رمضان الشعراء في تونس: فرح صغير وليمون حلو

رمضان الشعراء في تونس: فرح صغير وليمون حلو


07/06/2018

لم يعد رمضان محطة دينية يقبل فيها المسلمون على العبادة، ويكثفون الطاعات فحسب؛ بل صار أيضا موسماً اقتصادياً تتضاعف فيه نسب الاستهلاك بشكل ملحوظ. غير أن الأهم هو تحول ليالي هذا الشهر إلى مهرجانات وفعاليات ثقافية في المدن والقرى، وتتنافس وسائل الإعلام العربية على تقديم أفضل المواد من أفلام وبرامج ومسلسلات غايتها الفوز بثقة المشاهدين ومتابعتهم. إنه شهر ثقافي بامتياز إذاً، يفرض حضوره ويغير الواقع ويعدّل الأجندات الخاصة للمبدعين العرب، وبخاصة الشعراء الذين لهم طقوسهم الخاصة في "رمضان".

مأدبة الفرح الصغير

لا شيء يستحق الذكر بالنسبة إلى الشاعر المغربي عبد الرحيم الخصار عدا اختلاف الليل والنهار. وإذا كان النهار عنده هو رحلة قصيرة لانتظار الليل، فذلك لأنه يحوله إلى نسر يؤثث مأدبة للفرح. يقول: "لا تكاد تختلف الأشهر والأيام بالنسبة لي، الفرق عندي غالباً يكون بين الليل والنهار، النهار الذي نسعى فيه على الأرض، والليل الذي نتحول فيه إلى ذلك النسر الذي ترتاح فريسته تحت مخالبه، كما عبر عن ذلك الشاعر الآشوري سركون بولص".

الشاعر المغربي عبد الرحيم الخصار

ويضيف صاحب "عودة آدم": "أنا كائن ليلي إذا جاز في حقي هذا الوصف، تعودت على السهر، حتى وإن كانت الثامنة صباحاً تنتظرني كساعة عمل، ربما لهذا السبب ما يعنيني في رمضان هو ليله، الليل الذي أحاول أن أحافظ فيه على الطقوس نفسها تقريباً. عدا ساعات العمل، أستغل النهار عادة في القراءة بإيقاع خفيف. أما الليل فهو ليل ملهِم بالنسبة إلي. إن كأساً من الشاي مع كتاب أدب رفقة موسيقى الجاز مثلاً، أو موسيقى عربية قديمة، لهي متعة ما بعدها متعة. كل ما أفعله في الليل هو أنني أحاول أن أقيم للفرح الصغير مأدبة. فان غوخ قال مرة "الليل أكثر حياة وذخراً بالألوان من النهار".

عبد الرحيم الخصار: ما يعنيني في رمضان هو ليله الذي أحاول أن أحافظ فيه على الطقوس نفسها تقريباً

ولتلك الأسباب فإنّ ليل رمضان الصاخب بالحياة والألوان هو الأنسب بالنسبة إلى الخصار مادام إيقاعه مناسباً لعاداته "غير الصحيّة" كما يخبره الأطباء فيقابلهم باستخفاف: "لكن ماذا نفعل بعمر طويل متعته قليلة؟ عمر قصير بمتع كثيرة أجمل. وما من متعة للشاعر سوى الليل وكلماته وموسيقاه وأوهامه التي يتشبث بها".

رمضان: الضيف الخفيف

أما الشاعر والمترجم التونسي جمال الجلاصي فإنه يلج الشهر مثقلاً بالذكريات وعطرها في مدينة قليبية الساحرة. يقول: "كلّما أوغلت في الذّكريات يعود إليّ شهر رمضان كفرحة غامرة في البيت والحيّ والمدينة بأسرها. قليبية مدينة تحتفي بأسرها برمضان حيث تشرق أسواقها وأحياؤها. ولم تشذّ عائلتنا الصغيرة عن هذا الاحتفاء، ولكن بطريقة خاصة، حيث يسحب أبي من صندوقه الخشبيّ كتابين: عنترة بن شدّاد وتفسير ابن كثير للقرآن الكريم، ويجتمع الجيران حول برّاد الشاي وأبي وهو يجلس فوق مصطبة ويقرأ لنا سيرة عنترة أو مفسّراً لبعض الآيات البيّنات".

الشاعر والمترجم التونسي جمال الجلاصي

ولما تحول جمال الطفل إلى أب سار على درب الوالد في عاداته الرمضانية المميزة: "ورغم أنّي لم أكن من المواظبين في شبابي على صيامه إلّا أن رمضان ظلّ بالنسبة إليّ شهراً مميّزاً. وقد واصلت مع أبنائي في طفولتهم سيرة أبي حيث كنّا نجتمع، بعد الإفطار ومتابعة بعض ما تجود به التلفزة، حول كتاب العقد الفريد أو ألف ليلة وليلة، ونتداول على قراءة صفحات منه. وأحيانا أتولّى قراءة ما تيسّر من القرآن وخاصة سورة يوسف لما تحويه من قصّ بديع".

جمال الجلاصي: كلّما أوغلت في الذّكريات يعود إليّ شهر رمضان كفرحة غامرة في البيت والحيّ والمدينة بأسرها

وأما أيام صاحب "باي العربان" فإن إيقاعها يتغير في رمضان ويتغير معها إيقاع الكتابة عنده. "فقد تعوّدت على الكتابة في الصباح الباكر، لكنّي خلال رمضان أعمل في آخر الليل حتى وقت السحور. وهو وقت تهدأ فيه الحركة وترتاح النفس". ويضيف: "أمّا عن القراءات فيتغيّر محتوى الكتب، فأميل أكثر إلى الكتب التاريخية والفقهية، وخاصة تفسير ابن كثير الذي ورثته عن أبي رحمه الله".

إيمان وليمون حلو..

تركز الشاعرة التونسية بسمة المرواني على البعد الإيماني لشهر رمضان وتعتبره رمزاً لتصفية القلوب والإقبال على معرفة الله لتزكية النفس وتطهيرها. إنه "شهر الطقوس الإيمانية يحيط بكل قلب مؤمن سور الإيمان، ويضيء نبراسه بذكر الله، فلن يجرؤ كدر ولا همٌ على هز سياجه.. اللهُ في كلِّ خطوب ترفعُ إليه الشكوى ويبتهلُ وعليه يتكلُ.. رمضان له إشارات تظهر للسعادة.. لمحاسبة النفس كالطائر الحذر يخشى مهارة القناص وطائشة الرصاص. وأقصد أن يتقي الصائم الله، ويصير بينه وبين ربه معرفة خاصة، يعرض عن السيئات ليطمئن قلبه ويزكو عمله".

الشاعرة التونسية بسمة المرواني

أما عن نفسها فترى صاحبة "تجليَّات على حافَّة التجريد" أنّ شهر الصوم فرصة للاعتدال في أخذ الأمور: "أوله أن أطوي صفحةَ الإساءات بيد النِّسيان، وأقنع نفسي أنَّ قلبي هو الأولى بالنظر في صفحاته. أنا أستقبل ضيفاً عزيزاً وهو في الحقيقة لا يفدُ إلينا إلا مرة في العام، ضيفٌ تَخفق بحبه القلوب، وفرصة أراه للتأمل والمطالعة والإنجاز".

ثم إنّ رمضان بالنسبة للمرواني فسحة للقاء بالأسرة ولمّ الشمل، و"رغم إرهاق اليوم من ضمأ وجوع إلا أنني أستغله أولاً مع الأهل بين اليوم والآخر وأصنع معهم ليموناً حلواً. في كل ليلة استحضر مع أسرتي التي امتلأتْ حَنانًا، كيمياء الحياة ونقصد كل الجهات في فروعها في سهرات رمضان. لست أنسى أبداً تلك القداسة التي كانت تنهال من الأمكنة، لأنّ فيها أصحابها الطيّبين الخلّاقين! لن أنسى أبداً من مات وبقي حياً في كينونتي، يلوّح بآثاره الطيّبة".

بسمة المرواني: رغم إرهاق اليوم من ظمأ وجوع إلا أنني أستغله بين اليوم والآخر وأصنع معهم ليموناً حلواً

ولرمضان وجهه الثقافي أيضاً إنه من هذه الناحية: "شهر الفتنة والروعة.. فالسهرات حيث للشعر نصيب في الأمسيات الليلية التي يؤثثها عشاق الحروف ومن يستأنسون بصهيل الحرف انشادا في العديد من الفضاءات".

وبحكم صلتها بالساحة الثقافية مبدعةً وشاعرة، فإنّ لها "مسارح النظر في ملكوت الكتب وهي ديدني حيث لي في مسألة العزلة في الشهر أكثر من غيره لأكون مطلعة على أكثر من كتاب يعكس جوهر الجمال الذي أبحث عنه بين ثناياها ... بدقة أنتقي كتبي التي هي عطشي المستمر، بها أنفض غبار الصّمت عن بدن الحروف المتوقّفة عن المسير في طريق التأويل المتشعّب، أو ألوذ بالكتابة".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية