محمد عابد الجابري: مثقف المشروع

محمد عابد الجابري: مثقف المشروع


02/10/2018

لا يخفى على قارئ الجابري، (1936-2010م)، ما له من أهمية نظرية في الثقافة العربية الحديثة، ليس فقط لجدّة ما اجترح من موضوعات، أو للبعد الأيديولوجي المتعلّق بشخصه؛ بوصفه مثقفاً يسارياً، انضمّ إلى العمل الحزبي منذ بداية حياته؛ إنّما لما افتتحه الجابري من أفق للنقاش حول التراث العربي والإسلامي، وفي هذا المقام؛ لا يمكن أن نغفل أنّ العام 1984م كان عاماً مهمّاً؛ إذ في هذا العام أصدر الجابري الجزء الأوّل من مشروعه "نقد العقل العربي" تحت عنوان: "تكوين العقل العربي"، هذا الكتاب/ الحدث، الذي هو، بشهادة أحد أهمّ وأكبر نقّاد الجابري، أعني السوري جورج طرابيشي، "ليس كتاباً يثقف؛ بل هو أيضاً كتاب يغيّر، فمن يقرأه لا يعود بعد قراءته كما كان قبل قراءته".

إذا كان كانط هو راسم جغرافيا العقل الغربي؛ فإنّ الجابري هو جغرافي العقل العربي كذلك

وبالطبع، لم يكن الجابري أوّل من افتتح النّقاش حول التراث، وقراءته، وآليات الاشتغال عليه؛ ففي الحقبة نفسها، كان السوري، الطيّب تيزيني، ينجز مشروعه أيضاً "من التراث إلى الثورة"، وكذا حسن حنفي بمصر "من العقيدة إلى الثورة"؛ بيد أنّ الجابري قد تفوّق إبستمولوجيّاً على الرفاق/ قرّاء التراث، وذلك بعد أن كشف الألاعيب الأيديولوجية الكامنة في قراءتهم، كما فعل في كتابه المهمّ "الخطاب العربي المعاصر". نعم، لقد تفوق الجابري إبستمولوجياً، ليس فقط لجدّة الطرح، إنّما لحداثة الآلة المعرفية التي كان يستخدمها، من باشلار إلى فوكو إلى دوبريه.

في الحقيقة؛ كان همّ الجابري، بداية، قبل دخول مشروعه، أن "يصفّي" جملة الفكر العربي المعاصر، حيث كان مصبوباً حول أن تكون قراءته فلسفيّة أو، إن شئنا الدقّة، أن تكون قراءته علميّة، بعيدة عن موقفين: الموقف الأوّل، وهو موقف المثقف الليبرالي العربي الذي يخرج من تراثِه ليقعَ في تراث غيره؛ الموقف الثاني، وهو موقف السلفي (والسلفي، جابرياً، ليس بالمعنى الديني فقط، إنما مَن يتعامل مع التراث بطريقة سلفيّة) الذي يقرأ التراث كأنّه من كتبه. أي، منذ البداية، أراد الجابري أن لا يكون مغترباً عن التراث، وأيضاً -بعبارة جميلة له- أن "يتخلّى عن الفهم التراثي للتراث".

كتاب "الخطاب العربي المعاصر"

فها هو الجابري يدعونا في "نحن والتراث" إلى أن نقيمَ علاقة تاريخيّة مع تراثنا العربي والإسلامي، بعيداً عن النّزعات السلفيّة التي انتهى بها الحال إلى إعادة إحياء التراث والعمل عليه تحقيقاً وبعثاً، وبعيداً كذلك عن القراءة الليبرالية التي تتخذ من التاريخ الأوروبي مرجعاً معيارياً لها، في إصدار حكم على التراث الإسلامي؛ فجملة الأمر في التعامل السلفي والحداثي مع التراث، هو اللاتاريخيّة، وتأجيل مُشكل الراهن، نظراً إلى طغيان الماضي الذي يحلّ بكلّ كثافته.

اقرأ أيضاً: بين محمد عبده وفرح أنطون.. ما تبقى من سجالات النهضة المُجهضة

ولا يهمّني، في هذا المقال، التركيز على ما أنتجه الجابري من مفاهيم ونتائج، ولغة جديدة استطاع من خلالها أن يجعل البحث في التراث جديداً، أو أن أخوض في "نقد نقد العقل العربي"، سواء تمثّل في المخرج الطرابيشي المهمّ، أو عند غيره من النقاد؛ الذين انكبّوا على تفنيد المشروع ونقده.

ويبدو أنّ المرحوم عابد الجابري، كان ذا حكمة عظيمة، تعلّمها من مجمل صراعات الفكر العربي؛ وهي عدم الالتفات لمن ينقدونه والدخول معهم في سجالات؛ لأنّ ذلك يستنزف منه وقتاً، ولن يتمّ مشروعه؛ فالجابري كان من مثقفي المشروعات؛ بل يمكن أن نقول إنه المفكّر العربي الذي جعل فكرة "المشروع" ممكنة، فقد أنجز الجابري مشروعاً كبيراً حول العقل العربي، وإن اختلفنا أو اتفقنا معه، فلا بدّ من أن نعترف بأنّ الرجل قد رسم الأرضيّة التي يمكن العمل عليها.

اقرأ أيضاً: فيلسوف الكسل ألبير قصيري.. يمجّد الخمول ويهجو الحداثة

لذلك؛ فإنّ السؤال الذي يجابهنا الآن: كيف يمكن أن نفكّر بعد الجابري؟ أو هل يمكن أن ننشئ تقليداً لأنفسنا الحديثة من خلال "مدونة الجابري"، باعتبار أنّه دشّن لـ "عصر تدوين جديد"، كما كان يتمنّى دائماً في كتبه؟

ولا بدّ من أن نقول: إنّ هناك فرقاً كبيراً بين أن ننقد الجابري لمحوه، وبين أن نفكر فيما بعد الجابري؛ فأن نفكر فيما بعده، يعني أن نشتغل في الأفق الذي افتتحه مع تجاوز بعض أحكامه القيميّة، وتطوير آلات اشتغاله الإبستمولوجيّة، ومحاولة إدخال أدوات هرمينوطيقيّة لم يكن الجابري يستخدمها.

فرُغم حداثة الآلة الإبستمولوجية التي استخدمها الجابري، إلّا أننا نلاحظ غياباً للهرمنيوطيقا في مشروعه؛ لأنّ التراث العربي هو تراث لغوي بالأساس، ليس بمعنى أنّ نتاجه نتاج لغوي بالمعنى التقني، إنّما أنّه تراث يعتمد على اللغة لرؤية العالم.

فجورج طرابيشي، وهو أهمّ نقاد الجابري، الذي هو نتاج مشروع الجابري، رغم نقده المطوّل له، يعترف بفضل الجابري على جيله بأكمله، ورُغم أهمية ما نجده في مشروع طرابيشي، إلّا أنّه يبقى محاولة نقديّة لمشروع مهمّ، هو مشروع الجابري؛ فالجابري كان البوصلة، ومشروعات النقد مدينة له بالكثير.

المقارنة بين كانط والجابري فيها كثير من المجازفة

وإذا كان كانط هو راسم جغرافيا العقل الغربي؛ فإنّ الجابري هو جغرافي العقل العربي كذلك، والمقارنة بين كانط والجابري فيها كثير من المجازفة، إلّا أنّني قارنت على مستوى التحديد الذي قام به كلاهما من رسمٍ للحدود. لكن، وذلك بحسب قراءة طريفة للتونسي فتحي المسكيني، في كتابه "الكوجيطو المجروح"، بينما كان كانط يُأبّن العقل، بعد أن رسم حدود اشتغاله المجرّد؛ فإنّنا نجد الجابري قد خرج من التراث مظفّراً بالعقل البرهاني الفلسفي.

اقرأ أيضاً: كيف دافع طه حسين عن الإسلام في رده على أندريه جيد؟

وكانط؛ منذ أن كتب ما كتب، وأنجز ما أنجز، والقراءات والنقاشات والسجالات حوله تطول وتكثر، إلى اليوم، لكنّ كلّ ما وجّه لكانط هو تفكيرٌ ما بعد كانطي؛ أي إنّ كانط مرحلة حاسمة في التفكير الغربي نفسه، (علينا أن نتذكر أن أغلب الفلسفات ما بعد الكانطية تعتمد عليه حتى اليوم؛ الكانطيون المحدثون، هابرماس، الذي يمكن تسمية فلسفته "كانطية تواصليّة"، ...إلخ).

وعلينا كذلك؛ أن نجعل الجابري في هذه المنزلة، رغم كلّ ما يمكن أن نعثر عليه من عثرات في مشروع "نقد العقل"، نحن في حاجة إلى تقليد، نعم، وفي حاجة إلى أن يكون لنا نسقٌ فكريّ نتحرّك من خلاله لإنشاء أنساق وتقاليد عربيّة، حالة اللاتقليد التي نعيشها في الفكر؛ هي التي تجرّ كلّ هذا الشتات الفكري لنا.

قول طه عبدالرحمن بأنّ "المفكرين العرب يتمسكّون بفلسفات نظرية" غير صحيح

إنّ طه عبد الرحمن، وهو ناقد للجابري، رغم أنّه وقع في تقسيم العقل بشكل آخر؛ فالعرفان المذموم جابريّاً، صار ممدوحاً عند عبد الرحمن.

وهكذا، أقول: إنّ طه لا يفتأ يردّد في كتبه أنّنا في حاجة إلى إبداع، وإلى جدّة فكرية، تكون على مستوى المشاركة الكونية؛ بيد أنّه يشنّ هجمة على كلّ الفكر العربي المعاصر؛ لأنّه مقلّد، ويدعو لفكرٍ تجريدي، وفي نَفَسٍ صاخب، يحطّ من شأن المثقفين العرب. إلّا أن هذه الدعوى، في رأيي، تضمّ آفتين:

الدعوة للإبداع، كما يدعو إليها طه، لا ينبغي أن تكون بإهدار كلّ الفكر العربي الحديث، والبدء من صفر جديد، لإنشاء إبداع

أولاً: إنّ قول طه؛ (المفكرون العرب يتمسكّون بفلسفات نظرية) غير صحيح؛ لأنّ أغلب المفكرين العرب يدعون لفلسفات عملية تكون كزورق لإنقاذ الواقع وإحداث نهضة، وهذا نجده مثلاً في مشروع الجابري، الذي اشتغل على التراث، وعلى الراهن.

ثانياً: إنّ الدعوة للإبداع، كما يدعو إليها طه، لا ينبغي أن تكون بإهدار كلّ الفكر العربي الحديث، والبدء من صفر جديد، لإنشاء إبداع، إنّ الإبداع لا يُخترع من صفر. إنّه تراكم معرفي، أو لا يكون.

لذلك؛ إنّ التمثل النقدي الحقيقي، في رأيي، لفكر الجابري، ليس في "تصفية" أو "تنقية" المشروع؛ بل بإمكان جعله تقليداً يجعلنا نحن في مكانة تواصليّة مع المشروع، لإنشاء "تراكُم" تقليدي، يسمح بمنح "شرعية" للعرب المُحدثين، وإنشاء مشروعات أخرى، تفتح آفاقاً جديدة، بدلاً هذه الآفاق المثقوبة.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية