5 مبدعين اضطهدهم جمال عبدالناصر ونظامه

مصر

5 مبدعين اضطهدهم جمال عبدالناصر ونظامه


10/01/2019

"ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد". بنبرات صوته التي ألفها المصريون عبر المذياع، رنت تلك العبارة للرئيس الراحل جمال عبدالناصر، لتتحول فيما بعد إلى شعار ثورة يوليو، التي أتت إلى المصريين حاملة وعود الحرية، إلّا أنّها لم تكن كذلك في مختلف السياقات؛ فقد عانى البعض في عصرعبدالناصر من الاضطهاد والنفي والاغتراب، الذي رافقهم حتى الموت.

اقرأ أيضاً: فضاء الأندلس يغازل خيال روائيين مصريين

"حفريات" ترصد أحوال خمسة مبدعين كابدوا عذابات الإقصاء والتهميش والمضايقة، وهم في أحضان مصر الناصرية:

أولاً: محمد فوزي (1918/1966)

"بلدي أحببتك يا بلدي، حباً لله وللأبد"، بعد إعلان هزيمة 1967، وقعت الإذاعة المصرية في ورطة، إذ لم تجد سوى أغنيات وطنية مشيدة بعبدالناصر، غناها عبدالحليم، وأم كلثوم، ومحمد عبدالوهاب، ولم تجد سوى أغنية وحيدة لمحمد فوزي، أذاعتها في هذا اليوم، جاءت تلك الحكاية على لسان سمراء النيل الراحلة "مديحة يسري"، رفيقة دربه، وحافظة أسراره، تلك الأغنية التي غناها عام 1963 في ذكرى الثورة، بعد رفضه تقديم أغنية مديح لعبد الناصر كما فعل رفاقه، فانتصر على النظام الذي سلبه كل ما يملك ومات حزيناً.

الفنان محمد فوزي

نشأ الفنان محمد فوزي في مدينة طنطا، وبدأ الغناء في تجمعات المولد الأشهر للمدينة "مولد السيد البدوي"، ثم انطلق إلى القاهرة ملتحقاً بمعهد الموسيقى العربية (معهد فؤاد الأول) وقتها، وبعد عامين ترك الدراسة، بعد أن ارتبط بصداقة وطيده مع مجموعة من الفنانين على رأسهم فريد الأطرش، وبعد رفض الإذاعة المصرية بث أغانيه، عكف على إعادة إحياء تراث الشيخ سيد درويش البحر، ليتربع بعدها على عرش السينما والغناء المصري، طيلة الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، ثم أعلن مشروعه الوطني بضخ كل مدخراته في إنشاء شركته الخاصة "مصرفون"، لتصنيع أسطوانات الموسيقى.

وقع نجيب سرور فريسة اضطهاد نظام عبدالناصر ومخابرات صلاح نصر، التي أودعته مستشفى الأمراض العقلية ليموت وحيداً بين جدرانها

واستطاع من خلالها منافسة المنتج الأجنبي، حيث تم تصنيعها محلياً، وبنصف تكلفة المنتج الأجنبي، بالإضافة لقدرتها على الاحتفاظ بأغنيتين بدلاً من واحدة، وتقديم حقوق الانتفاع للمغني، لأول مرة في مصر، إلّا أن عجلة التأميم لم ترحمه، فقد أممت ثورة يوليو شركته الخاصة التي وضع فيها كل ما يملك، وتم تعيينه فيها موظف بمبلغ 100 جنيه بعد أن كان صاحب الشركة التي تدر دخلاً شخصياً له بقيمة ألف جنيه، بالرغم من أن التأميم لم يطل شركة عبدالوهاب "صوت الفن"، وبعد نصيحة المقربين منه بالتقرب للنظام حتى يتمكن من استرداد أملاكه، رفض فوزي بشدّه وغنى أغنيته الشهيرة، ليصاب بعدها بفترة وجيزة بتليف الغشاء البروتيني في الكبد، والذي تسبب في وفاته، لعدم وجود علاج وقتها، والذي أطلق عليه طبيبه الألماني "مرض فوزي"، وبعد وفاته بعام واحد تُجبر الإذاعة على إذاعة أغنيته الوحيدة التي لم يمجد فيها سوى الوطن.

ثانياً: درية شفيق (1908/1975)

"قوة الحق هي التي أدخلتنا هنا"، بتلك الكلمات اجتاحت درية شفيق، و1500 امرأة من رفيقاتها البرلمان المصري في التاسع عشر من شباط (فيراير)عام 1951، ليمنعها رئيس البرلمان، إلّا أنّها استطاعت إغلاق القاعات لمدة 4 ساعات، مطالبة بالمشاركة السياسية للنساء وحقهن في الانتخاب، وتعديل قوانين الأحوال الشخصية الخاصة بالمرأة المصرية، والعديد من الحقوق التي لم تطالب بها العديد من النسويات ربما حتى يومنا الحالي، إلّا أن رئيس البرلمان وعدها بالنظر في منح حق الانتخاب للنساء، ولم يتلفت إلى بقية المطالب، وبتلك الحادثة، حظيت درية بمكانة رفيعة بين النساء الثوريات في العالم العربي، والتي حاول فيما بعد عبدالناصر محوها من التاريخ.

اقرأ أيضاً: الأقباط والتوازن الصعب.. من عبد الناصر إلى السيسي

ولدت درية أحمد شفيق في  الرابع عشر من كانون الأول (ديسمبر)، بمدينة طنطا، لأسرة من الطبقة المتوسطة، وبعد حصولها على الابتدائية، أجبرت على استكمال دراستها منزلياً، حيث الذكور وحدهم من يحظون بالتعليم العالي آنذاك، واستطاعت استكمال تعليمها، والحصول على مراكز متقدمة على مستوى المملكة المصرية وقتها، ثم توجهت إلى هدى شعراوي، إحدى نجمات الوسط الثقافي والتي استطاعت تقديم منحة دراسية بجامعة السوربون الفرنسية، لتستكمل دراستها وتحصل على الماجستير والدكتوراة، وتعود إلى القاهرة مشاركة في مسابقة ملكة جمال مصر، والتي اعتبرها الإعلام وقتها فضيحة مدوية، حيث منعت المصريات المسلمات من المشاركة في المسابقة، والذي تسبب أيضاً في رفض جامعة القاهرة طلبها الالتحاق بهيئة التدريس، عقاباً على فعلها.

نددت درية شفيق بحكم عبدالناصر ووصفته بالديكتاتور

عام 1957 نددت شفيق بحكم عبدالناصر، ووصفته بالديكتاتور، ما أدى لإغلاق صحيفتها ومصادرة كل أعمالها، وتحديد إقامتها منزلياً، وإجبارها على الطلاق من زوجها بعد سجنه وترحيله خارح مصر، وسعى الإعلام وقتها لمحو سيرتها من السجلات والتاريخ الثقافي لمصر، حتى رحلت عن عالمنا منتحرة من الطابق السادس 1975، بعد وفاة عبدالناصر.

ثالثاً: نجيب سرور (1932/1978)

على الرغم من شهرة قصيدته الأخيرة "أميات"، والنقد اللاذع له بسببها من قبل النقاد، إلّا أنّ إرثه الفني والمسرحي، تم محوه بالكامل بسبب خروجه عن العرف الثقافي في مصر الناصرية، ففي بعثته الدراسية بالاتحاد السوفييتي في بداية الستينيات، كان زملاؤه يقدمون تقارير أمنية للمخابرات المصرية وقتها، مفادها أنّه معارض للنظام، وأخرى ترجح انضمامه للتنظيمات الشيوعية، وبين هذا وذاك وقع نجيب سرور فريسة اضطهاد نظام عبدالناصر ومخابرات صلاح نصر، التي أودعته مستشفى الأمراض العقلية ليموت وحيداً بين جدرانها.

ولد نجيب سرور لأسرة من فلاحي محافظة الدقهلية، وكان نهماً للقراءة منذ نعومة أظفاره، ثم التحق بكلية الحقوق جامعة القاهرة ليتركها في العام الأخير ملتحقاً بالمعهد العالي للفنون المسرحية، ويدرس الإخراج والتمثيل، ثم يُبتعث لإتمام دراسته خارج البلاد، وعلى الرغم من محو آثاره الفنية، إلّا أنّ الكاتب والمترجم المصري "طلال فيصل"، تمكن من جمع ما تبقى من سيرته في صورة أدبية قدمها في روايته "سرور"، استند فيها إلى روايات ما تبقى من أصدقائه من الفنانين وأسرته، وابنه شهدي، وطبيبه المعالج، واستطاع رسم صورة تعكس معاناة سرور النفسية بسبب الأزمة السياسية التي عاشتها مصر في الستينيات، خاصة بعد نكسة حزيران (يونيو)، لا سيّما أنّ سرور اشتهر بأنّه مرهف الحس، ذو قدرة فائقة على التعبير عن مكنونات نفسه، وقدّم العديد من المسرحيات والكتابات الشعرية "لزوم ما لا يلزم" التي كتبها في المجر وصدرت عام 1975، وديوان "الأميات"، و"بروتوكولات حكماء ريش"، و"رباعيات نجيب سرور"، وديوانا "الطوفان" و"فارس آخر زمن".

نجيب سرور

رابعاً: توفيق صالح (1926/2013)

"آخر رواد الواقعية"، كما يطلق عليه كبار السينمائيين، يعد المخرج الراحل توفيق صالح، أحد أبرز رموز مدرسة الواقعية في السينما العربية، على الرغم من مسيرته التي لم تتعدَ 7 أفلام روائية طويلة، إلّا أنّه استطاع تقديم المجتمع المصري بصورة أكثر واقعية مما تخيل رواد السينما انفسهم، وهو ما أشعره بالرضى عن مسيرته، ففي أحد حواراته الصحفية الأخيرة قبل وفاته بشهور، يتذكر حين عرض فيلمه الأول "درب المهابيل"، وكان جالساً وسط الجماهير يتلصص سماع آرائهم عن الفيلم، إحدى السيدات وهي تقول لزوجها "دي خروجة تخرجهالي؟"، ليرد الزوج "ده فيلم واقعي"، ترد الزوجة "ما أنا عايشاه كل يوم"، كان ذلك الحوار البسيط مبعثاً للرضا في نفس صالح، إذ أدرك بأنّه حقق ما يريد.

عام 1957 نددت درية شفيق بحكم عبدالناصر ووصفته بالديكتاتور ما أدى لإغلاق صحيفتها ومصادرة كل أعمالها وتحديد إقامتها منزلياً

ولد صالح لعائلة أرستقراطية، حيث كان والده طبيباً، رافضاً دراسته للسينما، ليترك مصر إلى باريس. فشل في دراسة السينما هناك، والتحق بدراسة التصوير وعلم الجمال، ثم عاد إلى مصر، عاقداً صداقة وطيدة مع نجيب محفوظ، فكان عمله الأول عام 1955 "درب المهابيل"، المشبع بالاسقاطات السياسية، التي نصحه العديد من رفاقه بالابتعاد عنها، وعدم العبث مع نظام عبدالناصر، الذي كان يصادر كل ما ينتقده، وهو ما تعرض له بالفعل في فيلمه "المتمردون"، الذي تدخلت فيه الرقابة بشدة، حيث أجبرته على تغيير النهاية، وحذفت العديد من المشاهد، ثم منعت عرضه عام 1966، إلّا أن النكسة جاءت كمخرج له حيث سمح بعدها بعرض الفيلم 1968، إلّا أن القيود التي لاقاها صالح في أفلامه دفعته للترحال في رحاب الدول العربية، فانتقل بين سوريا والعراق، وقدم رواية "رجال في الشمس" لغسان كنفاني كفيلم روائي طويل سماه "المخدوعون"، ثم اكتفى بالتدريس في المعهد العالي للسينما منذ عام 1980 حتى رحيله عام 2013.

المخرج توفيق صالح

خامساً: مصطفى محمود (1921/2009)

بعد اجتياج التيار المادي لأوروبا في الستينيات من القرن الماضي، كان للعديد من المثقفين المصريين نصيب منه، على رأسهم الطبيب والكاتب المصري مصطفى محمود، الذي ولد لأسرة متوسطة من محافظة المنوفية، ونشأ يتيماً، لكن تفوقه الدراسي منحه فرصة لدراسة الطب في القاهرة، وتسنى له ترك ما يقرب من 89 كتاباً بين الأدب والمسرح والفكر، إلّا أن كتابه "الله والإنسان"، كان سبباً في انقلاب نظام عبدالناصر ضده، فقد طالب عبدالناصر بمصادرة الكتاب، ومحاكمته بتهمة الكفر والزندقة، واكتفت السلطة وقتها بمنع الكتاب، ومنع صاحبه من الكتابة، وإبقائه حبيس منزله.

الأديب المصري مصطفى محمود

تغيّر الموقف لاحقاً بعدما جاء السادات فانقلب على ناصر حتى في مواقفه ضد المعارضين، فقد أعجب بالكتاب وأمر بنشره، حيثُ غيّر عنوانه وبعض محتواه لينشر بعنوان "حوار مع صديقي الملحد"، ويعرض عليه السادات منصب وزير، فيرفض محمود، إلّا أنّه أبقى على علاقته الطيبة مع السادات الذي امتدحه كثيراً في كتاباته، وظل يفعل حتى وفاته عام 2009.

الصفحة الرئيسية