ترى الجماعات الإسلاموية، بكامل تصنيفاتها، أنّ التلفاز حكمه حكم ما يخرج فيه؛ فإنّ ظهر فيه ما يجوز النظر إليه جاز النظر إليه، وإن سمع فيه ما يجوز سماعه جاز سماعه، وهو بذاته آلة لا يتعلق بها حكم؛ فهو وسيلة، والوسائل بذاتها لم يتعلق بها حكم؛ فالحكم إذاً إنما يتعلق بغاياتها وما تقدمه.
الشيخ فركوس رأى أنّ التلفاز يختلف حكمه باختلاف ما يُعرض فيه لكنه اعتبر غالب برامجه فاسدة المحتوى والشكلِ
يبقى بعد هذا أنّهم يرون أنّ المسلسلات التي تعرض في التلفاز، حتى ما كان منها إسلامياً، فهي أيضاً من استماع الكذب؛ لأنّ أكثر ما فيها من الكذب المحرَّم، ولا يحل للإنسان سماع الكذب.
أثار الإسلاميون فيما بعد مسائل غريبة، تم نشرها بمواقع مقربة منهم، مثل: "الإسلام سؤال وجواب"، "أهل الحديث"، "أنا السلفي"، ومنها: "إنّ الناظر إلى صورة امرأة في الشاشة يأخذ حكم النظر إلى صورة المرأة في المرآة، وأنه من باب سدّ الذرائع يتم تحريم ذلك"، رغم أنّ هناك حديثاً رواه البخاري ومسلم عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: رأيتُ رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، يَستُرني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون، وأنا جارية، فاقدِروا قَدْرَ الجارِية العَرِبَة، المُحبّة للعبِ، الحديثة السِّنِّ".
اقرأ أيضاً: التلفزيون أفيون الشعوب: من يتحكّم؟ من يستلب؟ من يتسيّد؟
الشيخ السلفي الجزائري، فركوس، قدم نسبياً طرحاً أكثر "تقدمية" من السلفيين التقليديين بالمملكة العربية السعودية ومصر، ورأى أنّ التلفاز أداة مرئية يختلف حكمها باختلاف ما يُعرض فيها من برامج؛ لأنّ "الوسائل لها حكم المقاصد"، معتبراً أنّ غالب البرامج التلفزيونية فاسدة المحتوى والشكلِ، وتقترن بها محاذير شرعية لها مساس بالعقيدة والأخلاق!، مطالباً باستعمال جهاز الحاسوب الذي يسع التحكم فيه بإدخال الأقراص المفيدة والبرامج العلمية النافعة، وفق رأيه.
وينقل موقع "أنا السلفي" فتاوى الألباني، وابن عثيمين، وابن باز، والأول عدّه شيطاناً رجيماً في بيوت المسلمين!، والثاني قال: "من مات وقد خلّف في بيته شيئاً من "الدشوش" فانه قد مات وهو غاش لرعيته"!، أما الثالث فيرى: "لا تدخل التلفاز إلى بيتك ولا تجعل أولادك يشاهدونه عند الجيران".
فك اللغز
يحلّ القيادي في الجماعة الإسلامية، عاصم عبد الماجد، اللغز، ويفسر لنا لماذا يرون التلفاز شيطاناً رجيماً، فيقول في رسالة بعنوان "المفسديون": المسألة تتعلق بالمنهج الذي نتبعه في تكوين قناعاتنا، والدفاع عنها، ومناصرتها؛ إنّ هذه الأمور اجتهاد عقلي سيفتح الباب على مصراعيه لكلّ صاحب عقل، كي يتبنى ما يراه من آراء، ويبني عليها ما يشاء من مواقف، انطلاقاً من رؤيته الخاصة؟ وقد قرّر العلماء أنّ هناك مصالح معتبرة شرعاً؛ أي جاء الشرع برعايتها في أحكامه، وجاءت تلك الأحكام للحفاظ عليها، وقسموها إلى مصالح ضرورية، وحاجية، وتحسينية، وقرروا كذلك أنّ هناك مصالح موهومة لم يلتفت الشرع إليها؛ بل أهدرها وشرع الأحكام على خلافها، وكل من تلبس وأعرض عن تعلم الحقّ من مصدره، واتبع ما يظنه بنظره العقلي حقاً وصواباً، فله من ذلك الندم، وإذا كان سلفنا الصالح متفقين على ذمّ مَن أفتى في مسألة جزئية، ولو صغيرة، ولو لم تقع إلا لمكلف واحد مرة واحدة، دون أن يكون مؤهلاً للفتوى، أو أهلاً لها، لكنه لم يستفرغ الوسع، حتى قالوا: "ومتى قصّر مجتهد أثم"، فما عساهم يقولون في نصب مصالح، وإقرار مبادئ بمعزل عن نظر شرعي سديد، صادر من أهله في الدليل الصحيح؟!
اقرأ أيضاً: إيران: الحكم بسجن أكاديمي بسبب مقابلة تلفزيونية
ينصح عبد الماجد أتباعه قائلاً: إنّ هروبنا من التلفاز هو من ثقافة الخوف من جهاز يمكن أن نتحكم فيه، ولا يتحكم فينا، لكن الخوف منه ما هو ممدوح، ومنه ما هو مذموم، ومنهيّ عنه شرعاً، ومن الخوف الممدوح الانسياق وراء المباحات!
الاختيار الفاسد
تمتاز أحكام الشريعة الإسلامية بالسعة فيما لم يرد فيه نص على قاعدة "الأصل في الأشياء الإباحة" ما لم يرد نص صحيح صريح من الشارع بتحريمه، والناس مخيرون بين الأقوال المختلفة، ما دامت كلها صحيحة، وإنّ لهم الحقّ والحرية في تقليد من شاؤوا، وكيف شاؤوا، وفي المسائل التي بها قياس جلي واضح، كقياس الضرب على التأفّف، في قوله تعالى: ﴿فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا﴾؛ فهذه المسائل التي عليها دليل قاطع اتفق الفقهاء على أنّ الحقّ فيها واحد، والمصيب فيها واحد، وأما المسائل الفرعية؛ التي لا يوجد دليل قاطع عليها، كأن يكون الدليل محتمل التأويل، أو النسخ مثلاً، فقد قال فريق من الأشاعرة، مثل الباقلاني: "لكل مجتهد نصيب"، وتابعوا فقالوا: "حكم الله تابع لظنّ المجتهدين، والحقوق متعددة".
جاءت مسألة بسيطة مثل التلفاز لتكشف أزمة حادة بين الإسلاميين الذين رأيناهم فجأة من روّاد الشاشات
يستخلص الإسلاميون موقفهم من التلفاز من نبع تراثي سلفي التشدّد، وهذا لا مناص فيه، وليس عيباً كبيراً، إلا بقدر أنهم قاموا بتنزيل الموقف التراثي على ما استحدث من أمور دون نظر عقلي غالباً.
والمسألة المهمة أنه باختلاف المفاهيم جرت الاختلافات، وجاءت مسألة بسيطة مثل التلفاز لتعبر عن أزمة حادة بين الإسلاميين، الذين انقلبوا فجأة عقب "الربيع العربي"، ورأيناهم من روّاد الشاشات، ومنهم عاصم عبد الماجد نفسه، وهذا كشف تلك الحالة المأزومة التي يعيشونها، وتلك القيود، وسلطة المراقبة على المكونات الخلفية والمزاج لعناصرهم.
اقرأ أيضاً: "تلفزيون سوريا".. هل يكون منصة قطرية بوعود رمادية؟
مسألة التلفاز كشفت حالة الرفض والانقسام، وهل في وسع الإسلاميين أن يعيشوا معزولين عن العالم وسط هذه الثورة الهائلة من الاتصالات؟ وكيف يتعاملون مع الأمر المختلَف عليه؟ وكيف يقبلون الآخر؟ وما هي أسباب الخلاف؟ وكيف يتعاملون مع المختلف عليه؟!