هل جلب تبخير البيوت والمتاجر للسودانيين الحظ حقاً؟

السودان

هل جلب تبخير البيوت والمتاجر للسودانيين الحظ حقاً؟


31/12/2019

تلك الشجرة المقدسة هي خلاصة التعبير الذي أطلقه الفراعنة عليها، حين نعتوها بـ "شجرة الحياة"؛ فشجرة اللبان الذكر، أو " الضَّكَرْ" (كما في العامية السودانية)؛ نبتة ساحرة طالما ارتبط ذكرها بالطقوس والعادات والأساطير في عصور السودان القديمة، وهي ما تزال، حتى اليوم، تعكس حضورها المتعدّد الوجهة والمكان في المخيال الشعبي للسودانيين عبر خزين لذاكرة تاريخية انطبعت جذورها بهوية الحياة وأسبابها القوية؛ حين تتعرض للتهديد من كائنات خفية أو منظورة، من داخل أجسادهم أو خارجها!
شجرة اللبان الذكر أو " الضَّكَرْ" (كما في العامية السودانية)

بخور التيمان... طقس وهوية!  
ابتدأت تجارة العطارة بشكلها الحديث في السودان، منذ عام 1800، عبر ميناء سواكن وهو ميناء تاريخي قديم بشرق السودان.

عادات السودانيين مع بخور اللبان أو "بخور التيمان"، والبخور السودانية الأخرى، صارت علاقة مركبة لزمتهم عبر أطوار من الحقب

ولقد نشطت هذه التجارة بكثافة في أواخر عهد المهدية؛ حين عرف اللبان في السودان إلى جانب اسمه " اللبان الضكر "، باسم محلي هو "بخور التيمان "، ويعود أصل التسمية إلى خواتيم زمن "المهدية" في السودان، وهو العهد الذي حكم فيه محمد أحمد المهدي (جد رئيس وزراء السودان الأسبق والسياسي السوداني المعروف الصادق المهدي) السودان منذ العام 1885م ثم خلفه خليفته، عبد الله التعايشي، حتى عام 1897م.
وحين عاد الأخوان؛ عثمان وحمزة، ابنا رحمة، (بعد أن تمّ أسرهما في إحدى معارك المهدية ــ معركة توشكي، بشمال السودان من طرف المصريين)، من مصر إلى أدرمان، افتتحا دكانين في سوق أمدرمان المركزي (بعد أن تعلما فنون العطارة  بمصر) ولشبههما الشديد  لبعضهما، كأنّهما توأمان؛ أطلق عليهما أهل أمدرمان  لقب "التّيمان"، وهي عامية سودانية محرفة من "التوأمين"؛ حيث كانا يبيعان البخور ذاته عبر تركيبة خاصة من اكتشافهما، وهي الخلطة التي عرفت فيما بعد، وإلى اليوم، بـ "بخور التيمان" الذي صار اليوم اسماً مرادفاً للبان "الضكر".

اقرأ أيضاً: الهنود الحمر: طقوس تتماهى مع الطبيعة
بطبيعة الحال؛ تعدّ هذه الوصفة دالة حصرية لمعرفة بيوت السودانيين في مهاجرهم المختلفة خارج السودان، فالسودانيون لملازمة عاداتهم، لا يتخلون أبداً عن طقوس "بخور التيمان" في كلّ مكان. لهذا يتعرف السودانيون إلى بيوت السودانيين في مدن العالم المختلفة عبر " تلك الرائحة " العجيبة لــ "بخور التيمان". 
ابتدأت تجارة العطارة بشكلها الحديث في السودان، منذ عام 1800

وصفة بخور التيمان
تعدّ خلطة سرية جاهزة، رغم تعدّد عناصرها، فمنذ أن اكتشفها التاجران، ابنا رحمة، أصبحت سراً مقتصراً على ذريتهما، وهي وصفة تباع جاهزة وما على المشتري إلا أن يأخذها كما هي، ثم يضعها على مجمر النار للغرض الذي اشتراه من أجلها!
وبطبيعة الحال؛ هناك وصفات لبخور سودانية أخرى، كبخور البيت التقليدي، وبخور البيت الحديث، وبخور الصندل الحلو، مما سنأتي على ذكره لاحقاً.
رحلة الطقوس!
نتيجة لجوار السودانيين لمصر القديمة، ولشهرة شجر اللبان الذي ينبت دون زرع في شكل غابات في المناطق الجبلية والصخرية من حزام السافنا السوداني، إلى جانب استخدامات قدماء المصريين؛ طوَّر السودانيون عاداتٍ تخصّهم على مرّ العصور، شكلت ذاكرةً شعبية اتصلت بطقوس استخدام اللبان الذكر عبر ألوان من مناسبات الحياة وحالاتها، في الصحة والمرض، في الأفراح والمآتم، كما في المناسبات الأخرى المتعددة؛ فبخور التيمان هو طارد الجن والأرواح الشريرة  والشياطين من الأجساد (خاصّة أجساد النساء)، كما أنّ "بخور  التيمان" هو دافع عيون الشرّ عن البشر، وجالب الحظ في البيوت والبقالات والمطاعم، كلما كان تبخيرها عادةً يومية.
"الحبوبات" والصبيان وبخور التيمان
"الحبوبة" هي الجَدَّة في العامية السودانية، وتحظى الحبوبات بمكانة كبيرة في الأسر السودانية الممتدة، فهنّ اللواتي تقع عليهن "حراسة" الذرية والصغار، من خلال تدابير الخبرة الموروثة منذ آلاف السنين، ومن هنا ارتبط "بخور التيمان"، كتعويذة طاردة للشرّ، بالحبوبات، وقد نقلت الحبوبات هذا الموروث من جيل إلى جيل حتى أصبح تقليداً راسخاً في الذاكرة العائلية للسودانيين.

اقرأ أيضاً: محاولة اغتيال الثورة السودانية
ومن الممارسات التي تصاحب حرق "بخور التيمان"؛ أن تغطي "الحبوبة" أحفادها بغطاء واحد، بعد أن يتجمعوا حولها، ثم تتلو ترتيلاً طقوسياً مصاحباً لعادة تبخير بخور التيمان مرددةً: "ياعين يا عينية، عين العجوز الكافوت اللافوت، القاعدة غرب البيوت، عين من فَكَر وذَكَر فيها الفلفل الضَّكَرْ"، و"الفلفل الضَّكَر" هو بخور التيمان. 

عرف السودانيون بتبخير البيوت والمتاجر كعادة يومية
وكما يعرف الزائر للقاهرة عادة المصريين اليومية، صيفاً وشتاءً، في رشّ الماء أمام المقاهي والمطاعم والبقالات، كذلك عرف السودانيون بتبخير البيوت والمتاجر كعادة يومية؛ جالبة للحظّ ودافعة للضرر!

لمشايخ الصوفية في السودان نيران "خلاوي" عظيمة، وهي نيران توقد في الليل ويشتهر كلّ شيخ طريقة بنار معينة

ولقد توفر السودانيون، منذ عصور حضارة كوش الأولى ومروراً بالعصور التاريخية المختلفة للحضارات السودانية، على الاحتفاء بمزيج من الطقوس التي طبعت حياتهم وبقيت إلى اليوم كأصداء باهتة لرسوم الديانات الوثنية القديمة في حياتهم العامة والخاصة، كأنّ دخان البخور الذي تصاعد من أجسادهم عبر تلك العصور منح تلك الأجساد هوية أزلية لحيواتهم المختلفة، فقد انطمست آثار الديانات، فيما ظلّ البخور متصاعداً من تلك الأجساد!
ولطالما كان المفكر السوداني الراحل، محمود محمد طه، يقول إنّه ورث من أسلافه الأفارقة: "حبّ الليل والطبول والبخور"، وبطبيعة الحال؛ كان الأستاذ يقصد بالبخور هنا "بخور التيمان".
وحين تحدث الروائي السوداني الكبير، الطيب صالح، عن روائح منزل جده في روايته الشهيرة "موسم الهجرة إلى الشمال"، قال عنها: "خليط من روائح متناثرة، رائحة البصل والشطة والتمر والقمح والفول واللوبيا والحلبة والبخور الذي يعبق دائماً في مجمر الفخار الكبير".
ومن أمثال السودانيين السائرة: "الكلام الطيب بخور البطن".
وقد لا يملك المرء تفسيراً لذلك الشغف ببخور اللبان حيال استعمالاته المتعددة عبر التاريخ، إلا من خلال رصد علاقاته المتشابكة في حياة السودانيين، نساءً ورجالاً، عبر طقوس وممارسات ما تزال حيّة في حياتهم.
فمن تلك العادات: الختان، والزواج، وشرب القهوة، وتحصين الأطفال، كما مرّ بنا في أفاعل الجدات لأحفادهن وحفيداتهن، وغير ذلك من العادات السودانية.
البخور والصوفية
من طقوس الصوفية في السودان؛ أنّهم لا يوقدون مجامر البخور أثناء الذكر، لكن البخور، ولا سيما بخور التيمان، جزء أصيل من هوية التصوف السوداني؛ فلطالما حفلت المساجد والخلاوي والزوايا بروائح بخور التيمان آناء الليل وأطراف النهار!

 


فالصوفيون الذين دخلوا بالإسلام على السودانيين عبر علاقات تديّن حرّ (بعد أن توقفت مسيرة الفتح العربي إلى السودان بقيادة الصحابي عبد الله بن سعد بن أبي سرح، رضي الله عنه، على حدود أسوان، وانتهت باتفاقية صلح شهيرة عرفت باتفاقية البقط)، كان من ضمن المسكوت عنه في أساليبهم الدعوية الحكيمة إلى الإسلام، غضّ الطرف عن العادات السودانية القديمة، وهذا ما جعل تلك العادات، بمرور الزمن، جزءاً من طقوس التصوف ذاتها.
ومن المعروف أنّ لمشايخ الصوفية في السودان نيران "خلاوي" عظيمة، وهي نيران توقد في الليل ويشتهر كلّ شيخ طريقة بنار معينة.
البخور عبر درب الأربعين
كما عرف العالم القديم، طريق "البخور " الذي يبدأ من سواحل اليمن على بحر العرب إلى شمال البحر المتوسط، عرفت تجارة البخور قديماً طريقاً لها من السودان إلى مصر هو الطريق الذي يعرف بـ "درب الأربعين"، وهو طريق تاريخي يصل مصر بالسودان (اشتهر بتجارة الإبل) يبدأ من مدينة الفاشر، عاصمة دارفور، وينتهي في القاهرة عند منطقة أمبابة بمحافظة الجيزة المصرية، وسمي بدرب الأربعين؛ لأنّ مسير القوافل التي كانت تجلب البضائع والبخور المحملة على ظهور الإبل، تستغرق 40 يوماً من الفاشر في السودان إلى إمبابة في القاهرة بمصر، وقد كان البخور ينتقل إلى مصر منذ عصر الفراعنة وما قبل الأسرات إلى مصر عبر تلك  الطريق التي ما تزال قائمةً حتى اليوم.

 

اقرأ أيضاً: هل تتمكن الأوضاع الاقتصادية من كسر الذراع القوّية للثورة السودانية؟
هكذا بدت عادات السودانيين مع بخور اللبان أو "بخور التيمان"، والبخور السودانية الأخرى، عبر صيروراتها المختلفة علاقة مركبة لزمتهم عبر أطوار من الحقب الحضارية والتاريخية، وأنواع متعددة من الديانات الوثنية والتوحيدية، ما يعكس لنا هوية متجذرة لتلك العادات "الدخانية"، وتعبيراتها التي ظلت عصية على المحو، مهما اختلفت حولها التأويلات، وتعددت القراءات، فكما يقول المثل السوداني السائر: "من خلّا عادته قلّت سعادته"؛ لا أحد يتبرع في هذه الأزمنة بالتنازل عن مقادير السعادة الشحيحة أصلاً!



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية