درس بورديو: هل هناك رأي عام؟

درس بورديو: هل هناك رأي عام؟


10/11/2018

السؤال الذي تطرحه المقالة، ممثلاً في عنوانها، قد يكون بديهياً وساذجاً بالنسبة إلى البعض، لكن، أليس مهمة الكتابة عموماً، والكتابة في الشأن الاجتماعي خصوصاً، أن تستفز البداهات وتحرّك ما يعدّ النقاش حوله منتهياً؟ حسناً؛ هل هناك رأي عام؟ وهذا السؤال يعكس نفسه في صيغة عملية أكثر جذرية؛ حيث يطرح على النحو الآتي: كيف تنتج الآراء العمومية، الاستفتاءات الشعبية، في فضاءاتنا السياسية؟ وكيف يتم (تمثيل) الناس عبر الأدوات المتاحة لصناعة، أو (اصطناع)، ما يسمى (الرأي العام)؟

اقرأ أيضاً: هل الدولة العربية دولة شمولية؟ تبصّرات من علم الاجتماع السياسي

يلاحظ أنّ الرأي العام عموماً، يفترض وجود قضايا مجمع عليها سلفاً ومحسوم أمرها، وما الرأي العام سوى توقيع عمومي حول تلك القضايا التي تهم (الجميع)، فبحسب بيار بورديو: القضايا المجمع عليها هي قضايا مصطنعة بداية، تصطنعها الطبقة الحاكمة التي بمقدرتها توظيف قضايا معينة في شكل أسئلة كي تموه على العموم، وتعرض نفسها في ثوب موضوعي خالص.

اقرأ أيضاً: الحداثة التي لم تهزم المتعالي

إنّ الطبقة الحاكمة تمتلك قدرة عالية على اصطناع قضايا بواسطتين: الأولى؛ من خلال تحويل السؤال الاجتماعي أو الأخلاقي إلى سؤال سياسي بالأساس، والثانية؛ من خلال قدرتها على جرّ النقاش إلى إشكالات معينة، هي إشكالات مهيمنة. وتوضيح ذلك كالآتي:

الطبقة الحاكمة عموماً، لا تعرف إلا ما هو سياسي، وكلّ سؤال يطرح في الفضاء الاجتماعي يكون إما من نتاجها السياسي عامة، أو تقوم بعملية تسييس له حتى تتعاطى معه سياسياً: هل يخدم الطبقة الحاكمة؟ ما مقدار النفوذ المهيمن على السؤال، الذي يسمح بالتلاعب به وملاعبة ما يسمون (سياسيين)؟ إلى آخر أسئلة السياسي المعروفة، ويطلق بيار بورديو على هه العملية؛ "مفهوم مفعول التسييس"؛ فلأنّ حالات الرأي العام تكون مصطنعة، يكون الجواب حول السؤال الذي تطرحه السلطة للناس محسومة إجابته من قبل، بل لنذهب بعيداً، أكثر من ذلك؛ إنّ طرح سؤال ما للاستفتاء الشعبي من قبل السلطة، مادياً أو رمزياً، يعني أنّ هذا السؤال قد وضع بصيغة معينة من قبل تلك السلطة حتى تغدو إجابته سائرة نحو الإجابة التي هيأتها السلطة في السؤال.

الطبقة الحاكمة لا تعرف إلا ما هو سياسي وكلّ سؤال يطرح في الفضاء الاجتماعي من نتاجها السياسي أو التسييس

سؤالات السلطة تحتوي على إجابتها؛ لأنها موضوعة بالأصل على نحو جواب، وليس على نحو سؤال، وهذا الزخم الموضوعي الذي تحفّه السلطة بالسؤال، ليس إلا عمى سياسياً تضفيه على المستفتين، يظهر ذلك جلياً في عصر الأزمات؛ فالخيارات المتاحة أمام مجموع المواطنين، سواء على صعيد الأحزاب السياسية، أو على صعيد الخيارات البديلة، هي كلّها من قبيل توظيف قبلي اصطنعته السلطة.

الأمر الثاني؛ يتعلق بقدرة الدولة على جرّ النقاش إلى إشكالات معينة؛ تمكن معرفة ذلك حينما تستخدم الطبقة الحاكمة مفهوماً كمفهوم الوطن، عملة للعب على قضايا لا أخلاقية، كي ينحاز المواطنون لها، حينما تضع الوطن في مقابل مفاهيم كالإرهاب والأمن والحدود... هنا، لا يكون الوطن وطناً، إنه نظام الحكم الحاكم، إنه دستور الدولة الذي وضعته بلا إملاء حقيقي من الأجساد الحية، والإرهاب ليس سوى أجندة للتعبئة ضدّ الغير، أيّاً كان؛ فيبدو دوماً من نقاشات الدولة؛ أنّها نقاشات خارج نطاق الأسئلة الحقيقية، وأنها انجرار إلى مواطن مصطنعة وعوالم متخيلة، لتدعيم الطبقة الحاكمة.

اقرأ أيضاً: لماذا لم تعد لحوم العلماء مسمومة؟

إنّ كلّ ذلك يطرح سؤالاً مهمّاً: هل نحن نمثل أنفسنا في الاستفتاءات العمومية؟ هل نحن "نحن" عندما ندلي بآرائنا في استفتاء رأي عام؟ أو بمعنى آخر؛ ماذا يعني أن نذهب إلى استفتاء عمومي؟

علينا أن نقول بداية: إنّ افتراض رأي عمومي يعني أنّ على الجميع الإدلاء بآرائهم؛ أنّ الجميع لديهم آراء، وأنّ كلّ أحد لديه مشاركة ما، وقد يقول قائل: لكن هذه الاستفتاءات العمومية تضمّ خيار امتناع التصويت. وهذا صحيح؛ لكنّ السلطة أبت إلا أن تصنف السكوت، اللامشاركة، الإضراب، ضمن خانة سياسية معينة، هي خانة الممتنعين عن التصويت، وهنا يظهر ما قلته بالأعلى من إرادة التسييس الجموحة لدى السلطة، حتى إنها تصنف اللاقول بوصفه قولاً.

