هل كشف فيروس كورونا الغطاءَ عن أخلاق القرية؟

كورونا

هل كشف فيروس كورونا الغطاءَ عن أخلاق القرية؟


19/04/2020

المعنى الأساسّي لأيّ مفهوم اجتماعي، لا يمكن إدراكه من خلال حزم محدودة من الأحداث، تظهر في لحظات استثنائية ضمن سياق الاجتماع، وعليه، ينبغي قراءة التجليّات المتعددة للمفهوم باعتبارها كلاً متكاملاً، يتحدد معنى أولها، بنهاية آخرها، في سياق نظري مترابط، هذه الصور المتعددة من العناصر الجزئيّة المتفاعلة، تصنع التوتر الدائم في الواقع الاجتماعي، ومن ثم تقوم بتفكيك المسلّمات البديهية التي استقرت طويلاً في أعماق الوعي.
أخلاق القرية وإعادة قراءة المفاهيم
في نطاق الجماعة الريفية، تلعب القواعد المعيارية دوراً مركزيّاً في الحفاظ على كيان القرية، وتماسك نظامها الاجتماعي، ويمكن القول إنّ مجموع هذه المعايير شكلت فيما بينها ما يُعرف اصطلاحاً بأخلاق القرية، والتي جرى الترويج لها، في مقابل تفسخ العلاقات الاجتماعية في المدينة، وانهيار منظومة القيم المؤطرة والضامنة لديمومة العلاقات الإنسانية فيها.

تحفيز القيم الإيجابية في القرية، ربما يتطلب نوعاً من التنظيم المحلي، من قبل أصحاب الحظوة والنفوذ، لتحقيق فوائد متعددة

ترتكز المعايير الاجتماعية في القرية على عدة عناصر، يعد التعاضد والتعاون الجماعي أبرزها، مع وجود قدر كبير من السيولة، تظهر في المناسبات التي تتطلب فعلاً جماعياً، بالإضافة إلى قيم أخرى محببة مثل: احترام الكبير وتوقيره، وبذل العطاء في أوقات المحن، والاتحاد في مواجهة الكوارث، ويمثل التآخي في وقت الموت ذروة تجلي هذه القيم الجماعية، باعتباره، أي الموت، المحفز الرئيسي على إظهار مشاعر الحزن والمواساة والتراحم الاجتماعي.
ربما وضع التفشي السريع لفيروس كورونا، وظهور مفهوم التباعد الاجتماعي جسدياً للحد من انتشاره، متغيراً جديداً لاقى ممانعة خاصة في الريف، الذي ترفض بنيته الاجتماعية استيعاب مفهوم التباعد، وهو ما ظهر بوضح في استمرار العلاقات الاجتماعية، والتجمعات داخل حدود القرية على نفس الوتيرة، وبالتالي كان رفض أهالي قرية "شبرا البهو" بمحافظة الدقهلية، دفن طبيبة توفيت على إثر إصابتها بالفيروس، والتصدي باصرار لسيارة الإسعاف التي حملت الجثمان، دون اعتبار لحرمة الموت، وهيبة اللحظة، موقفاً مربكاً وضع مفهوم أخلاق القرية على المحك، في ظل رفض قرية أخرى مجاورة هي "ميت العامل" استقبال الجثمان أيضاً، وفي النهاية اضطرت الشرطة للتدخل العنيف، وفض التجمهر، ودفن الجثمان بالقوة.


ألقى الحادث بظلاله على طبيعة العلاقات داخل القرية كوحدة اجتماعية، خصوصاً وأنّه لم يكن الأول، وهو ما يتطلب قراءة متأنية لحقيقة مفهوم أخلاق القرية، وفاعليته في ضبط العلاقات الاجتماعية، حيث طرح السؤال نفسه بقوة: هل عبّر ذلك السلوك عن تحلل المعايير الاجتماعية لصالح الفردانية؟ وهل انتهت بالفعل أخلاق القرية؟
بحسب المنهج التفسيري، بوصفه إستراتيجية تفسر الظواهر بمدلولها الاجتماعي أو الثقافي، يمكن فهم هذا السلوك، باعتباره أحد مكونات الشخصية الريفية، في لحظة انفلات لحظي من الإطار المعياري بشكله الايجابي، لصالح استجابة حادة للخوف، أخذت هذا الشكل السلبي.

اقرأ أيضاً: فيروس كورونا: كم يستغرق الشفاء من المرض؟
إنّ جملة القيم الاجتماعية التي يتشكل منها مفهوم أخلاق القرية، يمكن ردها إلى ثلاثة أبعاد هي؛ البعد الاقتصادي، والبعد الديني، والبعد الثقافي.
يخبرنا البعد الاقتصادي أنّ القرية المصرية شهدت تاريخاً طويلا من الاستغلال والفقر، ما غذى معطيات الشخصية المراوغة، وفق ما يعرف بنظربة الكعكة، والتي تنبئنا أنّه كلما زاد عدد أفراد الجماعة، قل نصيب الفرد من الكعكة، ما يتطلب إخفاء بعض المال، والسعي الدائم نحو إيجاد مصادر جديدة للدخل، مع التوجس من الغرباء، هذا الخوف الدائم من المستقبل الغامض، وتحت ضغط الفقر المدقع، صنع نوعاً من الانبطاح أمام كل صاحب مال أو سلطة.
أما البعد الديني، فساهم في خلق حالة جماعية، يمثل فيها رجل الدين قيمة كبيرة، وبحيث تصبح صلاة الجماعة في المسجد عادة يومية، تتشكل من خلال المواظبة عليها عناصر القوة والنفوذ داخل المجتمع الريفي.

اقرأ أيضاً: الإخوان المسلمون.. تحريض طائفي واستغلال سياسي لجائحة كورونا
أما البعد الثقافي، فيتشكل من مجموع ما يفرزه البعدان الأول والثاني، بحيث تتحدد الأولويات، وتتمظهر منظومة القيم كقاعدة تكوينية، تتجلى من خلالها المعايير الاجتماعية، التي تمنح المعنى للذات الجماعية في مواجهة العالم .
ويمكن القول إنّ الريف  كحيز مكاني، ضحية استنزاف طويل المدى، دفع أبناءه إلى محاولة التكيّف، بالتحايل والانتهازية حيناً، مع الخوف والصبر ومداراة الألم حيناً آخر، فثورات الريف رغم الظلم الفادح، تكاد تكون معدومة، لكنّ الإحساس الدائم بالقهر، دفع نحو وضع نسق داخلي، يضمن لأبناء القرية، من خلال اتباع قواعده المنظمة، الحصول على جملة من الفوائد .
 انتشار فيروس كورونا فرض الخوف كشعور حاكم

الخوف يوجه الفعل الاجتماعي
بحسب توصيف ماكس فايبر للفعل الاجتماعي، فإنّ اتباع المعايير يتماهى دوماً مع العادات المتجذرة في الوعي الجمعي، والذي يوجه الفعل التقليدي في لحظات الخطر، وهو ما يحيلنا إلى محاولة أعمق للفهم، حيث تستفز غريزة الخوف قيماً خفية وأنماطاً سلوكية قد تكون مستهجنة رغم تلقائيتها.

اقرأ أيضاً: قطر وتفشي فيروس كورونا بين عمال مونديال 2022: ما القصة وراء ذلك؟‎
ويؤكد الدكتور شحاتة صيام، أستاذ علم الاجتماع، أنّ انتشار فيروس كورونا فرض الخوف كشعور حاكم، ليس فقط على صعيد الأوطان، وإنّما على مستوى الأفراد أيضاً، هذا الخوف دفع الناس إلى تفعيل ميكانزمات خاصة للدفاع عن أنفسهم، من خلال توليد الشك فى كل شيء، الأمر الذي ساهم فى تغير أنماط العلاقة بين الأفراد في الجماعة الواحدة ومنظومة الاخلاق، بل وأدى إلى تغير ركائز العقل الجمعي، وإحداث تغيرات جذرية في نمط التفاعل والأفكار السائدة، وهو ما قاد إلى شيوع موجة من التناقضات القيمية، وزيادة مساحة الاجتهادات الفردية والاجتماعية، والممارسات غير المنطقية، وتحريك المشاعر والحاجات البدائية، وتصاعد وتيرة التدين والزيادة في ممارسة الشعائر الدينية والارتباط بالقدرات الغيبية، ما ساهم في تأسيس ما يمكن تسميته بدين الخوف .

اقرأ أيضاً: لماذا نجحت البلاد التي تقودها نساء بالسيطرة على كورونا؟
ويضيف صيام لـ "حفريات"، أنّ مشاعر الخوف والقلق قد تستفز مجموعة من الأخلاقيات السلبية، وتؤدي إلى زيادة الانقسامات والفرقة، وحيث إنّ القلق هو المادة الخام لكل ما تقدم، فإنّ كورونا ساهم أيضاً فى شيوع اضطراب تقدير الأفراد لأنفسهم وللآخرين، ودفع هذا بعض الأبناء إلى عدم استلام جثث ذويهم، بحجة الخوف من انتقال الوباء إليهم، وإلى مناطق سكناهم، حيث ساهم الوباء في حدوث حالة هستيريا جماعية، ربما تكون جديدة على منظومة القيم السائدة، تلك التي تجسدت في إحداث فوضى أخلاقية واضحة، تجلّت في مجموعة من الأحداث المؤسفة.

التغير السلوكي.. محفزاته ودوافعه
بحسب دوركايم، فقد حُسم الاتفاق على جملة من المعايير جرى اعتمادها في كل مجتمع، من أجل توجيه السلوك الفردي والسيطرة عليه، حيث تشكل هذه المعايير حائط صد أمام المصالح الفردية، من أجل هدف أسمى، هو مصلحة الجماعة، والتي تتحقق وفق قواعد سلوكية ينبغي أن يتقيد بها الجميع، وإلا تمزق المجتمع إلى أشلاء.

الدكتور شحاته صيام لـ"حفريات": مشاعر الخوف والقلق قد تستفز مجموعة من الأخلاقيات السلبية، وتؤدي إلى زيادة الانقسامات والفرقة

بعد موجة التعريض الكبيرة بقرية شبرا البهو، والاستهجان الذي بلغ ذروته في وسائل الإعلام وعلى شبكات التواصل الاجتماعي، وفي ظل التدخل الحاسم للشرطة، مع اعتقال عدد ليس بقليل من أفراد القرية، بالإضافة إلى اعتذار رئيس الوزراء لزوج المتوفية، وفي ظل عدم جدوى الممانعة من الناحية القانونية، ظهرت بالتالي محفزات جديدة لسلوك اجتماعي مغاير، تجلى بوضوح في قرية شباس عمير بمركز قلين، بمحافظة كفر الشيخ؛ حيث جرى استقبال ليلي مهيب لجثمان سيدة توفيت بفيروس كورونا، ليتوارى الخوف وراء الهدف الأسمى الذي تحدث عنه دوركايم.

اقرأ أيضاً: مخيمات اللاجئين: متى يضغط كورونا زر الكارثة؟
في حديثه لـ "حفريات"، يقول الدكتور عبد السلام القصاص، الباحث في فلسفة التاريخ، وأحد أبناء المنطقة: "معروف عن قرية شباس عمير تكاتف أهلها، وهو أمر ملحوظ في كل الظروف، وذلك نتيجة وجود قيادة محلية يلتف حولها الناس، تتمثل في عائلة كبيرة هي عائلة القطان، ولها حضور كبير على الصعيد الاجتماعي، وباع في التمثل النيابي وتقديم الخدمات لأهل القرية، حيث نجحت في تنظيم هذا الاستقبال الإنساني، وتوجيه الجموع نحو اتباع سلوكيات صحية وقائية، مع استفزاز الاعتزاز بالجماعة والفخر بتماسكها".

اقرأ أيضاً: فيروس كورونا: لماذا يصر البعض على التجمع من أجل الصلاة في زمن الوباء؟
كل هذا يدفع إلى مقاربة جديدة للفهم؛ فتحفيز القيم الإيجابية في القرية، ربما يتطلب نوعاً من التنظيم المحلي، من قبل أصحاب الحظوة والنفوذ، لتحقيق فوائد متعددة، وبحيث يصبح الترويج لأخلاق القرية، باعتباره مفهوماً إيجابياً بشكل دائم، أمراً لا محل له من الناحية المفاهيمية، فأخلاق القرية هي مجموع كل القيم الإيجابية الظاهرة، والسلبية الكامنة، والتي ترسخت عبر عقود طويلة، ويحتاج تحفيز الجانب الإيجابي منها الارتقاء بالجانب المعرفي، وتطوير أنماط النشاط الاقتصادي بشكل دائم.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية