هل تنتهي حقبة الأعراض المرضية في تونس؟

هل تنتهي حقبة الأعراض المرضية في تونس؟


05/09/2021

أحمد نظيف

في مكان ما من كراسات السجن يلخص أنطونيو غرامشي، باختصار شديد وببراعة، الأوضاع الثورية الراكدة وأزمة المجتمعات التي لم تذهب بثوراتها نحو التغيير الجذري بالقول: "تكمن الأزمة تحديداً في أن القديم يحتضر، والجديد لم يولد بعد. وفي ظل هذا الفراغ تظهر أعراض مرضية غاية في التنوع". وخلال هذه الدرب الطويلة من سير المجتمعات نحو الجديد، تتعثر خطواتها الثقيلة في عوائق القديم، الذي يغرس جذوره عميقاً. وخلال هذا السيرّ والمكابدة تبرز الأعراض  المرضية، زارعةً اليأس في القلوب. هذا ما حدث في تونس منذ 2011 وحتى اليوم، ولا ندري هل سيتواصل؟

في 14 كانون الثاني (يناير) 2011 رحل زين العابدين بن علي عن السلطة وتفككت برحيله طبقة سيطرت على السلطة والمجتمع لأكثر من ثلاثة عقود، لكنها لم تنتهِ بهذا الرحيل، بل أعادت إنتاج نفسها بأشكال أخرى وفقاً لشبكات مصالح جديدة ووجدت في الحكام الجدد إمكانات هائلة لعقد تحالفات، بل شكل هذا التحول انتصاراً لها، إذ أصبح وضعها أفضل بكثير منه في عهد بن علي. ومع صعود الإسلاميين إلى السلطة توطدت المصالح المشتركة للطبقة الحاكمة نفوذاً ودخلاً، ليأتي عصر التوافق بين "حركة النهضة" و"حركة نداء تونس" بين 2014 و 2019 ليعزز مواقع هذه الطبقة داخل السلطة ويعمق من هيمنتها على البيروقراطية، التي تحولت أداة طيعة في يدها للمضي في طريق التراكم من خلال انتزاع الملكية العامة والاحتكار والريوع. 

في المقابل بدأت الشرائح الوسطى، التي طالما شكلت القاعدة الاجتماعية للنظام منذ الاستقلال، تعيش أزمة وجودية غير مسبوقة مهددةً في دخلها وفي موقعها الاجتماعي، فيما انحدرت الفئات الدنيا منها إلى قاع الفقر والخصاصة. هذا التحول في أوضاع التشكيلات الاجتماعية القائمة لم يكن ثابتاً ولم يفضِ إلى إرساء نظام جديد، اذ بقيت جذوة الحركة الاجتماعية المناهضة للأقلية المسيطرة على السلطة والثروة، وبخاصة للائتلاف التوافقي الجديد، حيةً وازدادت قوة بفعل وعي قطاعات واسعة من الشعب وبخاصة الشباب بسياسات التفقير والمحسوبية والزبونية التي ينتهجها هذا الائتلاف.

فقد عجزت الطبقة المسيطرة عن حسم الصراع وإنهاء الحركة الاجتماعية، في مقابل عجز الحركة الاجتماعية عن حسم الصراع من جانبها وإنهاء حكم الأقلية، لنجد أنفسنا في نوع من توازن القوى، كانت أعراضه واضحةً: إنهيار مالي وفشل ذريع في مجابهة الأزمة الصحية وانحدار غير مسبوق في الخدمات العامة للدولة. 

تعتمد أي سلطة على جهاز الدولة للسيطرة على المجتمع من خلال أجهزة العنف (الأمن والجيش) والجهاز البيروقراطي (الإدارة)، بيد أن السلطة، باعتبارها ذات أساس مادي طبقي، تعتمد أيضاً على الجهاز الإيدولوجي وهو المعبر الرئيسي عن سردية الدولة، والذي يتكون من الحزب الحاكم والمنظمات الشعبية الموالية له والعائلة والدين والثقافة والمدارس. بيد أن هذا المعطى الأيديولوجي في حالة تونس الراهنة غائب تماماً بعد 25 تموز (يوليو). ففي اللحظة التي وصل فيها الصراع بين الطبقة الأقلية المهيمنة والطبقات الشعبية إلى نوع من التوازن الصفري، حيث لا غالب ولا مغلوب، فلا الإئتلاف الحاكم سقط ولا الحركة الاجتماعية انهزمت، صعد قيس سعيد مستفيداً من مناخ اليأس في قفزة بونابرتية مألوفة في التاريخ، وفي لحظة اليأس تلك وجد قطاع واسع من التونسيين "المُخلصّ" من عشر سنوات من الصراع الاجتماعي الصفري. أخذ سعيد السلطة منفرداً، باعتباره فوق الطبقات مستعيناً بجهازي الدولة، البيروقراطي والعنفي، من دون وجود سردية ايديولوجية واضحة حتى الآن للنظام الذي يريد بناءه، وفي غياب هذه السردية – حتى الآن على الأقل – سيكون جهاز الدولة رافده الوحيد في السلطة، وأداته في إدارة الوضع، وقد بدا واضحاً أن الرئيس يبني تصوره للوضع عن البلاد من خلال التقارير التي تصله من الأمن والجيش، من دون غيرها، حتى أنه في اجتماع المطار قال: "إن بعضهم يقدم نفسه على أنه طالب أو رجل أعمال، فيما تقول التقارير الأمنية غير ذلك"، ولأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فإن حكم الرئيس على الأشياء مصدره المعرفي قائم على تقارير أجهزة الدولة، وهو الجهاز نفسه الذي كانت تحكم من خلاله الإئتلافات الأقلية منذ 2011 وأنظمة الحزب الواحد قبلها، حتى أنه سارع إلى تغييرات في جهاز الأمن والداخلية قبل الحكومة، لكن البيروقراطية التي تحولت منذ عقود أداة في يد الطبقة المسيطرة، وجدت فرصتها اليوم في صعود قيس سعيّد للتحكم بالطبقة المسيطرة لا العكس، وهو وضع يحقق للنظام نوعاً من الاستقرار، كما ينسجم مع مصالح الشريحة العليا من البيروقراطيين (كبار موظفي الخدمة المدنية والأمنية...)، اذ سينعكس ذلك على دخل هذه الشريحة ومستوى عيشها ونفوذها الاجتماعي.

وحتى يولد هذا الجديد الذي يبشر به قيس سعيّد، يبدو أننا سنبقى في نوع من الفراغ الضروري زمنياً، وهنا تبدأ الأعراض المرضية في الظهور، حيث تكمن الأزمة تحديداً في أن القديم يحتضر، والجديد لم يولد بعد. لكن تبقى لكل مرحلة أعراضها المرضية الخاصة، فإن تميزت حقبة ما بعد بن علي، وهيمنة الائتلافات الحزبية على إدارة الدولة بتفشي الفساد وتضرر الطبقات الشعبية مقابل تركز الثروة في يد أقلية مرتبطة بالسلطة، فإن الأعراض المرضية التي يمكن أن تشكو منها المرحلة الجديدة ستكون مختلفةً وربما تأخذ أشكالاً جديدة.

عن "النهار" العربي



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية