صادق جلال العظم في ذكرى رحيله: شجاعة المثقف إذ يقاوم السلطة والجهل

سوريا

صادق جلال العظم في ذكرى رحيله: شجاعة المثقف إذ يقاوم السلطة والجهل


17/12/2018

شكلت هزيمة حزيران (يونيو) 1967، لحظة فارقة في وعي ووجدان المجتمع المصري والعربي، ليس فقط على مستوى فداحة الخسارة العسكرية، وتكاليفها الباهظة، لكنها هزت يقينيات الجميع، وتبدلت على إثرها خرائطهم النفسية والفكرية، التي دخلت في حالة من الشك والقلق، طاولت الذات والهوية والتاريخ، وموقع الإنسان العربي في الحضارة الحديثة، بقيمها المادية والعلمية، وإمكانياته بأن يكون كادر حداثي، يملك أدواته المعرفية في مواجهة الآخر.

شكلت كتابات العظم ونقاشاته النظرية مواجهة جريئة وفريدة من نوعها في ممارسة النقد الذاتي تجاه الأنظمة السلطوية الأبوية

بيْد أنّ الهزيمة التي أفضت لحالة من الإحباط الجماعي، قد عرّت المسافة بين حقائق الواقع المريرة، وما أسفرت عنها، من ناحية، والدعاية الضخمة للنظام الناصري، والأيديولوجيا الصاخبة، والشعارات الكبيرة، من ناحية أخرى.
وبينما كانت الأجهزة الدعائية، لا تتوانى عن ممارسة هواياتها بالتضليل والتلفيق، وتغييب الحقائق، وبث خطاباتها العنترية، جاءت الهزيمة لتفضح تناقضات السلطة، التي وفرت كل شروط "تنمية التخلف"، بحسب تعبير، المفكر اللبناني، مهدي عامل.

اقرأ أيضاً: صادق جلال العظم: حطم أوثان الفكر التقليدي
من هنا، تأتي أهمية كتاب "نقد الفكر الديني" الذي أصدره المفكر السوري، صادق جلال العظم (الذي غيّبه الموت في 11 كانون الأول/ ديسمبر 2016)، إبان أحداث الهزيمة وتبعاتها، وقد كان أحد الشخصيات الثقافية المهمة، التي اشتبكت مع تلك الصدمة المدوية، في وقت مبكر، وشكلت كتاباته ونقاشاته النظرية، مواجهة جريئة وفريدة من نوعها، في ممارسة النقد الذاتي، سياسياً وثقافياً ومجتمعياً، تجاه الأنظمة السلطوية الأبوية، التي تفرض هيمنتها وتكبح أي معارضة، وتعتبر كل نقد بمثابة تجريح، فخلفت معها ثقافة التبرير.
كتاب "نقد الفكر الديني"

بؤس الفكر الديني
واجه العظم في كتابه كل الموروث الثقافي والسياسي، الذي يتحكم باستبداده في بنية المجتمعات العربية، ما يفرض عليها الركود ويؤسس الطاعة للحاكم، ويعطل قدرة المجتمع على ظهور التنوع داخله، والمبادرات الفردية بين أبنائه، فضلاً عن تأثيرات ذلك الأمر السلبية على المواطن العربي، الذي يقع تحت وطأة الشعور الطاغي بفضائل الخصوصية الثقافية والقومية، وتمايزاتها الغيرية، والانسحاق في أمجاد الماضي وتقديسه، الذي يضغط أعصابه، ويضطره أن يعيش بين عناصر متوهمة ومتخيلة؛ فيجذبه هذا الخطاب الماضوي لحالة من العزلة الشعورية، تنتصر فيها قيم القبلية والعائلية والطائفية، دون التفات للشروط التاريخية الجديدة.

اقرأ أيضاً: صادق جلال العظم ناقد الفكر الديني ومفجّر أسئلة الهزيمة
تصدى العظم إلى العقلية الروحية (الغيبية) السلفية، كما أسماها، والتي اعتبرها بمثابة السلاح النظري بيد الرجعية العربية في حربها المفتوحة، ومناوراتها الخفية، ضد القوى الثورية والتقدمية. 
كما رصد توظيف بعض الأنظمة التي تصف نفسها بـ"التقدمية" للدين، وخطابه التقليدي بغية التغطية على عجزها وفشلها وهزائمها المتكررة، بالإضافة إلى تهدئة الجماهير، من خلال استدعاء بعض المقولات الدينية والصور الروحانية، التي تشكل لهم تعزية نفسية.
العقلية التواكلية والفكر الذي يقود للهزيمة
وفي هذا السياق، طرح المفكر السوري، قصة تجلي السيدة العذراء في مصر، فوق إحدى الكنائس، بضاحية الزيتون، إبان الهزيمة، والتي وظفها الإعلام الناصري، وقتذاك، بهدف تصفية آثار العدوان، وتداعياته النفسية السلبية على شعور المواطن المصري والعربي، لدرجة أنّ الصحافة اللبنانية، دخلت فيما أسماه العظم بـ "هوس ديني مفاجئ"، حيث نشرت جريدة (الأنوار) البيروتية صورتين متشابهتين، كانتا عبارة عن طيف نوراني، وصفتهما بـ"النور المقدس للعذراء"، وقد التقطه عدسات الكاميرات، فوق قبة الكنيسة.

تصدى العظم في كتاباته إلى العقلية الروحية (الغيبية) السلفية التي اعتبرها بمثابة السلاح النظري بيد الرجعية العربية

روجت الأجهزة الإعلامية الرسمية واقعة تجلي العذراء، عبر منصاتها المتعددة، وتبنت سرديتها المؤسسات الدينية، خاصة المسيحية، التي عقدت عدة اجتماعات كنسية، تؤكد من خلالها أنّ هذا الظهور ذو مغزى كفاحي مؤيد للعرب؛ إذ إنه يتكرر في التاريخ عبر حوادث عديدة؛ كالهزائم والنكبات بهدف المؤازرة والدعم، وتأكيد النصر السماوي.
وفي المقابل، انتقد العظم موقف الشيخ اللبناني، نديم الجسر، ومقولاته الميثولوجية المنافية للمنهج العلمي؛ حيث كان يربط بين التقدم بمعرفة أمواج الضوء والإيمان بالجن والملائكة. ومن ثم، أكد على ضرورة الفصل بين الديني والدنيوي، وتصفية الأفكار الملتبسة حول وجود تصور ديني للكون، ووجود مرجعية دينية للأفكار العلمية والفلسفية.

 

اقرأ أيضاً: نصر حامد أبو زيد غرّد خارج السرب فأزهرت كلماته ومات غريباً
وأشار العظم في كتابه إلى أننا "نجد مثل هذه الملاحظات البديهية جداً عن البرق والرعد والسحاب والليل والنهار، في أساطير حضارة ما بين النهرين؛ ملحمة جلجامش مثلاً، وفي التوراة والإلياذة والكتب المقدسة الصينية والهندية".
وأضاف: "إنّ تصوير الأطياف الروحانية وربط تحرير القدس والصمود في وجه العدو بظهور العذراء تجيء على لسان أجهزة إعلام بلد يعتبر نفسه ثورياً اشتراكياً، وكان يجب أن يضع إمكاناته الإعلامية في خدمة الشعب، بغية تثقيفه لا بغية تضليله والشطط في متاهات الهلوسات الدينية، وتزيين الخرافات بمظهر الحقائق العلمية".
كيف أخفقت الأنظمة العربية في بناء قيمتي الحرية والعدالة؟
ومن بين أبرز القضايا التي طرحها للمراجعة والمساءلة، هي التطبيقات الاشتراكية في المجتمعات العربية، ومدى التبسيط المبالغ في فهم فلسفة التحليل الطبقي، من جانب النظم السياسية، التي اعتبرت، برأيه، أنّ تغيير أوضاع الناس الاقتصادية والاجتماعية سيؤول بهم حتماً، وبشكل تلقائي، إلى تغيير نظرتهم ورؤيتهم للذات والحياة والعالم، بدون أن يكون هناك حركة فكرية وجهد ثقافي مواز لتلك للتحولات الطبقية، حتى يتحقق التجانس بين الفكر والمصلحة التي يمثلها.

اقرأ أيضاً: محاكمة الأزهر للشيخ علي عبدالرازق.. كيف تمّت؟
وينقل في هذا الصدد، عن المفكر اللبناني، منح الصلح، أنّ الأنظمة العربية التقدمية، قصّرت في إحداث أي توجه عميق في فكر الأفراد وضميرهم، وذلك عندما حددوا بشكل مخل، تبعية قسم في التركيب الاجتماعي، وهو البناء الفوقي، وفقاً لما يحدث من تغييرات في البناء التحتي، بدون الوضع في الاعتبار، للجدلية مع الكل الاجتماعي المركب، على المستويات كافة، وبنفس الفعالية، وفهم مراكز التناقض الأساسية وتفكيكها.
لذا، فقد كشف العظم عن إخفاق عملية التحديث المحدود والجزئي، الذي شمل عدة أنشطة وقطاعات في الدولة المصرية؛ مثل، زيادة عدد إنشاء المدارس والمصانع، في ظل ضعف البنى المجتمعية التي جرى الاعتماد عليها لبناء مشروع نهضوي، يتحرر من التبعية إلى الاستقلال، حيث بقيت العناصر الجوهرية للدولة القديمة المتخلفة، متماسكة لم يمسها جوهر التغيير، وظلت قيم الدولة الحديثة؛ من المجتمع المدني وسيادة القانون والعدالة والمواطنة غائبة.

اقرأ أيضاً: خليل عبد الكريم: الشيخ الأحمر
إذاً، قام العظم بتوجيه نقده العلمي والمعرفي ضد آليات السلطة، أي سلطة، تعمد إلى تثبيت الدين كمرجعية، تتوافق مع الأطروحات العلمية والفكرية والسياسية الحديثة، بحيث تكون غايتها إيجاد نزعة إيمانية ذات قداسة وعصمة، وتملك دفاعات تبريرية، تحميها من النقد في حال ثبوت فشلها وهزيمتها، ما يؤدي في النهاية إلى التواكلية وتأبيد إيمان العجائز.
العظم وموقفه من الثورة السورية
وبينما كان نشاط العظم الفكري والفلسفي، يثير كثيراً من الجدل حول مواقفه والأسئلة الإشكالية التي يطرحها، كما هو الحال في العديد من كتبه المعروفة، والتي من بينها: "ذهنية التحريم" و"ما بعد ذهنية التحريم، فإنّ مواقفه السياسية المباشرة، سواء من الناحية النظرية، كنقده للخطاب السلطوي والجبرية العربية التي تشرعن القمع والهيمنة والانقياد، أو من الناحية العملية، عندما انخرط في دعم الثورة السورية والحراك الشعبي، لم تكن أخف وطأة في ردود الفعل التي جلبتها ضده، وقد فتحت عليه النار من الجميع، ومن مواقع متفاوتة ومعسكرات متباينة.

كتاب "ذهنية التحريم"
دشن في سياق الربيع السوري مقولته "العلوية السياسية"؛ حيث فضح "نظام البعث العائلوي، والاستبداد الذي يمارسه آل "الأسد"، في دمشق والحالة المافياوية، التي تقوم عليها الدولة، وترعاها ضد الشعب".

اقرأ أيضاً: لماذا يُتهم علي عبدالرازق بتمهيد الطريق للإخوان المسلمين؟
ومنذ اللحظة الأولى، لاندلاع ربيع دمشق، اعتبر الثورة السورية هي ثورة، سواء تأسلمت أو "تعلمنت"، وظل يؤكد على دعمه وانحيازه لها، حتى كان هو ذاته أحد ضحاياها، بيد أنه أسس لموقفه من خلال عدة منطلقات، كما كتب، قبل وفاته، حيث أوضح أنّ تلك الثورة التي نضجت بفعل السنين، وليس بمقدور أحد أن يعطل مسيرتها؛ فهي كاشف أخلاقي وإنساني وثقافي لكل البديهيات القديمة، كما أنها ثورة ضد التبرير والقبول الكاذب لواحد من أكثر الأنظمة الشمولية تفسخاً وعنفاً، وبالتالي، فإنّ "كل من هو منخرط في جوهرها، لا يخشى منها ولا يخشى عليها. كل من هو جالس على حافتها.. سيصيبه الرعب منها. أصلاً الرعب واحد من أهم سمات الثورات". العظم أكد أيضاً أنّ "الثورة السورية هي من أعمق ما قامت به جماعة بشرية في منطقة جغرافية على امتداد العالم. إيقافها مستحيل، ببساطة لأنها نضجت بفعل الزمن، ولا أحد يستطيع إيقاف الزمن".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية