ماذا تعني الهجمات الإرهابية في مجتمعات بعيدة عن الدين؟

ماذا تعني الهجمات الإرهابية في مجتمعات بعيدة عن الدين؟


كاتب ومترجم جزائري
18/11/2019

ترجمة: مدني قصري


يقول أستاذ الفلسفة فيليب جرانارولو: إنّ "أحد أسوأ آثار الهجمات الجهادية هو تشويه نظرتنا؛ فبغزوهم الفضاء الإعلامي، يميل الشباب المتطرفون والانتحاريون إلى جعلنا ننسى أنّ التطرف الديني قد اختفى من أفق معظمنا، فللغالبية غير المبالية بالمعتقدات الدينية، يعطي هذا المقال الكلمة؛ لأنّه في الواقع، يظلّ المواطنون الذين لا تعصب دينياً عندهم أقوى حصن ضدّ كلّ ألوان التطرف الديني.

جرانارولو: الهجمات التي يرتكبها الجهاديون تصعقنا وترعبنا؛ إنّهم يهاجموننا بتواطؤ وسائل الإعلام

نشر فيليب جرانارولو، العديدَ من الأعمال حول فلسفة نيتشه، بما في ذلك "الفرد الخالد" (L'individu éternel)، و"تجربة الأبدية النيتشية" (Vrin، 1993)، و"نيتشه"، و"خمسة سيناريوهات للمستقبل" Encre Marine) ، 2014)؛ فهو شخصية فكرية مشهورة في مدينة تولون (الفرنسية)؛ حيث يقود العديد من المناقشات والمؤتمرات، ويقدِّم نظرة فلسفية حول الأحداث الراهنة، مع كتابه "بيان العقول الحرة"، يهدف إلى شرح معنى الهجمات الجهادية لمجتمعاتنا (الغربية)، البعيدة كلّ البعد عن الانشغالات الدينية.

نشر فيليب جرانارولو العديدَ من الأعمال حول فلسفة نيتشه
حول هذا الموضوع؛ أجرى موقع "نوفيكسيون" ( nonfiction.fr) مع فيليب جرانارولو، هذه المقابلة:

كتابُك الأخير المستوحَى من أحداث الهجمات الجهادية، والذي يعتمد بشكل أساسي على فلسفة نيتشه، التي أنت متخصّص فيها، وكذلك كانط وعصر التنوير، هو قبل كلّ شيء، من وجهة نظرنا، مدحٌ للامبالاة تجاه الأديان، في سياقٍ أصبح من الصعب أكثر فأكثر، برأيك، جعلُ هذا الصوت مسموعاً "تعصُّبٌ في كل مكان، ولا دين في أي مكان"، هل هذه واحدة من حقائق عالمنا اليوم؟
في أوروبا، ما فتئ التعصّب الديني يتناقص باطراد منذ ثلاثة قرون على الأقل؛ "الحروب الدينية"، مذابح القديس بارثولوميو، وقضية كالاس، تبدو أنّها قد صارت وراءنا بأعوام ضوئية، ننسى أحياناً أنّ تعصّباً آخر قد استولى على السلطة في القرن العشرين: التعصب الأيديولوجي، والنازية والشيوعية، التي أدمت القرن الماضي، لكن مع سقوط حائط برلين، كرر العديد من مفكرينا النشيد الغالي على قلوب فلاسفة القرن التاسع عشر (ماركس ونيتشه على وجه الخصوص)، الذين يتنبؤون بمجيء عالَم خالٍ من الدين، وبإنسانية تدخل أخيراً مرحلة البلوغ، فيما أسماه كانط "أغلبية الكائن البشري".

جرانارولو: إقصاء التعصب الديني من الفضاء العام هو ما يميز مجتمعنا العلماني وهو المجتمع الوحيد الذي يحترم الأفراد في تنوعهم

لعلّه من الضروري الإشادة بالإسلامويين، الذين ساهموا في الكشف عن التسرع في هذا الإحياء الساذج لأمل ماركس ونيتشه، تحاول مقالتي السباحةَ بين اثنين من المزالق: التفاؤل المفرط لدى العقلانيين المتأصلين، والتشاؤم الانتحاري لدى الانحداريين، ليس كتاب "بيان العقول الحرة" مقالاً آخر عن الإسلاموية، لكنّه منظور فلسفي أصلي حول تجاوزات الأصوليات الدينية؛ إنّه دفاعٌ عن حرية التفكير.
أنا أتبنى على وجه الخصوص، عكس وجهة نظر المفكرين الذين أعلنوا "انتقام الإله"، في أساليب وأطر مفاهيمية مختلفة للغاية، يُجمِع كلّ من فيليب موراي، وريمي براغ، أو روبرت ريديكر (هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر من أفراد هذه العائلة العظيمة) على الإعلان عن الانهيار المحتوم لحضارة اعتقدت بسذاجة أنّ بإمكانها أن تحقق التطور خارج المعتقدات، والتي اعتقدت بفخر أن العالم من دون الربّ ممكن.
من بين الأخطاء الرئيسة في تفسير الهجمات الجهادية؛ في رأيك، هو تعزيز الرؤية الساذجة لـ "صدام الحضارات" (عنوان كتاب صموئيل هنتنغتون، المترجم في فرنسا، عام 1996)، بالتالي؛ المساهمة في إنشاء نبوءة تتحقق ذاتياً، لكن بدلاً من حرب الحضارات، وهي العبارة التي استخدمها رئيس الوزراء، مانويل فالس، بشكل خاطئ، عام 2015؛ فإنّ ما يكشف عنه التطرف الإسلاموي اليوم هو في المقام الأول الحاجة الملحة للكفاح ضدّ شكل من أشكال الهمجية (البربرية)؛ كيف تفسِّر أنّ النوايا الأصلية للمتعصبين استطاعت أن تخترق في النهاية عقولنا، رغم علمانية هذه العقول إلى حدّ كبير وبُعد أغلبيها عن الاهتمامات الدينية؟
بما أنّ نوايا المتعصبين قد "اخترقت عقولنا" فهذا أمر لا جدال فيه؛ التعصب، كما قال الراحل أندريه غلوكسمان، الذي أقتبستُ أقواله مرتين في مقالتي، كان بمثابة "الصاعقة"؛ لأنّه يضع نهاية قوية لغياب العنف الذي اعتدنا عليه، فالهجمات التي يرتكبها الجهاديون "تصعقنا" و"تُذهلنا" و"ترعبنا"؛ إنّهم يهاجموننا بتواطؤ وسائل الإعلام؛ لأنّ أيّ هجوم لا يمكن بالطبع أن يرعبنا إلا إذا تمّ تضخيمه بواسطة وسائل الإعلام، وعليه؛ فإنّ الأمر متروك للمثقفين كي ينتزعونا من هذا الترهيب والترعيب.

اقرأ أيضاً: الذئاب المنفردة: هل هو إرهاب عشوائي بالفعل؟
للخروج من حالة الذهول والانصعاق ليس هناك سوى طريقة واحدة فقط: الطريقة التي تضعنا على سُلَّمٍ زمني آخر، الطريقة التي تسمح لنا بالتفكير على المدى الألفي للزمن؛ فبصفتي تلميذاً لنيتشه، فقد تعلمتُ تدريجياً أن أضع تأملاتي على هذا النطاق الزمني، وعلى هذا السلَّم الزمني تحديداً تقع جميع تحليلات كتاب "بيان العقول الحرة".
الهجمات التي يرتكبها الجهاديون "تصعقنا" و"تُذهلنا" و"ترعبنا"

أنت لا تؤمن بأنّ الشعب الفرنسي على استعداد بأغلبية ساحقة لرفض ما بين 5 إلى 6 ملايين من رعاياه من أصل إسلامي، واعتبارهم متطرفين في حيّز القوة (محتمَلين)، كما تشير بعض الخطب السياسية إلى ذلك، مقابل رؤية "الحرب الأهلية" هذه الزاحفة بدهاء، بشكل أو بآخر، أو "حالة الطبيعة الهوبيسية" (نسبة إلى الفيلسوف توماس هوبز(1)، فأنت ترى أنّ دعاة السلام الحقيقيين في المجتمع الفرنسي يجب أن يكونوا مواطنين من دون دين "نحن  الغالبية العظمى من الذين ما زالوا غرباء على الدين"؛ وهذه هي كلماتك، أياً كانت أصولهم، ومع ذلك، فمن دون المطالبة بدينٍ علماني أو مدني جديد، كيف يمكننا تهدئة وإخماد الممارسات الدينية في بعض المناطق، حيث خطرُ التعصب أضحى حقيقة قائمة معروفة؟
يبدو أنّني أرى وراء سؤالك صدى صيغة تتكرر في كثير من الأحيان: "لا يمكننا أن نموت من أجل العلمانية"، يبقى السؤال هو ما إذا كنا نستطيع العيش دون دين أم لا؟ في الفصل المعنون "نهاية فقدان طويل للذاكرة"، أتحدث عن ذلك مع  ريجيس ديبراي (Régis Debray)(2)، الذي لفتت أعماله انتباهي دائماً؛ فإما أنّ العالم السياسي محقّ، فلا يمكن أن يكون هناك تجمع بشري دون معتقد مؤسسي قوي يربط أعضاء المجموعة، وهو معتقد لا صلة له بـ "الحقيقة"، كما أكده في الأصل "نقد العقل السياسي"، عام 1981، فالوظيفة الوحيدة والفعالية الوحيدة للاعتقاد المؤسس هي تحويل الأفراد المشتتين إلى هيئة اجتماعية، وإما أنّ ريجيس ديبراي على خطأ: أنّ شيئاً آخر غير الاعتقاد الأعمى قادر على جمعنا، هذه هي الأطروحة التي أدافع عنها.

يهدف جرانارولو في كتابه "بيان العقول الحرة"، إلى شرح معنى الهجمات الجهادية للمجتمعات الغربية البعيدة عن الانشغالات الدينية

بشكل ملموس، كيف يمكن لمجتمع متّحد خارج المعتقد الديني أن يحارب أفراداً عالقين في فخّ التعصب؟ سلبياً، من خلال عدم الوقوع في الفخ الأمني، أولى الاقتباسات التي وضعتُها بوضوح في مقدمة فصول كتابي هي صيغة لهوبير فيدرين: "كوننا غير مقتنعين بأنّ الإرهاب هو التهديد الرئيس أحدثَ كثيراً من الضرر لمجتمعاتنا"، فمع مطالبة الدولة بتنفيذ جميع الوسائل المتاحة لها لحمايتنا، يجب أن نضع نصب أعيننا أنّ تأمين جميع أراضينا مُهِمّةٌ مستحيلة، نحن في حاجة إلى دمج التهديد الإرهابي في حياتنا اليومية، وإيجابياً؛ بِرفع الجهد التعليمي بشكل كبير في مناطق الجمهورية المنسية والمهملة. فمن خلال دعوتنا لجلد أنفسنا وممارسة الندامة والتوبة قدّم البعضُ أفضل الأسلحة إلى الأيديولوجيين الإسلامويين المتطرفين، يجب أن نكون مقتنعين بالجودة الإنسانية لنموذجنا الثقافي: كيف يسعنا نقل هذا النموذج ومشاركته إذا كنا نشكّ نحن أنفسنا في قيمته؟
المفارقة في مقالتك المحفّزة تتمثل في الدعوة إلى نوع من "اللادين" للجميع، في سياق تتفاقم فيه شتى ألوان التعصب؛ ألا ينطوي هذا النهج على خطر تأكيد الهُويات (هذا "التقليد البعيد عن الأديان منذ 25 قرناً"، منذ اليونان القديمة إلى العلمانية الجمهورية، وحتى عصر النهضة والتنوير) أو الإعلان عن "نهاية فقدان الذاكرة" (عنوان أحد فصول كتابك)، في حين أنّ كلّ شيء يحدث كما لو كانت هذه الرؤية لم تعد تمثل جزءاً كبيراً من رؤية معاصرينا؟
إنّك تثير خطر التأكيد على هُوية من الهُويات: لكن، من دون هوية يجب الدفاع عنها، ما الذي يمكننا أن نواجه به مشروع غزو الإسلامويين المتطرفين؟ مشروع الغزو قائم بالفعل، ولم يظهر عام 2001؛ فهو قائم وقد تمّ تطويره تطويراً كاملاً منذ ثلاثينيات القرن العشرين، في كتابات حسن البنا (مؤسس جماعة الإخوان المسلمين)، ثم في النصّ الذي ما يزال بمثابة دليل للجهاديين اليوم "معركتنا ضدّ اليهود"، التي كتبه سيد قطب في أوائل 1950.

اقرأ أيضاً: محاربة الإرهاب لم تنتهِ
بقدر ما تبدو لي خطيرة الإشارة إلى "الجذور المسيحية لأوروبا"؛ لأنّ مثل هذه المرجعية يمكن أن تكون حاملة للعداء بين الأديان المعادية لبعضها، بقدر ما يبدو لي أمراً أساسياً وصحياً أن أطالب بالجذور الفلسفية لحضارتنا، قبل خمسة وعشرين قرناً على الأرض اليونانية، عرف رجال مستنيرون، يركع المعاصرون اليوم أمام تماثيل زيوس أو أثينا، كيفية استخدام القوى الوحيدة لعقولهم لفكّ رموز الطبيعة والتساؤل في جوهر الإنسان، وقد يظنّ قرّاؤك أنّ ارتباطي الطويل بنيتشه قد شوّه تقديري للأشياء: لكنني مقتنع تماماً بأنّه في غضون بضعة قرون، سوف يُنظر إلى التعصب الديني في الديانات السماوية الثلاث، سوى باعتباره فترة عابرة في تاريخنا، كلحظة قصيرة من التيه في عملية تحرّر العقل الهائلة!

من اللافت أحياناً، عند قراءة مقالك، أن تفكّر في الردّ، الذي جاء خلال الحملة الرئاسية الأخيرة، على لسان جان لوك ميلنشون - الذي تُعدّ خلفيته الفلسفية (الحقيقية، على عكس العديد من السياسيين) أقرب إلى مفكرين أمثال ماركس وفويرباخ منها إلى فكر نيتشه، وهو يجيب عن سؤال الصحافيين حول "البوركيني" قائلاً: "أبعدوا عنا قصصكم الدينية! لن تضيّع فرنسا وقتها في مناقشة الدين"؛ أليس هذا هو السؤال الأساسي الذي يواجه الجمهورية منذ تأكيدها الفلسفي والسياسي؟
لا يمكنني إلا أن أقرّ ببعض التقاربٍ حول هذه النقطة (وفقط هذه النقطة) مع جان لوك ميلنشون؛ نعم، قول ميلنشون "دعونا وشأننا" يفسر صياغة "اتركنا في سلام"، الذي يختم تحذير "بيان العقول الحرة"، لكن بعد أن كُتِب هذا التحذير خلال عام 2015، أدّعي في هذا الشأن أني سبقتُ جان لوك ميلنشون. لا، الدين لم يعد شاغلنا الرئيس مرة أخرى، الجميع لا يهتمون! مهما كانت المعتقدات الدينية التي تقاسمنا إياها أقليةٌ من مواطنينا، ففي غياب التعصب الديني تحديداً، تَعلَّمْنا كيف نبني مجتمعاً، دعونا لا نعكس ترتيب الأشياء: ليس غياب البعد الديني هو الذي يُهدّد مجتمعنا، بل إنّها همجية الأصوليين الدينيين.

اقرأ أيضاً: منتديات داعش: أكاديمية ضخمة لتعليم الإرهاب
مقالتي تعارض وجهاً لوجه كلّ الذين يدينون مجتمعاً يملك جرأة الادعاء بالعيش خارج التعصب الديني، إنّ إقصاء التعصب الديني من الفضاء العام هو ما يميز مجتمعنا العلماني، وهو المجتمع الوحيد الذي يحترم الأفراد في تنوعهم، وخاصة المجتمع الوحيد الذي يتوافق مع التقنيات التي تُستمَدّ جميعها من حرية الفكر، يجب على أولئك الذين يرفضون العلمانية أن يتخلوا عن استخدام الإنترنت وعن هواتفهم المحمولة، وهي منتجاتُ نظرياتٍ علمية طوّرها العلماء الذين لديهم الشجاعة للابتعاد عن المعتقدات القديمة، عليهم أن يكتفوا فقط باستخدام الحَمَام الزاجل، وعليهم ألّا يهاجموا عدوّهم إلا بالمقلاع والرماح؛ لأنّ التماسك ليس شاغلهم الرئيس.
ليست حرية العقل قوة فحسب، بل هي القوة الوحيدة التي تتناغم مع المسار الذي سلكته حضارتنا منذ خمسة وعشرين قرناً، العقول الحرة، بعيداً عن أن تتعرض للحركة الإرهابية، هي مستقبل الإنسانية لا محالة.
 


الهوامش:
(1) توماس هوبز (5 نيسان 1588 - 4 كانون الأول 1679)، (بالإنجليزية: Thomas Hobbes): عالم رياضيات وفيلسوف إنجليزي، يعدّ توماس هوبز أحد أكبر فلاسفة القرن السابع عشر بإنجلترا وأكثرهم شهرة، خصوصاً في المجال القانوني؛ حيث كان بالإضافة إلى اشتغاله بالفلسفة والأخلاق والتاريخ، فقيهاً قانونياً، ساهم بشكل كبير في بلورة كثير من الأطروحات التي تميز بها هذا القرن على المستوى السياسي والحقوقي، كما عرف بمساهمته في التأسيس لكثير من المفاهيم التي لعبت دوراً كبيراً، ليس فقط على مستوى النظرية السياسية؛ بل كذلك على مستوى الفعل والتطبيق في كثير من البلدان وعلى رأسها مفهوم العقد الاجتماعي، كذلك يعتبر هوبز من الفلاسفة الذين وظفوا مفهوم الحق الطبيعي في تفسيرهم لكثير من القضايا المطروحة في عصرهم.
(2) ريجيس ديبريه: ولد في 2 أيلول 1940، بباريس، وهو كاتب وجامعي فرنسي ومنظم الميديولوجيا، حصل على جائزة فيمينا الأدبية، عام 1977 ، وهاجر في شبابه كمقاتل أجنبي في الغابات إلى جانب تشي غيفارا في أمريكا اللاتينية.


مصدر الترجمة عن الفرنسية: www.nonfiction.fr



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية