منذ كتب الغزالي مدونته الشهيرة "تهافت الفلاسفة"، باعتبارهم –في ظنّه- طائفة ترفض وظائف الإسلام، ولا يقف أصحابها عند توقيفاته وقيوده، ورد عليه ابن رشد في كتابه الشهير "تهافت التهافت" ليؤكد أن قدرة الفلاسفة على إثبات وجود الله أقرب إلى العقل من مذهب أهل السنة، وقضية الفلسفة ودورها في صياغة منطلقات العقل العربي تتصدر المشهد الجدلي بين الحين والآخر، وكان ما شهده دور المثقف العربي من تراجع على الصعيد الاجتماعي في الآونة الأخيرة، سبباً في عودة إشكالية الفلسفة وتجلياتها في البنى الاجتماعية إلى الظهور من جديد.
حالة (اللاعقلانية) باتت عنواناً رئيسياً لمشهد تتجلى فيه كل إكراهات الفشل ما يستدعي الحاجة إلى النزعة العقلانية
ربما يبدو من المناسب إعادة طرح السؤال الذي وجهه الدكتور زكريا إبراهيم قبل نصف قرن، في مقال بعنوان دور الفلسفة في مجتمعنا المعاصر (نشر في العدد71 لسنة 1971من مجلة الفكر المعاصر)، حين تساءل عما إذا كانت العقل الفلسفي قد أدى دوره في مجتمعنا العربي المعاصر أم لا؟
تساؤل يطرح قضية شديدة الأهمية، تتلخص في مدى تأثر المجتمع العربي المعاصر بالفكر الفلسفي، باعتبار الفلسفة من الروافد الأساسية التي تغذي العقل وتسهم في تطوره.
كشف زكريا إبراهيم منذ قرابة نصف قرن عن الأبعاد التي لابد للروح الفلسفية أن تمتد إليها في صميم العقل، واضعاً يده على نقاط الضعف التي اعترت وما تزال البناء المعرفي العربي، والتي تتلخص فيما أطلق عليه حالة (اللاعقلانية)، التي باتت عنواناً رئيسياً لمشهد تتجلى فيه كل إكراهات الفشل، وعوامل التأخر الحضاري، مؤكداً أنّ الحاجة إلى النزعة العقلانية باتت مطلباً ملحاً.
اقرأ أيضاً: لماذا علينا تدريس الفلسفة؟
ولكن كيف يتم ذلك في ظل السمعة السيئة للفلسفة في مجتمعاتنا، وهو الأمر الذي يبدو ملموساً إلى الآن، فما تزال كلمة (الفلسفة) تشير وسط العوام إلى كل ما هو مشبوه من لغو الحديث، ويبدو أنّ الاستعمال الشائع لكلمة الفلسفة، ألقى بظلال كثيفة من التوجس والريبة، والمثير للدهشة أنه وبعد نحو نصف قرن من تلك الملاحظة، لايزال للكلمة نفس الوقع، كلفظ منبوذ عند عوام الناس، وهو ما يضع الكثير من علامات الاستفهام حول جدوى مشاريع التنوير ومدى فعاليتها في محيط يرفض بإصرار كل دعوات التفكير.
العقل العربي في حاجة إلى تفكير منظم يكون فيه التفكير الفلسفي عاملاً على اكتساب العادة العقلية
يعود زكريا إبراهيم إلى دعوة "هوسرل" إلى العمل على تكريس التقليد العقلاني، وإعادة الثقة الضمنية بجدية البحث عن الحقيقة، كإجابة موضوعية لإشكاليات الواقع، باعتبار أنّ كل جهد يبذل في سبيل استرجاع الإيمان الفلسفي الحقيقي، هو جهد إنساني من شأنه أن يحقق وحدة عقلية شاملة للجنس البشري، وفي رأيه، ليس أخطر على الحياة الفكرية في أي مجتمع من أن تكون الثقافة التي يحيا عليها أفراد ذلك المجتمع مجرد مجموعة من التصورات الجاهزة، أو الإطارات العقلية الجامدة التي يسلم بها الناس تسليماً، دون أن يسألوا مطلقاً عما تنطوي عليه من معانٍ، أو ما تستند إليه من فروض، وعليه يصبح الفكر المفتوح الذي لا يكف عن الرجوع إلى الأصول، والبحث عن الافتراضات الأولية، طوق النجاة الأمثل، من أجل الانطلاق إلى آفاق البحث العقلي الرحبة، بلا قيد إلا ما يمليه المنطق، وما يتطلبه الاستدلال المنهجي السليم.
يبدو العقل العربي في حاجة إلى تفكير منظم، لا يستخرج من المقومات إلا ما يلزم عنها بالضرورة من نتائج، ولا يترك في سلسلة استدلالاته العقلية أية فجوات؛ هنا يغدو التفكير الفلسفي عاملاً من ضمن العوامل الأساسية التي تساعد على اكتساب العادة العقلية، وهو ما يساعد الفرد على الاستجابة للمواقف المختلفة بروح موضوعية، وهي روح نحن في أشد الحاجة إليها، فأي حراك تحتي من أجل التغيير، لابد أن يستند إلى مشروع فكري قادر على التمدد في كل المساحات الممكنة، وإلا أصبح الحراك فوضى عارمة كتلك التي نشاهدها يومياً على الساحة العربية.
اقرأ أيضاً: الفلسفة ليست غريبة عن الإسلام
والفلسفة ليست مجرد قوة فكرية هائلة تعمل مع سائر القوى التاريخية التي تغير المجتمع، بل هي أيضاً أداة أخلاقية تستثير إحساسنا بالقيم، وتحرك في الناس كوامن وجودهم الباطني، في وقت لم يعد الناس يرون من القيم سوى جانبها النفعي.
والفلسفة كذلك أداة رفض ووسيلة نقد، فنحن لا نستطيع أن ندرك الدلالة الحقيقية للقيم، ما لم نشرع في نقد ما بين أيدينا من متوترات، ورفض ما اعتدنا الأخذ به من مسلمات، وهو ما يجعل مجتمعنا العربي أحوج ما يكون إلى الروح الفلسفية، في ظل الحاجة إلى النزعة النقدية التي تعرف كيف تواجه الشكوك والأكاذيب، وترفض قبول آراء ظنية لا تستند إلى دعامة عقلية ثابتة.
عملية البناء يلزمها تفكيك وإعادة ترتيب للبنى المتداولة للوقوف على مدى صحتها وهو ما تستطيع الفلسفة إنجازه
ليس المقصود بالروح النقدية مجرد الهدم والإنكار، وإنما المقصود إقصاء الزيف والوهم، وهذه العملية السلبية هي المرحلة الأولية الجوهرية لقيام وعي فلسفي صحيح، يكون بمثابة اليقظة الروحية التي تنتقل عبرها مجتمعاتنا من السبات الأسطوري إلى عهد التفكير.
هكذا طرح المفكر الراحل رؤيته، استجابة لظرف تاريخي ثقيل الوطأة، مستدعياً الفلسفة إلى المشهد المضطرب، علها تفلح في ترتيب العقول، وإزالة كل المعروف عنها، كمرادف للسفسطة، وهدم الثوابت، فعملية البناء يلزمها تفكيك وإعادة ترتيب للبنى المتداولة للوقوف على مدى صحتها وقدرتها على الاستمرار، وهو أمر وحدها الفلسفة تستطيع انجازه.
اقرأ أيضاً: أثر الفلسفة في تجديد الفكر الديني
لو أفلحنا في تجاوز تلك المسافة بين العقل والتغييب، لاستطعنا عبور مرحلة السقوط الحضاري الطويلة، ولتحقق ما فشلت فيه مشاريع فكرية شتى، خاطب أصحابها أنفسهم، ولم تلق دعواتهم صدى لدى الجماهير التي استراحت لخدر الأيديولوجيا، فعاصفة الربيع كان يلزمها شتاء قارس تتجمد فيه كل الافكار البالية، قبل أن تذوب فور سطوع شمس التنوير، وإلا أصبحت الثورة مجرد عملية لإعادة تدوير مخلفات الماضي، والمساهمة في إخراجها للسطح، ومن ثم تصدرها لمشهد هزيل يحمل في مكوناته كل عوامل الفشل.