لطالما اعتادت تركيا التصعيد على عدة جبهات في آنٍ واحد، وفي الوقت الذي وافق الكونغرس الأمريكي في 11 كانون الأول (ديسمبر) الجاري على فرض عقوبات على تركيا لشرائها منظومة الدفاع الروسية "400S"، انتهى بيان قمّة الاتحاد الأوروبي إلى فرض عقوبات أوروبية على تركيا لنشاطها المزعزع للاستقرار شرق المتوسط.
اقرأ أيضاً: هل تنجح فرنسا في كف يد أردوغان عن مسلميها؟
وفيما تنتظر العقوبات الأمريكية توقيع الرئيس دونالد ترامب، المنتهية ولايته في مدة لا تتجاوز الـ30 يوماً، فإنه يرحل عن البيت الأبيض وقد تعثر في حماية "صديقه"، الذي سبق أن وصفه بـ"لاعب شطرنج عالمي"، وتهدد العقوبات والتصعيد المتعدد الطموح التُركي وتُلجمه.
اقرأ أيضاً: أردوغان يتحدّى: "أرجوكم عاقبوني "
وعلى عادة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فإنه انتهج حوار الندّية في التعليق على العقوبات، سواء الأوروبية التي وصفها بأنها "تضرّ بالمصالح المشتركة"، أو العقوبات الأمريكية التي علّق عليها بقوله: إنه "سيتمهل إلى حين استلام الإدارة الجديدة"، رغم علمه أنّ الإدارة الجديدة تنوي انتهاج نهج أكثر تشدداً نحو إدارته.
ويبقى التساؤل حول مدى فاعلية تلك العقوبات، التي تُفرض حتى الآن على شخصيات وشركات تركية؛ أي إنها لم تدخل المرحلة الأكثر تشدداً المتعلقة بفرض عقوبات على الكيانات الرسمية، أو تصدير السلاح إليها، غير أنها رغم ذلك تهدد على نحو مباشر الليرة التركية المتهاوية بالأساس، وتعكس مناخاً مضطرباً لا يشجع على الاستثمار في تركيا، التي كانت تأمل أن تجذب مزيداً من الاستثمارات لتحسين الاقتصاد.
اقرأ أيضاً: العثمانية الجديدة وأحلام التوسع المستحيلة.. أيّ وهم يعيشه أردوغان؟
ويؤكد الباحث في العلاقات الخارجية مصطفى صلاح على أنّ الفترة المقبلة شديدة الحساسية والتأزم على تركيا، مع السياسة الأمريكية المتوقعة نحو تركيا، مع استلام جو بايدن مهامّه في كانون الثاني (يناير) المقبل، والتي ستسعى إلى إعادة الاعتبار إلى الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة، وفي مقدمتهم الاتحاد الأوروبي.
مصطفى صلاح: الفترة المقبلة شديدة الحساسية والتأزم على تركيا، مع السياسة الأمريكية المتوقعة نحو تركيا مع استلام جو بايدن مهامّه في كانون الثاني المقبل
وأضاف صلاح في تصريحه لـ"حفريات": في ظلّ توجّه الاتحاد إلى انتهاج سياسة العقوبات نحو تركيا لردعها، وتلاقيها مع التوجهات الأمريكية، فإنّ النظام التركي يقف أمام توحيد الأطر ضده على الصعيد العالمي، وبالتزامن مع الأزمات الداخلية فإنه سيكون مجبراً على الجلوس إلى طاولة الحوار للخروج بأقلّ خسائر ممكنة.
ويلفت الباحث إلى أنّ الاتحاد الأوروبي لا يعمل فقط على لجم تركيا، ولكنه أيضاً يسعى إلى البحث عن حلفاء جدد في المنطقة، وتجفيف المنابع التي تستخدمها تركيا سلاحاً في وجه الاتحاد، ومنها قضية اللاجئين، فإنّ دولاً في الاتحاد، مثل فرنسا، تسعى إلى فرض أشكال جديدة وعميقة مع دول مثل مصر والمغرب، لضمان عدم عبور لاجئين البحر، وهو ما يمثل عبئاً على الاتحاد.
اقرأ أيضاً: هل تردع الجهود الأمميّة أطماع أردوغان في قبرص؟
وتابع صلاح حديثه: بوصول بايدن، فإنّ أزمات كثيرة في المنطقة قد تلقى نهجاً مختلفاً، قد يهدأ الملفان السوري واليمني تمهيداً لعودة اللاجئين إلى بلدانهم الأصلية، ممّا يخفف العبء ويضعف الورقة التي تشهرها تركيا في وجه الاتحاد.
وكانت تركيا قد تطرّقت إلى ملف اللاجئين خلال الرد على بيان الاتحاد الأوروبي الخاص بالعقوبات، وقال بيان للخارجية، بحسب ما أورده موقع "سي إن إن": إنّ عمليات ضد اللاجئين في بحر إيجه من قبل اليونان أمر مشين، لا يمكن الحديث عن التعاون في الإدارة المسؤولة لتدفقات الهجرة، حتى تنتهي عمليات الترحيل الجماعي، وهذه الانتهاكات التي تشكّل انتهاكاً خطيراً لحقوق الإنسان، والمدانة بشدة من قبل الرأي العام الدولي.
واستدعاء تركيا ملف اللاجئين ليس بالجديد، فقد استخدمت تركيا على مدار أعوام ذلك الملف لابتزاز أوروبا.
استدعاء تركيا ملف اللاجئين ليس بالجديد، فقد استخدمت تركيا على مدار أعوام ذلك الملف لابتزاز أوروبا
لكنّ تلك الورقة لم تعد تكتسب القوة ذاتها، خاصة في ظل اصطفاف دول أوروبية أكثر في وجه تركيا، التي كانت تعتمد من قبل على الاختلافات الأوروبية للبحث عن مساندين لها أو وسطاء، يعملون على إرجاء العقوبات وتقديم مسار التفاوض والحل.
وقد لعبت ألمانيا دور الوسيط خلال الشهور الماضية بين تركيا والاتحاد، قبل أن تتوتر العلاقات بين برلين وأنقرة الشهر الماضي، إثر رفض تركيا الخضوع للتفتيش من قبل إحدى السفن الألمانية ضمن عملية إيريني، لمراقبة القرار الأممي بحظر تصدير السلاح إلى ليبيا.
اقرأ أيضاً: إذا كانت تركيا في أزمة فإن أردوغان في ورطة
وبدت ألمانيا التي تتولى رئاسة الاتحاد الأوروبي حالياً أكثر تشدداً نحو تركيا خلال القمة الأخيرة، وقالت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل: إنّ صادرات الأسلحة إلى تركيا "ستتم مناقشتها بين أعضاء الناتو جنباً إلى جنب مع الإدارة الأمريكية المقبلة".
وعلى ذكر الناتو، الذي يُعدّ الساحة التي تجتمع فيها أوروبا والولايات المتحدة وتركيا، فإنّ سلوك الأخيرة مسار العناد واستمرارها في التصعيد حتى بعد العقوبات، والإصرار على استخدام منظومة الدفاع الروسية "S400" قد تنتهي عواقب ذلك إلى طرد تركيا من "الناتو"، بحسب الباحث في العلاقات الدولية مصطفى صلاح.
وسبق أن شدّد الرئيس التركي على أنّ صفقة "S400" منتهية، وأنّ بلاده لن تتراجع عن تلك الصفقة.
اقرأ أيضاً: داعش وأردوغان.. فزاعة للداخل وسلاح في الخارج
غير أنّ العلاقات مع روسيا تحديداً هي ضمن نهج قد يلجأ إليه أردوغان لتهيئة أموره مع النظام الأمريكي الجديد، بحسب خبير شؤون تركيا، غونتر زوفيرت، الذي يقول في حواره مع "دويتشه فيله": إنّ أنقرة قامت في الأسابيع الأخيرة من حكومة ترامب بتشغيل النظام الصاروخي "S400" على أمل أن تمرّ هذه الخطوة دون عقوبات.
اقرأ أيضاً: سياسات أردوغان وحافة الإفلاس التركية
وأضاف: إنّ تركيا تعلم أنّ جو بايدن سينتهج أسلوباً آخر، والاتصالات الهاتفية لأردوغان مع البيت الأبيض لن يتمّ تمريرها بسهولة إلى الرئيس، فالعلاقات ستنظمها بالأحرى الدبلوماسية العادية، وأردوغان يعلم أيضاً أنّ بايدن سيحترم أكثر مبدأ دولة القانون وحقوق الإنسان، وفي آنٍ واحد سيحاول بايدن لجم التأثير الروسي في المنطقة، وهنا يمكن أن تساعده تركيا. فعلاقات الولايات المتحدة مع تركيا لن تتدهور، ولكنّ أسلوباً مغايراً سيحلّ في السياسة المتبعة. وأنقرة ستحاول عرض نفسها كقوة لا يمكن الاستغناء عنها في التعامل مع روسيا. والسؤال هو: كيف سيتعامل بايدن مع ذلك؟