هل تتمكن الأوضاع الاقتصادية من كسر الذراع القوّية للثورة السودانية؟

بانوراما 2019

هل تتمكن الأوضاع الاقتصادية من كسر الذراع القوّية للثورة السودانية؟


24/12/2019

"لو أمكن لعامة الشعب أن يدركوا مدى قوتهم لما كانت هناك حاجة للخنوع كلّ هذا الوقت، فكلّ ما يحتاج إليه الأمر أن ينتفضوا مثلما ينتفض الحصان لإزاحة الذباب بعيداً، ولو شاؤوا لمزقوا وأحالوا الحزب إلى هشيم تذروه الرياح بين عشية وضحاها، ولا بُدّ أن يخطر هذا لهم، إن عاجلاً أو آجلاً".

2019 كان عام الثورة والتحرر بعد أن ظلّ الحصان صافناً لأعوام طويلة قبل أن ينتفض وينطلق بقوة

تذكّر مجتبى عبد الهادي، الصبي اليافع البالغ من العمر 16 عاماً، هذا النصّ من رواية "1984" لجورج أوريل، بينما كان مغروساً وسط المفارز الأولى للجموع الهادرة التي التحمت في محيط القيادة العامة للجيش السوداني، في 6 نيسان (أبريل)، وهو يستعيد الحكاية التي رواها له والده عن صباح (الجمعة البعيدة)، كما يحلو له أن يسميها، حيث كانت الأحوال في الخرطوم هادئة نسبياً في ذلك الصباح من 30 حزيران (يونيو) 1989، إنّها عطلة نهاية الأسبوع، وربما سهر كثيرون ليلة الخميس، وغطّوا في نوم عميق يحلمون بكلّ ما يخطر ولا يخطر على بال، عدا ما حدث؛ أن ينهضوا من نومهم على إيقاعات المارشات العسكرية تهزّ شاشات التلفزة وأثير إذاعة أم درمان، معلنة انقلاباً عسكرياً على النظام الديمقراطي، أطاح حكومة الصادق المهدي، رئيس الوزراء حينها.

ارتفاع أسعار الخضروات والمواد الأساسية
ظلّ السودانيون، منذ ذلك الحين وإلى اللحظة العظيمة الفاصلة التي أجبروا فيها اللجنة الأمنية العليا، التابعة للرئيس عمر البشير، على إطاحته وعزله في 11 نيسان (أبريل) 2019، يرزحون ولثلاثين عاماً متواصلة تحت وصايا حكم الإخوان الاستبدادي الذي فعل كلّ شيء بالبلاد، فأشعل فيها الحروب من أقصاها إلى أدناها، وقسّمها إلى شمال وجنوب، ونشر فيها الفساد والقهر والاضطهاد بشكل لم يعرفه السودانيون منذ إعلانهم استقلال دولتهم عن الاستعمار البريطاني 1956.
انطلاق صافنات الخيل
لم يكن مثل العام 2019 عاماً آخر في تاريخ السودانيين، لقد كان عام الثورة والتحرر، بعد أن ظل الحصان صافناً لسنواتٍ طويلة قبل أن ينتفض وينطلق بقوة "لإزاحة الذباب بعيداً"، فمنذ أيلول (سبتمبر) 2018، وحتى 11 نيسان (أبريل) وما بعده، وبشكل متواصل وبعزيمة لا تُقهر وقوة لا تُضارَعْ؛ أحال الشعب المنتفض ضد استبداد الإخوان المسلمين نظام حكمهم إلى هشيم؛ ووضعه، خلفه كماضٍ سيئ الصيت والذكر والحبكة والإخراج.

اقرأ أيضاً: السودان... تقويم المسار في ذكرى الثورة
أنجز السودانيون ثورتهم، وأطاحوا النظام الإخواني الاستبدادي، وجرت مياه كثيرة تحت الجسر، إلى أن تمكنوا من تشكيل حكومة انتقالية عبر تسوية سياسية بين العسكر والمدنيين، وهكذا مرّ عام 2019 على الخرطوم، فكان عاماً للنصر والفرح والحزن على الشهداء، والأمل ببناء "وطن خيِّر ديمقراطي" كما في الأغنية الوطنية الذائعة.

اقرأ أيضاً: في الذكرى الأولى: أين وصلت أهداف الثورة السودانية؟
إلاّ أنّ ما تحقق لن يمضي بالبلاد إلى برّ الأمان، ما لم تستقر الأوضاع وتستتب، فما تزال أسعار السلع الأساسية تتصاعد بشكل جنوني، ونسبة الفقر تزداد، والبطالة تستشري، والعبث القبلي يضرب هنا وهناك، والحكومة تفاوض حركات التمرد غرباً ووسطاً وشرقاً والحلّ لا يأتي فيما الملف هذا يُدار في الخارج، والكهرباء تمتنع، والماء ينقطع، والقصاص للشهداء من قاتليهم صفحة أخرى لم تفتح وتستعصي على الطي؛ فبماذا يتربص عام 2020 للسودانيين؟
مشهد من مفاوضات السلام مع الحركات المسلحة

الاقتصاد كلمة السرّ
يصف المصرفي والخبير الاقتصادي السوداني، محمد المأمون، في حديثه لـ "حفريات" التحديات التي تنتظر السودان خلال المرحلة الانتقالية، وعام 2020 على وجه الخصوص، بالجمّة والخطيرة، وما لم تتم معالجتها على وجه السرعة فقد ينهار كلّ شيء، ليس الحكم المدني فقط، وإنما البلاد برمتها، وهذا سيكون أمراً مروعاً فالسودان ظهير مصر وخاصرة السعودية ورأس أثيوبيا، ويجب على هذه الدول، على وجه التحديد، ألّا تتركه يواجه مصيره وحيداً، بأن تدعمه بشكل إيجابي دونما تدخّل سافر في شؤونه، وذلك من أجل مصالحها الإستراتيجية وأمنها القومي، إن لم يكن من أجل عيون السودانيين.

خبير اقتصادي: التحديات التي تنتظر السودان جمّة وخطيرة، وما لم تتمّ معالجتها بسرعة فقد ينهار كلّ شيء

ويشدّد المأمون على أنّ الأزمة الاقتصادية الطاحنة وحالة الإفلاس والتدهور العام في كافة مناحي الحياة تمثّل الخطر الأكبر على السودان في الفترة المقبلة، فإذا ما استقرت الأوضاع المعيشية والاقتصادية جاء السلام يجرّ أذياله، وسكتت أصوات الفتنة وتماسكت البلاد وقويت شوكة التحالف الحكومي الانتقالي الهشّ.
ويشهد السودان، بحسب المأمون، ارتفاعاً مُطرداً للدولار مقابل الجنيه السوداني، ولم تستطع الحكومة السابقة ولا الحالية لجمه وإيقافه، وليس هناك مؤشرات دالة عن أنّها ستنجح في المدى القريب أو المتوسط في ذلك، فالإنتاج والتصدير متوقفان منذ ما يربو عن عشرة أعوام، الأمر الذي أضعف من الاحتياطي النقدي بالبنك المركزي، خاصة بعد استقلال الجنوب، عام 2011، مما ترتّب عليه فقدان عائدات النفط المصدر الوحيد للعملات الصعبة بعد تدهور الإنتاج الزراعي، وتوقف الصناعات التحويلية واعتبار السياحة "رجس من عمل الشيطان"، على حدّ تعبيره، في فكر الحكّام السابقين من الإسلاميين، بالتالي؛ فإنّ البنك المركزي السوداني فقد السيطرة والتحكم في سعر الصرف وانهزم هزيمة ساحقة أمام السوق السوداء.    
إبراهيم البدوي وزير المالية والاقتصاد السوداني

مخاطر جمّة ومشهد قاتم
بالنسبة إلى الناشطة السياسية، نوال السنوسي، فإنّ 2020 ربما يشهد احتجاجات عارمة ضدّ الحكومة؛ فكلّ المؤشرات تدلّ على ذلك، خاصة أنّ حكومة حمدوك تنوي رفع الدعم عن السلع الأساسية بما في ذلك الوقود، وأشارت السنوسي في سياق إفادتها لـ "حفريات" إلى أنّ الحكومة بدأت بالفعل في تهيئة الأرضية لذلك، فقد أصدر ما يُسمّى تجمع رجال الأعمال السودانيين، وهو كيان بديل لاتحاد أصحاب العمل التابع للنظام البائد، بياناً طالب فيه الحكومة صراحة برفع الدعم عن الوقود، ولكن لا يخفى على المراقب السياسي أنّ هذا البيان صدر بإيعاز من الحكومة نفسها حتى تمهد الطريق لرفع الدعم دون أن تفي بوعدها بدعم الشرائح الفقيرة بمقابل نقدي يقلّل من الصدمة المحتملة.

ناشطة سياسية: قد يشهد 2020 احتجاجات عارمة ضدّ الحكومة التي تنوي رفع الدعم عن السلع الأساسية

ووصفت السنوسي بيان رجال الأعمال بـ "القداحة التي ستشعل الحريق" إذا ما استجابت له الحكومة، وقالت: إنّه بيان ركيك وكاذب، خاصة في الجزئية التي أكد فيها بأنّ التجمّع "وبعد اطلاعه على الدراسات والأرقام يمكنه القول إنّ آثار قرار رفع الدعم خاصة عن البنزين ستكون محدودة ويمكن تداركها"، فيما في الواقع لا توجد دراسات ولا أرقام، كما أنّ رفع الدعم عن الوقود سيضاعف تعرفة النقل، وسيزيد ارتفاع الأسعار إلى حدود غير مسبوقة، وستدخل شرائح جديدة إلى دائرة الفقر والفاقة، بالتالي؛ فإنّ الغضب على الحكومة سيتبلور بشكل فعلي، ولربما أفضى الأمر إلى انقلاب عسكري مبكر، يُطاح فيه بالقوى المدنية (قوى إعلان الحرية والتغيير) وتستبدل بالحركات المسلحة لتشكل حكومة جديدة مع أعضاء المجلس العسكري الحاكم حالياً،  بحسب رأيها. 

تفاؤلٌ حذِر
من جهته، بدا الاقتصادي عبد القادر جبر الدار أكثر تفاؤلاً، لكنّه حذّر الحكومة من رفع الدعم عن السلع الأساسية، ما لم تتوصل أولاً إلى اتفاق سلام مع حركات الكفاح المسلح، وتُطبق ثانياً برنامج الدعم النقدي للشرائح الفقيرة الذي وعدت به المواطنين، وإلا ستفتح على نفسها أبواب الجحيم، فالشعب يعيش حالة غير مسبوقة من الضنك والفقر، وأكثر من 90% من المواطنين عاجزون حرفياً عن تلبية احتياجاتهم اليومية. 

اقرأ أيضاً: قانون تفكيك نظام الإنقاذ.. هل ينقذ السودان من تركة الإخوان؟
ووصف جبر الدار، في حديثه لـ "حفريات"، عام 2020 بـ "عام الاقتصاد المفصلي في تاريخ السودان"، فكلّ أزمات البلاد من حروب أهلية ومجاعات وانقلابات عسكرّية ونزوح وهبات شعبية تبدأ بالاقتصاد وتنتهي إليه، واستطرد: "تضمّ الحكومة الانتقالية طاقماً اقتصادياً مُحترفاً بدءاً من رئيس وزرائها ووزير ماليتها، لذلك فهي مؤهلة لتجاوز هذه الظروف الدقيقة والاستثنائية التي تمرّ بها البلاد إذا ما امتلكت الإرادة السياسية اللازمة والضرورية لذلك، علماً بأنّ لديها دعماً شعبياً جارفاً، لكن قد ينقلب ضدّها إذا لم تتمكن من تلبية حاجاته اليومية".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية