أليف شافاق تحكي قصّة تركيا أردوغان: بلدي غير ديمقراطيّ وغير سعيد

أليف شافاق تحكي قصّة تركيا أردوغان: بلدي غير ديمقراطيّ وغير سعيد


18/01/2018

عندما طلب راديو بي بي سي 4 تخصيص فقرة عن روايتي "لقيطة إسطنبول" في موسمه الأوروبيّ للقراءة هذا الشهر، وجدت نفسي أفكّر بالرّحلة الثقافيّة والسياسيّة التي مرّ بها وطني الأم، تركيا، في الأعوام التي انقضت منذ نشر الكتاب.
لقد ظهرت الرواية في تركيا في عام 2006. وهي تحكي قصّة عائلة تركيّة وعائلة أرمنيّة أمريكيّة، وذلك في معظم الأحيان من خلال عيون أربعة أجيال من النساء. إنّها قصّة تدور حول الأسرار العائليّة الدَفِينة، والتابوهات السياسيّة والجنسيّة، والحاجة إلى الحديث عنها، فضلاً عن الصدام المستمر بين الذاكرة وفقدان الذاكرة. وتركيا، بشكل عام، هي مجتمع يعاني فقداناً جماعيّاً للذاكرة.

أصبحت تركيا التي كانت جسراً بين الشرق والغرب ونموذجاً يحتذى به للعالم الإسلاميّ بلداً غير ديمقراطيّ وغير سعيد

وبعد فترة وجيزة من نشر الراوية، اتّهمتُ بـ"إهانة الهُويّة التركيّة" بموجب المادّة 301 من القانون الجنائيّ التركيّ، على الرغم من أنّه ما من أحد يعرف تماماً ما الذي تعنيه "الهويّة التركيّة" أو "إهانة" في هذا السياق. كما يسمح غموض الصياغة بتفسير المادّة على نحو يعيق حريّة التعبير وحريّة الصحافة؛ وكانت تلك هي أوّل مرّة توضع فيها رواية، أي عمل يقوم على السرد الخياليّ، أمام المحاكمة بموجب هذه المادّة. وقد انتزعت كلمات الشخصيّات الأرمنيّة في "لقيطة أسطنبول" من النصّ، وجرى استخدامها كـ"دليل" من قِبل مكتب المدّعي العام. ونتيجة لذلك، كان على المحامي التركيّ الذي وكّلته أن يدافع عن شخصياتي الأرمنيّة الخياليّة داخل قاعة المحكمة. لقد كان الأمر برمته سرياليّاً، وبرّئت ساحتي.

أليف شافاك

الديمقراطيّة: للخلف در!
إلّا أنّ ما أتذكره اليوم من هذه الأيام المشبّعة بالخوف والقلق ليس عمليّة المحاكمة ولا الجماعات القوميّة المتطرّفة التي تنظّم الاحتجاجات في الشوارع وتبصق على كلّ من صورتي وعلم الاتحاد الأوروبيّ، إنّما ردود الفعل الباعثة على الارتياح والملهمة والمذهلة التي تلقيتها من القرّاء. إنّ غالبيّة قرّاء الأدب القصصيّ في تركيا من النّساء - تركيّات، كرديّات، علويّات، يهوديّات، أرمنيّات، يونانيّات... نساء من الأثنيّات والثقافات والطبقات كافّة. وفي تركيا، إذا أُعجِبت المرأة بكتاب، فإنّها تقوم بتمريره إلى نساء أخريات. فالكتاب ليس حِيَازة شخصية. ويتم قراءة النسخة نفسها في المتوسّط من قِبل خمسة أو ستة أشخاص، ويجري وضع خطوط تحت جمل مختلفة بأقلام مختلفة الألوان. وعلى الرّغم من استمرار هيمنة الذكور على الثقافة المكتوبة ووسائط الإعلام وصناعات النشر في تركيا، خاصّة كلّما كانت الوظائف في أعلى السلّم المهنيّ، فإنّ النّساء هن غالباً حاملات الذاكرة، والنسّاء في أكثر الأحيان هن اللواتي يحتفظن بتقاليد متعدّدة للسرد القصصيّ على قيد الحياة.
ومع ذلك، وعلى الرّغم من أن الكلمات كانت خطرة في تركيا في منتصف العقد الأوّل من الألفيّة الحاليّة، فإنّ حالة الكتّاب والنّاشرين لم تكن أبداً قاتمة أو مظلمة كما أصبحت اليوم. على مدى العقد الماضي، كانت تركيا تنزلق إلى الوراء، في البداية تدريجياً وبعد ذلك بسرعة محيّرة. فالتسلطيّة والإسلامويّة والقوميّة والانعزاليّة والجنسويّة كلّها أشياء آخذة في الازدياد، وتغذّي وتشجّع بعضها البعض بشكل منهجيّ. ولم يساعد في شئ تحطيم آفاق عضويّة تركيا في الاتّحاد الأوروبيّ.

تحت حكم حزب العدالة والتنمية أخذت حقوق المرأة تتلاشى وتقوم الصحف الإسلامويّة بنشر مواد ضدّ ملاجئ النّساء

ومع ازدياد انفصال البلد عن أوروبا، استغلّ القوميّون والإسلامويّون الفجوة المتزايدة. وبدأت النخبة الحاكمة في الحديث عن الانضمام إلى ميثاق شنغهاي عوضاً عن الاتّحاد الأوروبيّ. والعلاقات التركيّة مع الاتّحاد الأوروبيّ هي اليوم في أدنى مستوى لها. لقد أصبحت حكومة حزب العدالة والتنمية غير ديمقراطيّة أكثر فأكثر وتنتهج سياسات تتوخى المصلحة الذاتيّة وغير ليبراليّة وغير متسامحة. والاستفتاء الجداليّ، في نيسان (أبريل) 2017، والتصويت المحدود الذي انطوى عليه (51 في المئة إلى 49 في المئة)، يعني أنّ تركيا سوف تتحوّل من الديمقراطيّة البرلمانيّة إلى دولة يحتفظ فيها الرئيس رجب طيب أردوغان باحتكار مطلق للسلطة.
لقد أصبحت تركيا مثالاً مروّعاً على أنّ صندوق الاقتراع في حد ذاته لا يكفي للحفاظ على الديمقراطيّة. لأنّه إذا لم تكن هناك سيادة للقانون وفصل بين السلطات وحريات إعلاميّة وحريات أكاديميّة وحقوق للمرأة في بلد ما، فإنّ الديمقراطيّة لا يمكن أن تزدهر أو تظل على قيد الحياة.

عدد متزايد من الدعاوى القضائيّة ضدّ أكاديميّين وصحافيّين وكتّاب ومفكرين ومعلّقين

أكبر سجّان للصحافيّين فى العالم
أصبح وطني الأم اليوم بلداً مستقطباً ومسيّساً بشدّة، يفقد فيه الآلاف من المثقّفين وظائفهم. فهناك عدد متزايد من الدعاوى القضائيّة ضدّ أكاديميّين وصحافيّين وكتّاب ومفكرين ومعلّقين. وقد قضى أحد أشهر رسامي الكاريكاتير في البلاد، موسى كارت، خمسة أشهر في السجن، وعلى الرّغم من أنّه قد أُفرِج عنه تحت إشراف قضائيّ، إلّا إنّه لا يزال يواجه السجن لمدّة قد تصل إلى 29 عاماً. وأصدرت شبكة حقوق رسامي الكاريكاتير الدوليّة بياناً وصفت فيه المحاكمة بأنّها "محاولة مخجلة من جانب الحكومة التركيّة لزيادة خيبة أمل شعبها".
إنّ الصحافة هي أصعب المهن في تركيا. ومنذ محاولة الانقلاب الدمويّ في عام 2016، جرى إغلاق أكثر من 160 منفذ إعلاميّ واستهلّت عملية تطهير واسعة النطاق. ومع وجود عدد يصل إلى أكثر من 150 صحافيّاً فى السجون، تكون تركيا قد تجاوزت السجل البائس للصين، وأصبحت أكبر سجّان للصحافيّين فى العالم. كما تم إدراج كثيرين آخرين في القوائم السوداء أو أقيلوا أو وصِموا أو تمّت مصادرة جوازات السفر الخاصّة بهم.
والدعاوى الموجّهة بحقّ الأكاديميّين مثيرة للقلق بالقدر نفسه. فالحريّات الأكاديميّة يتم تدميرها واحدة تلو الأخرى. لقد طُرِد أكثر 4,000 أكاديميّ من الجامعات في أنحاء البلاد كافّة. وفقد الذين وقعوا على إعلان السّلام في عام 2016 وظائفهم، دون فرصة للعثور على عمل في جامعة تركيّة أخرى؛ وتمّت محاكمة الكثيرين ومُنِع البعض من السفر إلى الخارج. وكان اعتقال عثمان كافالا من بين حالات الاعتقال الأكثر إثارة للقلق، وكافالا ناشط بارز في مجال حقوق الإنسان والسّلام ورجل أعمال وشخصيّة خيّرة تحظى باحترام كبير من جانب الديمقراطيّين والليبراليّين والأقليّات في تركيا.
ومع انتشار الرقابة الذاتيّة على نطاق واسع، صار النقاش المدنيّ العموميّ أقل بكثير. وعبر وسائل التواصل الاجتماعيّ ووسائل الإعلام السائدة، يجري كل أسبوع تقريباً استهداف أو مهاجمة أو تصفية شخصيّة جديد. وينظر المعهد الدوليّ للصحافة في أكثر من 2,000 حالة منفصلة من حالات الاعتداء على الإنترنت التي تستهدف الصحافيّين بشكل مباشر في تركيا.

فقد الذين وقعوا على إعلان السّلام في عام 2016 وظائفهم دون فرصة للعثور على عمل في جامعة تركيّة أخرى

قوانين لتزويج القاصرات
إنّ تأثير كل ذلك على حقوق المرأة فادِح. لأنّه عندما تعود البلدان إلى الوراء وتنزلق إلى الشعبويّة والتسلطيّة والقوميّة، فإنّ خسارة النّساء تكون أكبر من الرّجال. اليوم، تقوم بعض النساء بأكبر معارك تركيا من أجل الديمقراطيّة.
في عام 2016، طرحت الحكومة التركيّة مشروع قانون يقضي بالعفو عن مغتصبي الأطفال إذا وافقوا على الزواج من ضحاياهن القصّر. وكان نوّاب البرلمان الذين جاءوا بهذه الفكرة البغيضة أكثر اهتماماً بالحفاظ على فكرة مجرّدة حول "شرف العائلة" من حياة الملايين من النّساء والفتيات. وفي مواجهة رد فعل واسع النطاق من الجمهور، تم تأجيل النظر في مشروع القانون.
لكن النوّاب أنفسهم تمكنوا في نهاية المطاف من تمرير مشروع قانون آخر يسمح للمفتين، أي المسؤولين الدينيّين، بأداء الزواج المدنيّ. وفي بلد توجد فيه زيجة تنطوي على عروس في سن الطفولة بين كل ثلاث زيجات، يعدّ هذا تطوّراً خطيراً للغاية. سوف يزيد هذا من عدد العرائس القصّر وحالات تعدّد الزوجات. كما سوف يمكّن الأسر المحافظة/ المتديّنة من تزويج من بناتها في سن أصغر ودون أي إشراف. وعندما أعربت منظّمات نسائيّة متعدّدة عن قلقها بشأن مشروع القانون، وخرجت النّساء إلى الشوارع للاحتجاج، قال الرئيس أردوغان إنّه سوف يتم تمرير مشروع القانون "شئتم أم أبيتم".

في المنهج الدراسيّ الجديد لن يتم تدريس الداروينيّة بل تعزيز مدارس الدعوة، لذا تلجأ الأسر إلى المدارس الخاصة

ويتزايد العنف المنزليّ ضدّ المرأة بمعدل مخيف، ولا يوجد استثمار في ملاجئ النّساء. ويستند خطاب الحكومة إلى قدسيّة الأمومة وقداسة الزواج. وتحت حكم حزب العدالة والتنمية، أخذت حقوق المرأة تتلاشى. وفي الوقت نفسه، تقوم الصحف الإسلامويّة بنشر مواد ضدّ ملاجئ النّساء، وتُطلِق بعض المنظّمات التماسات من أجل حثّ النساء على السفر في عربات "الأولويّة النسائيّة" في القطارات. وتعمل الحافلات الورديّة المخصّصة للنّساء فقط بالفعل في عدّة مدن.
ولن يخفف الفصل بين الجنسين من التحرّش الجنسيّ أو يوفّر حلاً لدورة العنف. يقول غولسوم كاف، من منظّمة سوف نوقف قتل الإناث: "عندما تذهب المرأة إلى الشرطة أو المدّعي العام طالبة الحماية، إمّا يقوموا بإعادتها إلى المنزل، أو محاولة التوفيق بينها وبين زوجها، أو تحصل على أمر بالحماية على الورق فقط".

إلغاء داروين وتعزيز مدارس الدعوة
وممّا يبعث على الانزعاج بالقدر نفسه التغيرات الجارية في النظام التعليميّ: في المنهج الدراسيّ الجديد لن يتم تدريس الداروينيّة. وفي أوائل الألفيّة الحاليّة ذهب حوالي 60,000 طالب إلى مدارس "إمام خطيب"، التي تهدف إلى تدريب الدّعاة المسلمين. واليوم يبلغ هذا العدد 1.2 مليون نسمة. ومن أجل تجنّب أسلمة النظام التعليميّ الوطنيّ، فإنّ الأسر التي تستطيع تحمل النّفقات اللّازمة ترسل أطفالها إلى المدارس الخاصّة. وقد ارتفعت نسبة الأطفال في التعليم الخاص من 7 في المئة إلى 20 في المئة. وهناك أيضاً نزوح إلى الخارج يبعث على الحزن، حيث تشهد تركيا حالة هجرة للعقول لم يسبق لها مثيل.
يغادر العديد من الأكاديميّين والمفكرين والناشطين والصحافيّين والليبراليّين والعلمانيّين البلاد. لكن لا يزال هناك الكثيرون. وهم يحاولون الحفاظ على ارتفاع معنويّاتهم. إنّ المجتمع المدنيّ في تركيا أكثر تقدّماً بكثير من حكومته، ومن الواضح أنّ المرأة التركيّة لن تتخلى عن النضال من أجل حقوقها.
تظل تركيا بدلاً للتناقضات الفاتنة والنفوس الشجاعة والجميلة. لكن الآن، وبعد مرور أكثر من عقد على نشر "لقيطة أسطنبول"، من المحزن أن نرى أنّ الأمم لا تتعلّم بالضرورة من أخطائها، وأنّ التّاريخ لا يتحرّك بالضرورة إلى الأمام. بل إنّه ، في بعض الأحيان، يعود إلى الوراء.
لقد أصبحت تركيا، التي كانت تعتبر في السابق جسراً متوهّجاً بين أوروبا والشرق الأوسط، ونموذجاً يحتذى به للعالم الإسلاميّ بأسره، بلداً غير ديمقراطيّ وغير سعيد.

أليف شافاق - "الغارديان"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية