أحزان العربيّ على بوّابة عام جديد

أحزان العربيّ على بوّابة عام جديد


28/12/2017

أضحى اللجوء إلى خيال العرّافين، وجموح العرّافات خيارَ العرب الرابضين قرب فوّهات البراكين، ينتظرون المعجزات التي يتسربل بها العام الجديد، الذي توشك أيامه على البزوغ. وما أطيبَ البزوغ لو أنه يستمر دوماً، معلناً عن فجر نديّ غير ملوث بغبار المدافع وبارود الكراهية.
بيْد أنّ الأحداث لا تؤخذ على محمل الأماني دائماً، فثمة إكراهات تُرغم الأحلام على التراجع، فتذوّب غصنها وتمتص رحيقها الواعد. تلك آثام السياسة، ومعاصي السياسيين، وذلك في نتائجه الأخيرة والحاسمة نتاجُ تثاؤب الشعوب التي استمرأت التكاسل والتواطؤ مع الخراب.

ثمة مَن لا يجد قوت يومه، فلا يخرج على الناس شاهراً سيفه. إنه زمن انقراض الحيلة واهتراء العزم

كم حلم الناس في عامهم الذي يوشك أن ينصرم؟ كم تمنى العرب المرميون من حواف الماء إلى رمال الصحراء أن يكون 2017 عاماً للانفراج والرخاء وصمت المدافع. لكنّ الأمنيات انقلبت على النقيض من أهوائهم، فاندلعت حروب، واشتعلت حرائق، وتضاعف عدد القتلى والمهجرين والمنفيين، حتى ليكاد العربي، في هذه القنطرة المؤلمة، أن ينتسب إلى كل شيء سوى انتسابه إلى العروبة التي يسيل على حوافها الدم والبؤس وانعدام الرجاء.
سيختبئ الرجل، الذي بالكاد يعود إلى منزله محملاً بكيسين من الخبر وبعض أكياس شحيحة من الخضار والفواكه، وراء تعاويذ دينية تقي روحه من الانشطار والتمزق. سيقول في سره وعلانيته إنّ ما نراه من فتك إنما هو امتحان للكائن الذي كلما أحبته السماء زادت من آلامه. سيخلد إلى تلك المسكّنات، ويؤوي إلى نومه الكابوسي، حالماً بغد كان رآه، ربما، في فيلم رومانسي يتكلّل بنهايات سعيدة على مشهد غروب شمس فوق بحيرة!
أما المثقف، أو من يقف على أعتاب معرفة يسيرة تمكّنه من أن يرى أبعدَ من أرنبة أنفه، فربما يذهب إلى اجتراح أمل من محفوظاته الشعرية أو الفلسفية، ولا ريب في أنه سيردّد المقولة المخدّرة الخالدة: "ما أضيقَ العيش لولا فسحة الأمل"، ثم قد يبحث عن قلم ليكتب شيئاً فيحتاج إلى ورقة، أو قصاصة ورق، فيفتح محفظة نقوده، فيراها تجأر من الإفلاس، كأنما تذكّره على نحو ماكر بـ"فسحة الأمل" التي لم تجف حروفها على شفتيه. أيّ أمل يا هذا، وأنت لا تقوى على... ولا على... ولا على ... إلى أن تمتلىء الورقة أو القصاصة بالمستحيلات؟!

الأمل يحتاج إلى قوى تطلعه من دياجيره. يحتاج أيضاً إلى عزائم وإرادات توجهه، لا إلى عمائم تخدّره

تلك بعضُ أحزان العربي في هذه القنطرة الملتبسة من عمر القهر والهزيمة وانسداد الآفاق. لا شيء يمكنه أن يطفئ نيران الفقراء الملقيّين في شوارع وقرى العالم العربي وأزقته. وثمة حقاً مَن لا يجد قوت يومه، لكنه لا يخرج على الناس شاهراً سيفه. إنّه زمن انقراض الحيلة واهتراء العزم، يقول الرجل الذي أخفق في أن يقول (لا)، بعد أن هدّده الشرطي بأن يجعله يبتلع لسانه. الرجل المنكوب بالذعر والخسارات لبّى، طواعيةً، نداء الشرطي فبلع لسانه، وصار حنجرة بلا صوت.
لا تودّ هذه الكتابة أن تسكب المرارة في الحلوق، ففي الحلوق ما يكفي. إنها (أي هذه الكتابة) لا ترغب في أن تتورط في ادّعاء الأمل، أو المشي في دروب العرّافين الذين لا يميلون إلى تدمير رجاءات البشر، فالإنسان في المشرق والمغرب العربيين مجبولٌ على توقع الخير وانتظار أمطار العدل والإنصاف والمساواة، ولو كان في وسط صحراء لا نبت فيها، ولا ماء، ولا غيمة شاردة، من بلاد رزقها الله بالغمام أو حتى الرذاذ.
الأمل يحتاج إلى قوى تطلعه من دياجيره. يحتاج أيضاً إلى عزائم، لا إلى عمائم، فالأولى إن قويت واشتدّ ساعدها تستطيع أن تحاصر الثانية، لكنّ الذي يجري يثبت أنّ الثانية هي من يتحكّم في توجيه البوصلة؛ حيث ينشغل الناس بكل ما صَغُرَ وسَخُفَ، فلا ينتبهون، بالتالي، إلى آلامهم، ولا يدركون مكابداتهم الكبرى، وتلك إحدى وظائف الأفكار الدينية التي وصفها "ماركس" بالأفيون. لذا أصبحنا كائنات مترنّحة، كلما انخفض منسوب المخدر في دمائنا ضاعفناه بالتراتيل والأدعية والسحر والفتاوى التي تحلّل أكل اللحم الآدمي، ونكاح الزوجة المتوفاة، وطبع قبلة الوداع على وجه الموت.

التغيير يبدأ بفكرة تندلع من عقل متوهج غير مستسلم ولا مدجّن ولا تابع. عقل مستقل. وبالفكرة تتغذى الخطط

"إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا بما بأنفسهم" فهل أتاكم حديث هذه الآية. هل تبصّرتم به، وأيقنتم رسائله المضمَرة والواضحة. هل يمكن أن يكون تغيير من دون عقل يقوده، وإرادات توجّهه. هل تمطر السماء ذهباً على قوم غارقين في الخرافة والعجز والتبرّم من الأقدار التي قادهم إليها، بالضرورة، الآخرون/ الأعداء/ المستعمرون/ الطغاة أو الزناة، لا فرق!
التغيير يبدأ بفكرة تندلع من عقل متوهج غير مستسلم ولا مدجّن ولا تابع. عقل مستقل. وبالفكرة تتغذى الخطط، وتُروى شرايين المشاريع. لا ضير لو كانت الأفكار صغيرة، المهم أن تكون وتولد. والأهم ألا يبقى العربي منتظراً فارساً على حصان أبيض يحمله على بساط الريح، ويصحبه إلى حيث مصباح علاء الدين المضاء بالأمنيات.
فهل يستيقظ العربي، ويهزّ دماغه بعنف ليدرك أنه: "ما حكَّ جسمَك مثلُ ظفرك، فتولَّ أنتَ جميع أمرك"؟!

 

الصفحة الرئيسية