اقرأ أيضاً: السؤال الأخلاقي في فلسفة طه عبد الرحمن: من النظر إلى العمل

ثمّة فرض سلطوي من قبل الدولة، علينا لكي نتواصل، لكي ندلي، نتكلم، نذهب، ونجيء، والعجيب أنّ كمية التواصل هذه التي تفترضها السلطة هي قوة صامتة؛ لأنها تسمح بالتواصل في حدود مجالات حددتها سياسياً، نحن نتواصل كثيراً؛ "إننا لا نشتكي من اللاتواصل، بل بالعكس من كلّ القوى التي تفرض علينا التعبير عن أفكارنا"، كما يقول جيل دولوز، لكن؛ ما نوع التواصل الذي تفرضه الدولة؟ أو هل يسمى تواصلاً ذلك التواصل المفروشة أرضه سلفاً، والذي هو مجرد أحاديث في إجابات منهية قبلاً من خلال الطبقة الحاكمة التي تنتج السؤال والإجابة معاً؟ ليس لدى الفرد ما يقوله غالباً، وعلى السلطة أن تعترف دائماً بهذا الصمت، ولا تحاول تبريره في صالحها؛ بل ربما يكون الصمت موقفاً، كما يقول سارتر.

اقرأ أيضاً: لماذا انتصر إسلام الخاصّة على إسلام العامّة؟

إننا لا نشتكي من اللاتواصل، بل بالعكس من كل القوى التي تفرض علينا التعبير عن أفكارنا، في الحقيقة؛ إنّ الاستفتاءات العمومية هي استفتاءات غير تمثيلية؛ أي إنّها استفتاءات على غير الأسئلة الاجتماعية الحقيقية؛ بل تنزع دائماً تلك الاستفتاءات إلى عوالم اصطناعية، عوالم تلغي الفرد وتموّه عليه باسم قضايا غير سياسية بالمعنى العمومي، إنّما هي قضايا طبقية، تمثل الطبقة الحاكمة.

اقرأ أيضاً: التراث كمسرح لرغبات الحاضر: البحث عن عقلانية "إسلامية"

إنّ تلك الأسئلة المطروحة في الاستفتاءات؛ أسئلة لم يسألها الفرد أولاً على نفسه قبل أن يجيب عنها، وذلك نتاج أمرين: الأول، الثقة غير الصحيحة من قبل المواطن العادي تجاه الدولة، بوصفها الخير المطلق والحقّ، والثاني: أنّ تلك الأسئلة –كما أوضحت- تفترض عمومية الإشكالات التي بداخلها، وأنها عمومية تهمّ الجميع؛ فهي غير تمثيلية على شكل مضاعف: أسئلة لم تنتج من الفرد أو (الطبقة المهيمن عليها)، أستعير من بورديو، إضافة إلى أنّها لم تمرّ عبر تحليل نقدي عند المواطنين، وعلينا أن نسجل ملاحظة هنا بخصوص الديمقراطيات عموماً، خاصة في بلدان (العالم الثالث)؛ وهي تسمية لا تخلو من جعجعة ما، التي لم تتدرب على الديمقراطية بشكل حديث إلى حدّ كبير، وعلاقة الديمقراطيات في تلك البلدان بالتمثيل الناجح للمواطنين، ولهذا نقاش آخر.

كلّ أسئلتنا واقعة تحت طائلة السياسي ومدفوع بنا نحو طرق معلومة سلفاً من قبل الدافع بنا

إذاً؛ نحن لسنا أكثر من رقم جاف على أوراق الدولة، لا نمثلنا ولا تمثلنا تلك الأسئلة، كلّ أسئلتنا واقعة تحت طائلة السياسي، ومدفوع بنا نحو طرق معلومة سلفاً من قبل الدافع بنا، هل هناك رأي عام؟ لا، هناك رأي مصطنع عام، رأي يمثل (مصالح)، بالمعنى الماركسي، معينة، ويدعم أشخاص من مصلحتهم أن يكون هناك رأي عام، ربما يكون هذا الرأي العام يمثل أصوات أقلية المواطنين، لكن الدولة باستخدامها وسائل إشهارية كالإعلام، تضخم تلك الأقلية لتصير الجميع، وتصنع الرأي العام الذي تريد.

لا بدّ من الالتفات لأمر أبعد من إشكالية الرأي العام عموماً؛ هو أنّ الواقع الجديد الذي فرض علينا من خلال التقنية الحديثة، هو واقع في أغلبه تخييلي وتصويري، وليس واقعياً أبداً، ويمكن من خلال ذلك أن نسحب الإشكال لأبعد من الرأي العام، لنقول: هل هناك منتجات عامة، سلع عامة، استهلاكات عامة؟ أم أن تلك السلع والمنتجات ما هي إلا تقنية من قبل الدولة من خلال اصطناع واقع يخيل للمستهلك أنّ تلك هي السلعة أو المنتج الذي يريد؛ نحن تمارس علينا كمية حاشدة من اللاوعي، وربما نردد مع جون بودريارد: لقد أفل الواقع؛ أي صرنا نعيش في واقع مصور تنتجه التقنية وتجعله واقعاً.

الصفحة الرئيسية