هل تكون العزلة السياسية خيار المسلمين الأمثل لبناء مشروعهم؟

هل تكون العزلة السياسية خيار المسلمين الأمثل لبناء مشروعهم؟


04/07/2018

الثورة الصناعية التي ظهرت في أواسط القرن الثامن عشر الميلادي في أوروبا، أحدثت تغييراً جذرياً في ميزان القوى بين الدول، فصعدت إمبراطوريات، وبدأت معالم الهبوط والتراجع تظهر في أخرى.

أحدثت هذه الثورة فرقاً مرعباً وهائلاً في موازين القوى، تمخض عن ولادة نظام عالمي جديد في تلك الفترة، فسيطرت أوروبا على العالم وبدأت بالزحف الاستعماري لوضع يديها على مقدرات العالم، ومنها الدولة العثمانية.

أوروبا والغرب بشكل عام حافظ على التفوق الصناعي، ومنع توريد التكنولوجيا للمسلمين، لسبب واحد فقط، وهو أنّ المسلمين إن تمكنوا من امتلاكها فإنهم يصبحون قادرين على تعويض ما فاتهم في فترة قياسية، بالنظر لوجهة نظرهم المتماسكة عن الحياة "الأيديولوجيا" وأثرها في إيجاد الحافز الحاد الذي يدفع معتنقها نحو التقدم والبناء والتفوق، ويجعله خلاقاً، صاحب قضية ورسالة في هذه الحياة.

العزلة السياسية من أهم الدروس التي يجب الاستفادة منها عرباً ومسلمين ونحن ندرس التاريخ القريب وبناء الدول

يقول صامويل هنتنغتون: "المشكلة الحقيقية للغرب ليست هي الأصولية الإسلامية، إنه الإسلام. هذا الدين ذو الحضارة المختلفة، والذي يتقين معتنقوه من تفوقهم الحضاري في وقت هم فيه محبطون من قلة نفوذهم".

أقول إنّ هذا الأمر لو وجد –أي امتلاك المسلمين للتكنولوجيا- لتغير ميزان القوى في العالم ولأصبح الاستعمار وسيطرة الغرب على مقدرات العالم في طريقهما إلى الزوال.

اقرأ أيضاً: "نحن أعداؤنا".. قصة اليقين الذي يشبه الخرافة

واليوم ينظر المسلمون في وجوه بعضهم، متعجبين، ويمشون في الطرقات حيارى، يأخذ اليأس منهم كل مأخذ، ووصل الإحباط، والخوف منهم الحناجر، وهم يرون تغلغل النفوذ الاستعماري خاصة الاقتصادي منه في دولهم، ويرون كيف يجري ربط دولهم بأمريكا عبر ذراعيها؛ صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي. إلى جانب استعمارهم عسكرياً في العراق، وإغراقهم في بحار من الدماء في سوريا وليبيا واليمن ومعهم العراق. فإن نجوا من بحار الدم في بلدانهم ماتوا غرقاً في البحر المتوسط، أو على شطآنه كما تموت الحيتان. والماكثون منهم ينظرون إلى عواصمهم ومدنهم تُهدم فوق رؤوسهم وأياديهم مغلولة مكبلة أمام التفوق العسكري والتقني الغربي، ويقفون أمام هذا التفوق المرعب مدهوشين متسائلين متى وكيف يكون الخلاص؟

اقرأ أيضاً: الجاهلية مفهوم إخواني يكرّس الكراهية والانفصال عن الأمة

ومن أوجب الواجبات على الأمة بذل جهود في دراسة أحوال العالم ونظامه العالمي لاسيما دوله المتقدمة، والانتفاع بتجاربهم، وفهم وسائلهم وأساليبهم وخططهم التي ارتفعوا ونهضوا وارتقوا بها وبسببها، فسنن الله في الوجود لا تتخلف؛ لأن سنن التغير والتدافع تلزم الأخذ بالاسباب، ونحو ذلك من الأفكار التي يجب أن نقبض عليها بيد من حديد، وأن نمضعها ونهضمها ونمتص عصارتها حتى تصبح خاصية من خصائص الأمة، وصفة لازمة لها خاصة عند المفكرين والأوساط السياسية منها. ذلك أنّ أخذ الدروس السياسية من التاريخ ومن حياة الأمم ماضياً وحاضراً أمرٌ بالغ الأهمية للأمة التي تتطلع إلى السير في طريق النهضة والانفكاك من التبعية والتخلص من أسباب التخلف والانحطاط.

سياسة العزلة التي فرضتها أمريكا على نفسها حيناً من الدهر إنما كان ضرورة لازمة لاستكمال عمليات البناء الداخلي

العزلة السياسية من أهم الدروس التي يجب الاستفادة منها ونحن ندرس التاريخ القريب، وهو من أهم المفاهيم والأعمال السياسية المتعلقة ببناء الدول، ورقيها وتقدمها. ويلزمنا بلورة هذا المفهوم أو لفت النظر له من أجل أن يدرك المسلمون أنه في حال قامت لهم قيامة في لحظة تاريخية ما، وأصبح لديهم دولة تمثلهم، وصار سلطانهم بأيديهم، أن عليهم التشرنق والتقوقع عن العالم في عزلة طويلة أو قصيرة لاستكمال النهضة التكنولوجية بعد أن يكونوا قد استكملوا مراحل النهضة السابقة، وهي الثورة الفكرية بشقيها: ثورة تنقية تراثهم مما علق به من أدران ومفاهيم حالت دون استمرار صعودهم الحضاري. والثورة العملية الصهرية التي يتولد عنها رأيٌ عامٌ كاسحٌ على أفكار النهضة؛ تحمل هذه الأفكار وتدافع عنها قاعدة شعبية كبرى من سواد الناس، يعقبها الثورة السياسية الشاملة التي ينتج عنها دولة تمثلهم، ويكونون هم أصحاب القرار الوحيد فيها، بعيداً عن العمالة وممارسة الأدوار الوظيفية للأعداء أياً كانوا.

اقرأ أيضاً: الشعوب الواعية حصن منيع للدول الحديثة

ولو استعرضنا التاريخ المعاصر لوجدنا أنّ بريطانيا هي أول من ابتدع فكرة العزلة، التي تعني النأي بالنفس عن الصراعات الدولية وتشعباتها قبل استكمال عملية بناء الدولة صناعياً وعسكرياً، بحيث تكون الدولة قادرة على الدفاع عن نفسها؛ لأن الدخول في معترك السياسة الدولية الساخنة والباردة قبل اكتمال نمو الدولة لا يعني إلا شيئاً واحداً وهو الانتحار السياسي، وتعريض الدولة لمخاطرالتفكك وجعلها لقمة سائغة لأعدائها الأقوى منها عدة وعدداً.

ولقد انتفعت وسارت الولايات المتحدة الأمريكية أيضاً بهذه السياسة فترة طويلة من الدهر، مما مكنها وأتاح لها فرصة الصعود التدريجي حتى وصلت إلى مصاف الدول العظمى، ثم ومع الزمن غدت الدولة الأولى في العالم، بعد أن تفوقت وتجاوزت كل القوى العالمية الأخرى وكل الدول الطامحة التي تعمل لإثبات نفسها رقماً مهماً في السياسة الدولية وقد تشكل خطراً أو تصبح نداً لها في قابل الأيام.

اقرأ أيضاً: الإخوان المسلمون يفخّخون الاجتماع الإسلامي بالأزمات

ومن أجل أن تصبح أمريكا قوة عظمى مرهوبة الجانب، ومن أجل أن تحمي مصالحها الداخلية في العالم، وضع كبار مفكريها ونخبة سياسييها الأيدولوجيين في بداية تكوين الدولة الأمريكية سياسةً خارجيةً لتسيرعلى ضوئها الدولة الأمريكية الفتية، تتمثل في عناصر أو مرتكزات فكرية سياسية ثابتة تكون بمثابة طريق أوحد من أجل السير عليها نحو التقدم والرفعة في الحياة، ومنها سياسة العزلة.

فقد اتخذت أمريكا، بعد إعلان الاستقلال، مبدأ العزلة أو الأحادية، وهذا المبدأ يعني في التصور السياسي الأمريكي أن تبقى أمريكا بعيدة عن الصراعات العالمية لاسيما الأحلاف المربكة التي كانت قائمة في أوروبا، وأن تبقى محايدة وبعيدة عن حروب أوروبا حتى يتسنى لها بناء نفسها كقوة مرهوبة الجانب للتمكن من حماية نفسها أولاً ثم الانطلاق إلى استعمار العالم ثانياً.

اقرأ أيضاً: هل يتعارض الإسلام مع العلمانية؟

ويعتبر جورج واشنطن أول من تحدث حول العزلة، والظاهر أنه تأثر أو نقل مفهوم العزلة عن بريطانيا، أي أنّ الولايات المتحدة قد تأثرت أو انتفعت بهذه الإستراتيجية أو السياسة من الإنجليز الذين كانوا يتخذون سياسية الحياد تجاه أوروبا التي يُعبر عنها عادة بأن بريطانيا تقاتل حتى آخر جندي فرنسي.

وقد كان الأخذ بمفهوم العزلة أمراً ضرورياً وحتمياً بالنسبة للأمريكان للاعتبارات التالية :

1-     إذا أرادت الولايات المتحدة الأمريكية الانخراط في الحروب الإمبريالية على غرار النموذج الأوروبي، فقد كان عليها أن تبني جيوشاً وأساطيل كبيرةً وأن تفرض الضرائب والتجنيد الإلزامي على شعبها، وهذا لم يكن بقدرة أو مقدور أمريكا في ذلك الوقت.

2-    أن الولايات المتحدة إذا أصبحت منخرطة في الصراعات الأوروبية فإنها ستضطر إلى لعب دور الشريك الأصغر في أحلاف الإمبراطوريات العظمى، وربما تخسر رعاية مصالحها القومية.

3-    أنها إذا أصبحت منخرطة في الصراعات الداخلية الأوروبية، فإن القوى الأوروبية المتضررة سوف تعمل على الإضرار بمصالح أمريكا وتسعى للتنافس على مواردها، وتعمل على تفريق شعوبها بالدعاية والرشاوى وكل الأساليب الخسيسة.

4-    إذا تورطت الولايات المتحدة في الصراعات والمنافسات الأوروبية، فإن ساحة المعركة ستطول بالتأكيد الأراضي والمياه الأمريكية، لذلك كان الحياد هو الطريق الوحيد والبراغماتي النفعي الذي كان على أمريكا أن تسلكه وهذا ما فعلته.

5-     كان يجب على أمريكا أن تزيد من قوتها من أجل أن تدافع عن مصالحها ضد الأعداء، والحلفاء المؤقتين كذلك، وبما أنها ما زالت تفتقد القوة اللازمة للردع ودفع الأذى فقد اختارت أن تبقى في عزله تامة حتى تتمكن من بناء نفسها كقوة قادرة على حماية مصالحها في الداخل والخارج.

6-     وقد تنبّه الأوروبيون لسياسة العزلة الأمريكية، وتنبهوا لخطرها، ولكن إمكانيات أوروبا في تلك الفترة وحروبها وصراعاتها الداخلية، وبُعد أمريكا الجغرافي الذي حباه الله لها -على حد تعبيرهم- عن متناول يدها حال دون أن تعمل أوروبا على الإطاحة بأمريكا، أو وقف تصاعد قوتها.

ومما يدل على أن هذا الأمر كان مدركاً لدى كثير من قادة أوروبا ما كتبه توماس باول السياسي البريطاني صاحب الخبرة في المستعمرات قائلاً: "إن على ملوك أوروبا أن يستعدوا جيداً  لتحدٍ عظيم في الجهة الاخرى من الأطلنطي"، وتنبأ بأن أمريكا مع مرور الوقت ستكون الحكم في السياسة العالمية إذا جلست فقط واستغلت ميزان القوى الأوروبي لتوسع سيطرتها على القارة الأمريكية .

اقرأ أيضاً: الإسلام هو الحل.. شعار أم مشروع؟

وقد عبر عن ذلك أيضاً المفوض السويدي في لندن لأحد قادة أمريكا حين قال له ما نصه: "إنني أعده أمراً مسلماً به أنه سوف يكون لديك الإحساس الكافي لترانا في أوروبا يقطع كل منه رقبة الآخر بينما تراقبنا بهدوء فلسفي".

وقد نجحت أمريكا في سياسة العزلة كسياسة خارجية ثابتة نجاحاً منقطع النظير، وبرز هذا النجاح فيما حققته الولايات المتحدة من نجاح سريع، كقوة كافية لردع الأوروبيين عن تحديها في قارتها .

ولفتت هذه الحقيقة نظر عددٍ من المفكرين؛ فالأستاذ عثمان صالحية في بحثه ملاحظات على السياسة الخارجية الامريكية أشار إليها حين اعتبر أنّ "سياسة العزلة التي سارت عليها أمريكا كانت أمراً حتميا لها حتى تستكمل بنيتها الأساسية التحتية والفوقية وحتى تتمكن من بناء مجمع صناعي عسكري"(industrial military complex) يضمن لها امتلاك القوة العظيمة التي تستطيع بواسطتها أن تنتقل من دور الدفاع إلى دور الهجوم في المعترك الدولي،  لذلك كان لابد لها من فترة كافية من العزلة عن العالم الخارجي (القديم) كي لا يتعرض مشروعها النهضوي للإجهاض قبل أن يؤتى أكله ويحقق غايته".

اقرأ أيضاً: الواقع المهزوم والبعد عن الدين: تشخيص خطأ وعلاج خطر

فسياسة العزلة التي فرضتها أمريكا على نفسها حيناً من الدهر إنما كان ضرورة لازمة لاستكمال عمليات البناء الداخلي، وامتلاك أسباب القوة من خلال نجاح مشروعها النهضوي في مختلف المجالات؛ لأن من شأن التورط في تحالفات أو حروب دولية قبل أن تبلغ أمريكا مرحلة النضوج أن يضعف من قواها، ويستنزف طاقاتها، وربما أدى إلى تراجعٍ شاملٍ في مجمل قوتها، الأمر الذي يجعل مصيرها في خاتمة المطاف في مهب الريح أو على شفا جرف هار.

وهذا ما فعلته روسيا على وجه التحديد بعد نجاح الثورة الشيوعية فيها؛ إذ تبنّى قادتها السياسيون والأيديولوجيون وعلى رأسهم جوزيف ستالين، خلال السنوات الأخيرة من حكمه وحتى وفاته عام ١٩٥٣، مبدأ العزلة الدفاعية، وعمد إلى تأكيد ضرورة اتخاذ مستلزمات البناء والتقدم الداخلي، بعزل الاتحاد السوفيتي عن العالم الخارجي حتى يتمكن من تحقيق ثورة داخلية ثانية بعد الثورة الفكرية السياسية.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية