السينما الجزائرية ومرثيات اليأس السياسي

السينما

السينما الجزائرية ومرثيات اليأس السياسي


27/06/2019

بعد مرور موجة احتجاجات "الربيع العربي" 2011، ساد اعتقاد أنّ الدول التي لم تنتفض كان لها النصيب الأوفر من الاستقرار السياسي، ومنها الجزائر التي جاءت الاحتجاجات الشعبية التي أطاحت بالرئيس بوتفليقة لتكشف بركاناً كامناً في نفوس الجزائريين التي لم تُشفَ بعد من جراح سنوات الجمر وخاصة رواسب "العشرية السوداء" في التسعينيات، وهو ما عكسته السينما الجزائرية مؤخراً في مجموعة من الأعمال المهمة التي سبقت الأحداث الأخيرة وكأنّها تستشرف هذه المآلات من خلال طرح أسئلة لا يريد أحد الإجابة عنها أو يتجنّبها بعبثية خوفاً من مواجهة الواقع.  
"السعداء":  حيرة الفرانكفونية والإسلاموية
المخرجة الجزائرية الشابة، صوفيا جاما، والتي عاشت مراهقتها مع اندلاع "العشرية السوداء" في الجزائر، فكانت شهادتها حيّة على تلك الأحداث الدامية التي خلّفت قرابة ربع مليون شهيد لطعنات الغدر والإرهاب، وذلك من خلال فيلمها الأخير "السعداء"، العام 2017، الذي تدور أحداثه في الجزائر العاصمة؛ حول عائلة عادية: الأب سمير (سامي بوعجيلة)، والأم آمال (نادية قاصي)، والابن فهيم (أمين الأنصاري)، ومن شرفة منزلهم المطلّ على مقابر الشهداء، فوق سطح البحر، في تقارب مدلوله ازدواجية الحياة والموت، وخيط رفيع يفصل بينهما، الابن المراهق يستهويه العيش في المدينة، يتسكّع مع الأصدقاء، ويدخن المخدرات، ويأبى أن يحقّق حلم الأم، التي أصابها الاكتئاب جراء الوضع الجاري، وتحفز ولدها على استكمال دراسته خارج البلاد، والهجرة من مستقبل ضبابي لا يعرفون مآلاته، وبين هذا الملل المتسلل إلى الزوجة من حياتها، وصراعها مع الابن الذي تدفعه دفعاً للسفر، يحاول الأب احتواء الموقف وإسعاد الزوجة، الذي علا الحزن وجهها طوال مشاهد الفيلم، وهنا تشير المخرجة إلى الحرب التي جمعت بينهما كزوجين، وحالة اليأس السياسي والملل المجتمعي الذي تسلّل إلى علاقتهما.

اقرأ أيضاً: "الممر" فيلم مغامرات تقليدي أم علامة بارزة في السينما المصرية؟

المخرجة الجزائرية صوفيا جاما

إلى جوارهم؛ تقطن الفتاة المراهقة فريال، ورفيقة فهيم، الذي يحاول كسب ودّها، بينما تعيش الفتاة في عالم داخلي؛ حيثُ فقدت والدتها خلال أعوام الإرهاب، وما تزال طفلة، بينما أصيب الأب بالاكتئاب، لتصبح هي ربة المنزل، ومتنفسها الوحيد، الجار القاطن بمنزل مجاور، يعاني من الفقد ذاته، لكن من زوجته التي ماتت بتوقيت والدة فريال نفسه، لتنشأ علاقة خاصة بينهما، هي مزيج من الأبوة والصداقة، فقد جمعهما الألم الذي تجرعاه بنفس الوقت والطريقة، وبانسيابية شديدة تسير أحداث الفيلم في رتابة تنقل للمشاهد، كيف غاصت الجزائر، والتي كانت أيقونة الثورة والتحرر الوطني في ستينيات القرن الماضي، حالة من الرتابة لم تشهدها البلاد، وكأنّ القدر قد حكم عليها، إمّا بالحرب أو الموت الإكلينيكي.

ترصد مخرجة "السعداء" التناقض الكبير الذي وقع فيه المجتمع في بين الإرث التقدمي والحاضر الراديكالي

ترصد المخرجة التناقض الكبير الذي وقع فيه المجتمع في بين الإرث التقدمي، والحاضر الراديكالي، الذي حاول الإسلامويون نشره في المجتمع، في عدة مشاهد تحركت بينها؛ حيث يدخن الابن (فهيم) مع صديقه المراهق (علي) الحشيش على آيات من تلاوة الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، في إشارة لتديّن المراهق الصوفي، الذي يريد دقّ وشم على ذراعه بآيات من سورة الإخلاص، إلّا أنّ فهيم يشير إلى "حرمة" الوشم في الإسلام.
استطاعت المخرجة الشابة، من خلال عملها الأكثر نضجاً، رصد تفاصيل المجتمع الجزائري الجريح بكل تناقضاته؛ حيث ينقسم الفيلم إلى حيوات متوازية، لأجيال متعاقبة، وحرب ضروس جعلت الحياة بلا طعم، حتى شاطئ البحر أبرزته الكاميرا بلا أمواج وقت غروب الشمس، وهو ما يوقع في نفس المُشاهد شعوراً بكآبة المدينة، رغم جمال منازلها البيضاء العالية المطلة على البحر، وترصد جيلاً آخر ولد وقت الحرب يعيش حالة من الاغتراب الممزق؛ بين المخدرات التي يستخدمها ليهرب من الواقع الحزين، وبين التدين والشعور بالذنب الملاصق للمتدينين، من أيّة صغيرة أو كبيرة في حياتهم، وهو فهيم المراهق وصديقاه علي وفريال، الذين يتداورون تدخين الحشيش..، بينما ترتل الآيات القرآنية، وحين يؤذن للصلاة، يهرول علي حاملاً سجادة صلاته إلى المسجد، وتلك فريال التي تمتثل لتعاليم الأسرة والأب المكتئب، والأخ الذي يدمن المخدرات، لتهرب من منزلها ليلاً، بعد نوم الأب، مع صديقيها لتدخين الحشيش.

"طبيعة الحال".. الملل سيد الموقف
مع اقتراب نهاية الولاية الرابعة للرئيس بوتفليقة، العام 2018،  قدّم المخرج الشاب، كريم موساوي، فيلمه "طبيعة الحال"، أو كما عن ترجمته من الفرنسية "حتى يعود السنونو"، الذي يتسلل فيه الملل إلى الحضور من مشاهد متتابعة في غموض، وتراتيب الأحداث التي تتداخل بشكل مربك وبأسلوب السرد المتباعد، وكأنّه يعكس حياة الجزائريين الذين أرهقهم اليأس السياسي.

اقرأ أيضاً: مصر: سينما الغيبوبة إذ تصادر أشواق الإنسان البسيط
بهذه التقنية سعى موساوي إلى اجتذاب المشاهدين وإيصال رسالة مفادها؛ "هنا الملل سائد بطبيعة الحال"، والفيلم نال إشادة النقّاد في قسم نظرة ما، بمهرجان "كان" السينمائي، دمج المخرج من خلاله ثلاث قصص مختلفة، من لُبّ الحياة العادية، بمشاكلها البسيطة التي لا تنطوي على أيّ أفق، فكلّ ما يطمح هؤلاء إليه أن يعيشوا آمنين، متخلصين من إرث الماضي، في القصة الأولى يظهر الأب الذي يحاول إقناع ابنه باستكمال دراسة الطب، بينما يسعى الابن لدراسة الموسيقى والهجرة إلى كندا، بعيداً عن وطنه الذي وصفه بالبائس، فيما تحاول زوجة الأب العودة إلى فرنسا حيث كانت تعيش قديماً، بعد أن أصابها الضجر من بلد لم تعد تجد فيه شيئاً يجذبها، ويقف الأب حائراً يعلو الحزن وجهه، يعتليه الحزن واليأس من أيّ تغيير في حياته.

المخرج الجزائري كريم موساوي في مهرجان "كان"

ينتقل المخرج فجأة إلى القصة التالية؛ حيث يوجد شاب وفتاة وقصة حبّ معقدة، فالحبيبة تذهب في طريقها لمدينة أخرى؛ حيث يُعقد قرانها على رجل مناسب، لا تحبه، بينما يقود سيارة السفر الحبيب الذي تتمنى الزواج منه، لكنّها تقع أسيرة الاختيار بين الحبّ، الذي يفرض عليها المغامرة والصراعات الاجتماعية التي لا تعلم تبعاتها، وبين الالتزام في منظومة زواج تقليدية، تحميها من آثار الصدام مع العائلة.

اقرأ أيضاً: داوود عبد السيد: تحويل الأدب إلى السينما "افتراس"
ومن خلال تناقضات تظهرها تصرفات الفتاة المحجبة، التي تخلع الحجاب عن رأسها بعد انفرادها بالحبيب، لتذهب إلى حانة فندق يسكناه معاً بعد أن تعطلا في الطريق إلى العرس. وبالانتقال إلى القصة الأخيرة، نجد هذا الطبيب الذي يحضّر لمشروع زواجه، ويلاحقه الماضي الذي يريد التغافل عنه والمضي قُدماً، بينما تتبعه سيدة مجهولة تتهمه بإنجاب طفل منها، ولا يملك حيلة لتكذيب ادّعائها، فها هو الماضي ما يزال يطارد الجزائريين، ولا أحد يقوى على الفكاك منه.

"أطلال".. أنين الأرض الجريحة
على أطلال قرية أولاد علال، التي هجرها أبناؤها، حمل المخرج الجزائري الشاب، جمال كركار، عدسته يتحسس خطواته فوق أرض جريحة، بعدما فرّ أبناؤها حفاظاً على أرواحهم، ليسرد على العالم قصة القرية الخاوية على عروشها، من خلال فيلمه "أطلال"، إنتاج 2016؛ حيث يتجول بعدسته، بين أشجار التفاح والخوج المحروق، وبلقاء من تبقى من شباب القرية أجرى أحاديث مطولة معهم، يستمع منهم لحكايات الحرب التي لا تنتهي، بينما تتشح وجوههم باليأس من حياة أفضل بعدما أنهكتهم البطالة، وهمشتهم الدولة، وعلى موسيقى الشاب حسني، الذي اغتاله الإسلامويون، العام 1994، يستمر المخرج في عرضه لما تبقى من القرية المنكوبة، ويشتبك بشكل صريح مع الحالة السياسية للبلاد، وحالة الخمول واليأس التي أصابت الشباب، متحدثاً عن تبعات الحرب التي لم تداوِها الأعوام، وينتقل المخرج بين الشرائح العمرية المختلفة ممن عاصروا الحرب شباباً، وصاروا اليوم شيوخاً، ومن قضوا طفولتهم خلالها، لم تختلف الأحاديث بين الجميع، فالكل جريح من حرب لا ناقة له فيها ولا جمل.

المخرج الجزائري جمال كركار

يحاول كركار استخدام تراث الراي الجزائري بكثافة، خلال مدة العرض، خاصة أغنيات الشاب حسني والشيخة فضيلة، كونهما أكثر من تضرّرا من الحرب من أبناء الوسط الفني، فالأول قُتل، والثانية هربت إلى فرنسا بعد تهديدها بالقتل، لكن ما أجمع عليه أهل القرية، كان هذا اليأس والسكون الذي أصاب أرواح الناس، واختطف منهم الحياة بحركتها الطبيعية.

فيلم "طبيعة الحال" يدمج فيه ثلاث قصص مختلفة من لبّ الحياة العادية بمشاكلها البسيطة التي لا تنطوي على أيّ أفق

وهو ما أكدته إحدى بطلات فيلم السعداء، الممثلة والمطربة الجزائرية سليمة عبادة، لـ"حفريات" قائلة: "في الأعوام الأخيرة؛ انتعشت السينما الجزائرية بفضل عيون الشباب الثاقبة، فالجيل الجديد الخارج من وطأة الحرب والمنهك من الجمود السياسي الذي نعيشه، وضع يده على أول الطريق، بعد تعطش الجزائريين لأعوام تمّ القضاء فيها على الحياة الفنية".
وترى سليمة أنّ الأفلام الثلاثة السابقة "قدّمت معالجة جذرية للأمر، فكل الحالات التي عاشها أبطال الأفلام هي مجتمعنا الجزائري بآلامه وأحزانه، المنتظر لمستقبل أفضل، وصدقت نبوءة الفنّ، حينما خرج الشباب في تظاهرات أشاد بها العالم أجمع".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية