شاب يروي قصة ضياعه مع السلفية

التطرف

شاب يروي قصة ضياعه مع السلفية


10/01/2018

لا يعتبر يوسف نفسه ملحداً، ولا يصنّف ذاته اليوم على أساس ديني؛ بعض الطقوس الدينية يلتزم بها لأسباب اجتماعية مثل؛ صلاة الجمعة كلّما أمكنه، لكنه يفطر في رمضان سراً، ويرفض المرجعية الدينية في الحياة، في أي تجلٍّ سواء الفضاء العام أو الخاص، لم يكن السبب وراء ذلك فقدان إيمانه، إنما عامل نفسي يعقد صلة بين الطقس الديني وجماعة وأفراد السلفية بعد أن خيّبوا أمله في الحياة الفضلى التي كان يتوق إليها.

في رحاب السلفيين

خمس سنوات كاملة من عمر يوسف، الطبيب المتخرج حديثاً من إحدى جامعات دلتا مصر، في نهايات عقده الثاني، قضاها بين مساجد السلفيين؛ حيث يمتنع عن الصلاة خلف إمام وزارة الأوقاف أو دخول المساجد التابعة إليها، يحضر الدروس الدينية بانتظام، ويجلس في حلقة لتجويد وقراءة القرآن بعد العشاء يومياً، ولا يتطرق في تلك الحلقات حديث سياسي من أي نوع، إلا أنّ بعض المشايخ كانوا إذا اضطرهم الحديث إلى مناقشة تتعلق بالواقع السياسي، ومشاكله في مصر، كان الرأي السائد هو وجوب الطاعة للحاكم لعدم إحداث فتنة؛ بل يؤكد يوسف أنّ غالبية من عرفهم وأخذ منهم العلم الشرعي أيّدوا الرئيس الأسبق مبارك، واعتبروه "ولي أمر" ورفضوا الثورة والعمل السياسي والحزبي.

5 سنوات قضاها يوسف بين السلفيين قبل تخرجه طبيباً امتنع خلالها عن الصلاة خلف إمام وزارة الأوقاف

كان خطاب "إمام الحكومة"، بحسب التوصيف الذي درج على تسميته يوسف وقتها وطوال مدة انتمائه السلفي، يعمد إلى تأييد الحكومة، بما يجعله يفقد المصداقية لديه مثله مثل الأزهر، بالرغم من التقدير الذي يوقّره السلفيون للمؤسسة الدينية، باعتبارها قيّماً على أمور الدين وتحفظه، لكن تعتبرها في الوقت ذاته، أحد ملحقات السياسة التي لا تتورع عن التغاضي عن بعض الأمور الذي ينبغي الانتفاضة ضدها، مثل المهادنة وتمييع بعض القضايا الخلافية؛ كالموقف من المسيحيين وحضور المناسبات الدينية لهم، وتقديم الأولوية في الموقف السياسي على الموقف العقائدي، بتوصيفهم "مواطنين" وأصحاب عقيدة "بدون بيان كفرها وعدم صحتها وتحريفها"، حتى لا يفسد إيمان المسلم وتفتنه، وتنقية العقيدة من قضايا علم الكلام والفلسفة.

فيما يستطرد يوسف، في حديثه لـ"حفريات"، أنّ موقف الأزهر بالنسبة له ظل وما يزال حتى بعد خروجه عن السلفية يفقد مصداقيته، لكن، مع الفارق النوعي بين اللحظة التي يقف عليها اليوم؛ ففي فترته السلفية الأولى، لم يتناوب على قراءة شيء سوى الكتب الشرعية، وسهلت كتب الشيخ محمد حسين يعقوب وأبي إسحق الحويني فهم ودراسة كتب أصعب في التراث مثل؛ "البداية والنهاية" لابن كثير، وبعض مؤلفات ابن القيم، كما قرأ العقيدة الطحاوية؛ هذه الحصيلة المعرفية لم يتخللها سوى روايات للعقاد وكتبه الخاصة بالعبقريات، على وجه التحديد، حتى أنه عندما قرأ روايته الرومانسية الوحيدة "سارة"، التي تروي قصة ارتباطه العاطفي بفتاة، وسيرة هذه العلاقة وتحولاتها في سردية خلخلت بعض إيمانه في حينها، شعر تجاه هذا الأمر بتأنيب ضمير ولم يبح بسره لأحد، حتى كان يختلط في نوبات عصبية تجاه بعض المشاعر المضمرة داخله.

بحث عن الطمأنينة

خلال دراسته الثانوية، تلك الفترة التي تصادف فيها تنامي قنوات التيار السلفي، مثل قناة الناس التي بدأت البث العام 2006 بإعلان ترويجي في فواصلها الإعلانية بأنها "شاشة تأخذك للجنة"، ارتبط يوسف بها وببرامجها وشيوخها، وهيمنت عليه هذه النزعة الإيمانية القوية والحماسية، بحسب ما يروي. لم يكن يعاني من شيء دفعه للانخراط في الفكر السلفي، كما يقول، كانت لديه رغبة حثيثة في الحصول على تكوين بحياته يضبط فوضويتها ويشعر معها بسند معنوي، ما يزال حتى اليوم يفتقده، بعكس الفترة الأولى في سلفيّته، التي كان يشعر فيها بكثير من الاطمئنان والراحة النفسية العميقة؛ حيث أول ما سيطر عليه في حينها، هو حديث الرسول عليه السلام: "إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيراً. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".

انقلب يوسف خارج التيار السلفي والديني تماماً بعد الاطلاع على كتب تشرح أبجديات الفكر السياسي ومفاهيم الديمقراطية والعلمانية

وبالتالي، كان عليه أن يضمن وجوده في الجماعة المؤمنة والفئة الناجية على منهج السلف، وهو ما جعله يتبع الهدي الظاهر باستعمال المسواك وحف الشارب وإطلاق اللحية والتزامه بالجلباب القصير، فضلاً عن اتباع السنة في المشي والنوم، وغيرها من التفاصيل الحياتية؛ حيث كان يرد التصدعات الموجودة في الأمة ومشكلاتنا الداخلية وكافة الخلافات السياسية بسبب عدم فهمنا لعقيدة التوحيد واتباع سنة النبي وسلفه، والتي يفسرها حديث الرسول: " تفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة". قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي".

كانت العقيدة بالنسبة له بمثابة العروة الوثقى التي تلتحم بها أجزاء الجماعة المؤمنة، وتشد عضدها، وتكون منها رابطة يمكنها تحقيق الانتصار والتفوق، لكن أن تكون العقيدة بفهم الدين الصحيح والبعيد عن البدع، كما يذكر ويعتقد في حينها؛ أي الإيمان الجازم بالله تعالى، وما يجب له من التوحيد والطاعة، وبملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، وسائر ما ثبت من أمور الغيب، والأخبار، والقطعيات، علمية كانت أم عملية، التي "أفسدها" انتشار البدع، والتخلي عن السلف والاقتداء بهم وأئمة الهدى في القرون الثلاثة المفضلة، ومعهم أهل الأثر وأهل الحديث.

منعطف 25 يناير

لم يكن ثمة شيء يعكر صفو هذا الإيمان السلفي لدى شاب يضع كل همه الإنساني والعقلي والمعرفي، في طاعة الفكر السلفي بحماس شديد وتقوى حقيقية، ولا ينحرف عنها، فيخرج معهم في الدعوة للشوارع وتوزيع أوراق دعوية تحض على الالتزام بالسنة وتوزيع بعض الهدايا؛ مثل، مصاحف صغيرة أو المسواك والعطور الحلال، كالمسك (لعدم توافر مادة الكحول فيه)، لكن الأمر الوحيد الذي شكل منعطفاً جذرياً في حياته، هو اندلاع ثورة 25 كانون الأول (يناير) 2011 التي لم يتابع دعواتها وأحداثها، لكنه، تفاجأ بحدوثها وتعاقب فصولها، التي امتدت إليه للوهلة الأولى مع الخروج الأول لرئيس الجمهورية، عندما أعلن استقالة الحكومة وتشكيل غيرها، اصطدم مع شباب قريته للمرة الأولى، الذين لم يكن يختلط معهم أو يجمعهم شيء؛ بل يقول إنّه اكتشفهم في هذه الأثناء كأنه وافد جديد على بلده.

ففي البداية اشتبك معهم في تبرير نأي الشيوخ السلفيين عن المشاركة في الثورة وموقفهم المضاد لها، ومحاولة صد اتهاماتهم بالعمالة للأمن وممالأة النظام، خاصة، بعد أن تحوّل ساحة المسجد الكبير في القرية التابع للأوقاف، في يوم ما عرف بـ"جمعة الغضب"، إلى دعوة للتظاهر أمام المحافظة التابعة لها قريتهم، مما جعلت مشاعر مختلطة تعتمل داخله وشعر برغبة مترددة في المشاركة لكنه لم يفعل. وبقي الأمر الذي حرك هواجسه وشحن نفسيته المطعونة منذ ذلك الحين، عندما دار الحديث في أشكال الحكم الديمقراطي والليبرالي والعلماني، فكانت المصطلحات طازجة تماماً عليه، واكتشف فجأة أنها لا تستدعي في نفسه، سوى ما كان يسمعه من المشايخ، بأنها "نظم شرك مخالفة لشرع الله وتعطل أحكامه"، وتتسبب في "مظاهر الخلاعة والفسق" في العالم الغربي، الذي يحاول فرضها على المسلمين، والممزوجة لديه بالتطاول على الدين.

اكتشف بالقراءة والاطلاع تدليس الخطاب السلفي وحيله بغية التعمية عن كثير من المشاكل التي لا يملك حلاً لها

حصل انفتاح سياسي تسببت به الثورة، بولادة تيارات سياسية تمددت في أقاليم وقرى مصر، كانت تفتقدها، وحدوث حالة من الزخم السياسي والفكري، ليس فقط بظهور قوى وتيارات ليبرالية ويسارية على السطح تتمدد بنفوذها، لكن عبر وجود أكثر من فصيل إسلامي وتكتل ديني متعدد، سمح بظهور الاختلافات والتناقضات، سواء السلفي والإخواني، المنتظمة في أحزاب أو الموجودة خارج أي أطر تنظيمية متماسكة وسائلة، والتي برز منها، وجود سلفيين انضموا للثورة، بمظهرهم التقليدي المتمايز بالميادين، خارجين عن النسق العام الذي فرضته فتاوى العديد من أئمة وقيادات السلفيين والدعوة السلفية بالإسكندرية، في بياناتهم المعلنة والمنشورة عبر منصاتهم الإلكترونية، وكذلك، الانشقاقات التي حدثت في الجسم الإخواني، وظهور تخريجات فقهية ودينية مغايرة للسائد، لدى كل المنسلخين من تنظيماتهم وكياناتهم الدينية الواسعة، لطرح رؤيتها بما ينسجم مع المرجعية الدينية التي تحاول تثبيتها بغية الحصول على مشروعية تجاه موقفها السياسي، وهو ما أدى إلى تصدع احتكار الخطاب الديني ونفوذه في حيازة هيئة أو جماعة، وساهم في حدوث عدة انشقاقات وانتقالات في الفضاء العام، سواء داخل المربع الديني، بمده وجزره وانحساره وانفتاحه، أو المرور من البوابة الدينية تماماً وفقدانها الصلاحية والانضواء إلى تيارات نقيضة.

الخلاص من الهيمنة السلفية

ذلك الأمر الأخير، هو ما حدث مع يوسف الذي انقلب خارج التيار السلفي والديني، تماماً، وحرضته الأحداث والاستقطابات الأيدولوجية والسياسية، على الاطلاع على كتب تشرح أبجديات الفكر السياسي ومفاهيم الديمقراطية والعلمانية، كما قرأ بإفراط أبرز الروايات الشهيرة في ذلك التوقيت، فتكوّن لديه إعجاب شديد كما يذكر برواية: "عمارة يعقوبيان" للكاتب علاء الأسواني و"تراب الماس" لأحمد مراد، الذي رأى فيهما تعبيراً واقعياً ودقيقاً لكثير من المشاعر المستترة في باطنه، وحاول إخفاءها، وكان أبرز ما فاجأه فيما قرأ، هو أنّ ثمة بشراً يملكون القدرة على بناء سيناريو متخيل عن المستقبل والتبشير بالثورة ورفض القائم وتغييره.

يوسف: توقفت عن الصلاة ولم يكن السبب فقدان إيماني إنما الارتباط بين قيامي بهذا الطقس الديني وجماعة وأفراد

يقول يوسف "شعرت بنقمة غريبة تجاه كل شيء"، متابعاً "توقفت عن الصلاة، لكن لم يكن السبب وراء ذلك فقدان إيماني، إنما الصلة العضوية بين قيامي بذلك الطقس الديني المرتبط بجماعة وأفراد، حدث فيها فتور وتطور إلى قطيعة، بات الأمر بالنسبة لي هو أنني لا أريد الانتظام مع هؤلاء، وفقط".. ويضيف: "كانت مراجعة شاملة لكل ما قامت عليه حياتي في السابق، حيث كان المتغير الجديد الذي يعتمل في داخلي، وتسبب في عدم توازني النفسي، هو وجود تحقق جديد ومهم انتسب له شباب من جيلي، يتحدث عنه الإعلام والناس في كل مكان، حتى أهلى، وكأنهم ظفروا بانتصار له سحره، فيما أبدو بحالتي المتشددة في منطقة بعيدة بلا إحساس ولا قدرة على الفهم أو التواصل، وشعور بالعجز وعدم النفع وتردد نفسي معقد، عندما تجد هويتك فجأة بلا صلاحية حقيقية وتنزع عنها الحماية بسهولة".

وكانت بعض الأمور التي انتبه إليها، هو الحديث عن أمور التشريع من خلال مرجعية النص الديني، التي تبدو من وجهة نظره الحالية تفتقد أي معايير سليمة ومنطقية، فضلاً عن رفضه أي ضرورة تجعل منها أساساً ينتصب عليها قانون أو حكم؛ فمثلاً، في الاقتصاد تقتصر الرؤية السلفية على تفعيل مؤسسات كالزكاة والوقف، ورفض النظام الربوي وقوانين البنوك والتمويل والإقراض، فيما يعتبره أمراً غامضاً وضيقاً مع فضاء مغاير يتحرك وفق مقتضيات السوق العالمي الجديد، وأشكال الإنتاج الحديثة والشركات العابرة للقارات وحجم الأرباح الضخمة، وغيرها من أمور، بعيدة تماماً عن تصوراتهم القديمة، ويردف متسائلاً، كيف للجسم السلفي أن يتشارك في السوق العالمي، وفق رؤيته الإسلامية المبنية على هذه المعايير ورفضه للشروط القائمة؟ وكيف سينافس بمؤسسات الزكاة والوقف في مقابل حجم الأرباح التي تخرجها شركات الأدوية والصناعات الثقيلة والسلاح وسياحة الشواطئ؟

أسئلة أخرى كانت تتبادر إلى ذهن يوسف وهو يعرج خارج الهيمنة السلفية بتشكلاتها الفكرية عليه، وهي المساومة على بعض القضايا الوطنية وحقوق الفقراء؛ ففي الأخيرة، ثمة مفهوم غريب يستدعيه من ذاكرته عندما فسّر له مشايخ السلفية، الفقر بأنه عدالة من الله الذي خلق الحياة بتوازن ومقدار سليم وتنوع فيها كل الطبقات والمستويات، وفيما كانت هذه الرؤية مستقرة في عقله ويقبل بها، إلا أنه من خلال القراءة، الذي يصفها بـ"العنصر الوافد الجديد" في حياته، والاطلاع على تجارب دول ونظم مختلفة، من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بدأ يكتشف سؤالاً حول ماهية الفقر والتدليس الذي يمارسه الخطاب الديني السلفي وحيله، بغية التعمية عن كثير من المشاكل التي لا يملك حلاً لها.

 

الصفحة الرئيسية