، هنا، بالجدال الذي دار خلال الهجوم الأمريكي على أفغانستان، في تشرين الثاني (أكتوبر) من عام 2001، بعد تفجير برجَي مبنى التجارة العالمي في نيويورك، في 11 سبتمبر من العام نفسه، حول ما أورده نوسترادموس في نبوءته الشهيرة، التي صاغها على شكل مقطوعات شعرية عن هذه الحرب؛ حيث قال: "نار في مركز الأرض سوق، تتناطح صخرتان عظيمتان، وتسيل أنهار من الدماء، وينهزم البرابرة". تم تفسير هذه المقطوعة، حينها، على أساس أنّ العبارة الأولى تعني "مركز التجارة العالمي"، والثانية تعني الصراع بين المسلمين والمسيحيين، واختلِف حول الأخيرة؛ إذ رأى كلّ طرفٍ أنّه الأكثر تحضراً، وأنّ الآخر هو البربري، أو على الأقل، "الأكثر بربريةً"، بالتالي؛ فإنّ هزيمته آتية لا محالة.

الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش أخطأ حين استعمل لفظ "الصليبية" في تسويقه وتسويغه للحرب

لكنّ ما جرى على الأرض، جعل كلّ طرف يعود إلى الواقعية السياسية، فبعد حديث عن "الأقوى"، و"الأقدر"، وعن "النصر" في خطاب الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج بوش، الذي أخطأ حين استعمل لفظ "الصليبية" في تسويقه وتسويغه للحرب، وجدنا وزير الدفاع الأمريكي، روبرت جيتس، يقول في آخر مؤتمر صحفي له، في معرض إجابته عن سؤال: عمّا إذا كانت الولايات المتحدة قد حققت نصراً في أفغانستان؟ "لقد تعلّمت بعض الأشياء في أربعة أعوام ونصف العام، وأحدها: أن أحاول تجنّب الكلمات المشحونة، مثل: الانتصار والخسارة، وما يمكنني قوله: إنّني "أعتقد أنّنا نجحنا في تنفيذ خطة الرئيس، وأعتقد أنّ عمليات جيشنا كانت ناجحة في منع طالبان من السيطرة على المناطق المأهولة، وقلّلنا من قدراتها، وطوّرنا من قدرات القوات الأمنية الأفغانية".

فهذا القول، الذي جاء بعد أعوامٍ من الحرب، ينزع إلى النسبية، وينأى بنفسه عن "المعادلات الصفرية"؛ لذا استعمل صاحبه كلمة "أعتقد"، وقصر النجاح على تحقيق أهداف جزئية، ناجياً من فخّ المبالغات، التي وصمت الخطاب المتبادل في الأيام الأولى للمعارك، واستخدمت فيها "أفعل التفضيل" بإفراطٍ، في إطار دعاية سياسية، أو حرب نفسية، خاضها الطرفان المتقاتلان بلا حدود.

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية