إنّ علاقة السماء بالأرض، وعلاقة الله بالإنسان عبر الأديان الإبراهيمية، جاءت عبر الكلمة، وتوسّط الكلمة، ولما كان وحي النبوة قد توقف، والشريعة قد حدّدت، في المقابل أنّ حركة المجتمع في تغيّر وتسارع عبر التاريخ، كانت الحاجة إلى تشريعات جديدة تواكب حركة المجتمع، وهنا اعتلى رجال الدين وكهنته ناصية الحق في الحديث باسم الله، وذلك لأنّ النصّ الديني ثابت وحركة الاجتماع البشري متغيرة.
اقرأ أيضاً: كيف أضحت الحقوق المدنية تحت وصاية التأويلات الفقهية؟
ولمّا كان الإسلام، منذ فترة مبكرة، عُدّ ديناً لتدبير الجماعة المسلمة، وليس مجرّد دين لصناعة التدبير الشخصي، فقد احتلّ علماء الدين ورجاله فيه مكانة مهمّة، وكان الفقهاء هم الفئة المهمّة، والأكثر مركزية؛ لأنّهم الذين يوسعون دائرة الروحي لتسيير حركة الزمني وشؤون المجتمع، وهم المعنيّون بإنتاج الأحكام الفقهية التي تخصّ المستجدات في حركة الاجتماع، ولذلك فإنّ الفقهاء، هم فعلياً، من يحرّمون ويحللون، ويؤثّمون ويبيحون، وقد اختلف الفقهاء في تشريع الأحكام مذاهب متعددة، بين حنفية، وشافعية، ومالكية، وحنابلة، وفقه جعفري شيعي، وفقه إباضي، ...إلخ، وصار في كلّ مذهب طبقات من العلماء والفقهاء عبر التاريخ، ودوّن أصحاب كلّ مذهب طبقاتهم، ودوّنت المدونات في طبقات الحنابلة، وطبقات الشافعية، ...إلخ.
اتّسعت مدارات الفقه ورجاله في حياتنا الدينية، وأصبح لهم سلطة كبرى في حضارة الإسلام على أرواح الناس
وقد اتّسعت مدارات الفقه ورجاله في حياتنا الدينية، وأصبح لهم سلطة كبرى في حضارة الإسلام على أرواح الناس، تلك السلطة، التي قد تتجاوز سلطة السياسة، وقد وصل الأمر ببعضهم في عرض مقدرته على الفتوى، فيما هو افتراضي ومستحيل التحقق في الواقع، فقد أفتى أحدهم حين سئل: "لو أنّ رجلاً ضاجع نعجة فحملت منه وولدت إنساناً، وكبر هذا الإنسان، وتعلّم، وصلّى بأهل قريته صلاة عيد الأضحى، وبعد الصلاة ذبحوه وضحّوا به، فإنّه يصحّ لهم ذلك؛ لأنّ حكم الولد من حكم أمه، في مثل هذه الصورة، وأمه يصحّ أن يضحَّى بها، فهو كذلك"!
اقرأ أيضاً: الإسلام السياسي: كيف تحولت آراء الفقهاء السياسية إلى "شريعة"؟
هكذا كانت رغبة الفقهاء في استعراض قوتهم على إنتاج الأحكام، حتى فيما هو افتراضي ومستحيل التحقق، وذلك لأنّهم ملكوا سلطة الفتوى باسم الله، وبها ملكوا السلطة على أرواح الناس وعلى أجسادهم، ولهم الحقّ في توجيههم.
داخل أبواب الفقه تجد الشذوذ في الفتاوى، وسوء استغلال بعض الفقهاء لحقّ الفتاوى في ضبط حركة الاجتماع البشري
وقد تدخل الفقه في كلّ شيء ابتداء من زيّ البشر، حتى علاقاتهم ومعاملاتهم، فكان هناك فقه الحجاب، وفقه الحيض والنفاس، وفقه الجواري والإماء، وفقه العبادات، وفقه المعاملات، وفقه السياسة، وداخل أبواب الفقه تجد الشذوذ في الفتاوى، وسوء استغلال بعض الفقهاء لحقّ الفتاوى في ضبط حركة الاجتماع البشري، وكلّ ذلك يتم باسم أهمية تسيير شرع الله لشؤون الاجتماع، وهذا ما أدّى بهم أحياناً إلى سجن حركة الاجتماع لصالح توسيع دائرة سلطتهم على الناس، ومن أجل خدمة السلطان وأغراضه.
وأرسى علماء الفقه الإسلامي علاقة متوترة بين المسلمين وبقية أهل الأديان، أو "أهل الذمة"؛ حيث كرسوا -بناءً على فهمهم للعهدة العمرية- فقهاً تمييزياً بامتياز في مواجهة الآخر، يمنح الجماعة المسلمة تمايزاً على بقية أصحاب الأديان الأخرى؛ فأفتى الفقهاء بضرورة التزام أهل الذمة بلباس خاص بهم، حتى يتميزوا به عن المسلمين، وألا يعلوا على المسلمين في البناء والمنازل، وألّا يسمعوا هم أصوات نواقيسهم، أو تلاوة كتبهم، وألّا يجاهروا بشرب الخمور وإظهار صلبانهم، وأن يخفوا دفن موتاهم، ولا يجاهروا بالندب عليهم، وأن يُمنعوا من ركوب الخيل والجمال، فقط لهم ركوب الحمير والبغال، وأن يتجنبوا أوساط الطرق توسعة للمسلمين، ولا يسمّوا بأسماء المسلمين، ولا يكنّوا بكنياتهم، ولا يتلقبوا بألقابهم، ولا يتّخذوا من مدائن المسلمين ديراً، ولا كنيسة، ولا قلية، ولا صومعة راهب، ولا يجدّدوا ما خرب منها .
كما أفتى الفقهاء الثلاثة، مالك والشافعي وابن حنبل، بأنّه في حالة قتل ذمي لمسلم يقتل، وفي حالة قتل مسلم لذمي يتم دفع الدية لأهل الذمي، وذلك من منطلق أنّ نفس المسلم أشرف من نفس الذمي، والوحيد الذي أفتى بقتل المسلم في حالة قتله للذمي؛ هو أبو حنيفة النعمان.
أخطر ما في الفقه أنّه كان أداة ضبط حركة المجتمع في يد السياسة فراح الفقهاء يسخّرون الفتوى لخدمة السلطان
وقد كان هذا الفقه مجرد أحكام تاريخية، تناسب مرحلتها التاريخية، وتصنع تمايزاً للجماعة المسلمة في مواجهة الذميين، الذين كانت أوضاعهم مستقرة، وقد طبق خلفاء المسلمين هذه الأحكام في حكم الناس في ديار الإسلام، باعتبار أنّ خليفة المسلمين وإمامهم هو المنوط بحراسة الدين وسياسة الدنيا بالشريعة،
الآن، وقد تطورت البشرية عبر تاريخها، وتطورت حركة الاجتماع المسلم، فقد كان على الخلف أن يطورا فقههم وأحوالهم، وفق تطور حركة الاجتماع والحضارة، لكنّهم قرروا لعقولهم أن تستقيل، واستمرّ بعضهم، في القرن الواحد والعشرين، في الاعتقاد بأنّ الحياة الآن ينبغي أن تسير وفق فقه ظهر في القرون الأولى، وهو أمر قد بات مستحيلاً، لتغير ظروف حركة المجتمعات وتطورها، وتطور وضعية الآخر، لذا فإنّ استمرار تكريس هذا الفقه القديم لدى بعض هؤلاء يخلق لنا مشكلات عديدة في التعايش مع الآخر، المغاير لنا في الدين والثقافة.
اقرأ أيضاً: التراث ونهر الحياة الجاري: عندما عبد الناس الفقه والأيديولوجيا والسلاطين
المشكلة الكبرى؛ أنّ الفقهاء في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، كانوا يتعرضون بالفتوى لكلّ من يملك الحديث أو الاجتهاد فى المقدس أو تفسيره، فقد أفتوا بتحريم علم الكلام، وتحريم الخوض في عقائد الإسلام بالعقل، ورغم أنّ بعضهم قد تحدث في علم الكلام، مثل أبي حنيفة، لكنّ حكمهم في أهل الكلام أن يضربوا بالنعال ويطاف بهم في الأسواق جراء خوضهم في الكلام، وأفتوا بتكفير مخالفيهم كمن قال بخلق القرآن من المعتزلة وغيرهم، وكذلك اتخذ الفقهاء موقفاً متسلطاً من الصوفية، لمقدرتهم الكبيرة على السيطرة على العوام، وكثرة أتباعهم، واتهموا المتصوفة بالشطح والكفر في آرائهم حول الدين، وأفتى الفقهاء بقتل بعض أعلام الصوفية مثل الحلاج، وشهاب الدين السهروردي، وغيرهم، كما أسهم الفقهاء في حصار الفلسفة خاصة داخل دائرة أهل السنّة، فأفتى الشهرزوري بتحريم الفلسفة؛ لأنّها أسُّ الضلال والانحراف، وأساس الزندقة، وتمّ تحريم تعلم المنطق، وذلك لأنّ الفلسفة تعني حقّ العقل في التفكير دون التقيد بقيود النص، وهو ما كان يهاجمه الفقهاء.
تظلّ المشكلة الكبرى هي مشكلة سيادة العقل الفقهي المفارق للواقع، في مرحلتنا المعاصرة في التعامل مع منتجات الحداثة
وكان أخطر ما في الفقه؛ أنّه كان أداة ضبط حركة المجتمع في يد السياسة، فكان الفقهاء يسخّرون الفتوى أحياناً لخدمة السلطان، وضبط حركة المجتمع لصالح طاعة أولي الأمر؛ حيث كرّس الفقه السياسي الإسلامي صورة مثالية للحكام، أو الخليفة، وأسبغ عليه كافة صفات الكمال، وعدّه ظلّ الله في الأرض، وأنّه ضمن سبعة يظلهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه، وكانت السلطة السياسية تبحث عن مشروعيتها من قبل الفقهاء متى فقدت الشرعية، وتبحث عن ضبط حركة المجتمع ومساره عبر المقدرة المتجددة للفقهاء بالفتوى باسم الله، وباسم الدين. ولذلك وجدنا الفقهاء يغيّرون فتواهم بتغير أحوال السياسة ومتطلباتها، وهو ما تمكن تسميته (تسييس الفتوى)، ومن جانب آخر؛ فقد استفاد بعض الفقهاء من قربهم من السياسة بترسيم مذاهبهم، أو ترسيم قضاتهم في مناصب القضاء في الدولة الإسلامية، وهو ما جنى به على الإسلام.
اقرأ أيضاً: هل أسهم العقل الفقهي في إعاقة تأصيل الحداثة؟
وتظلّ المشكلة الكبرى التي أرسى دعائمها الفقه، هي مشكلة سيادة العقل الفقهي المفارق للواقع، في مرحلتنا المعاصرة في التعامل مع منتجات الحداثة، وتقييم هذه المنتجات من وجهة عقل كلّ توجّهه أنّه يحلّل ويحرّم، يشرّع ويرفض، باعتبار أنّ معيار الهداية والضلال، والكفر والإيمان، هو المعيار الأعلى والأهم في النظر للآخر، وهذا كان أحد أسباب نكبتنا في التقدم، والأخذ بأسباب الحضارة الحديثة، ولا شكّ في أنّ سيادة هذه العقلية في تاريخنا الحديث؛ هي أحد أسباب الجمود والتخلف في التعامل مع الحداثة، وأحد الأسباب الراسخة لمعوقات النهضة والتقدم في حياتنا الراهنة.