هل الطاغية شرير مطلق؟

هل الطاغية شرير مطلق؟

هل الطاغية شرير مطلق؟


13/08/2023

حفلت الأدبيات الفلسفية والسياسية والفنون بصور كثيرة للمستبد أو الديكتاتور أو الطاغية في التاريخ الإنساني. وربما اجتمعت الآراء في جملتها على تشكيل صورة عن طبيعة الطاغية مع اختلافات بينية لدى كل من شرّح هذه الصورة بياناً وبحثاً وتحليلاً.

لكنّ مقاربات "حائرة" في كيفية تشكّل نفسية الطاغية، كشفت أنه قد يكون عازف بيانو، أو شاعراً، أو أديباً، أو شخصاً تتنازعه أهواء الحساسية المفرطة والشدّة المتمنّعة العمياء.

ألم يقف نيرون في أعلى برج في روما يعزف على أشعار هوميروس وهو يتأمل في الحريق الذي أشعل النار في جسد البشر والحجر، غير عابىء بصرخات الضحايا التي خرقت عنان السماء؟

ألم تحمل الأنباء لنا خبر لوحة زيتية شهيرة رسمها هتلر (وقيل إنها لإحدى حبيباته)، وبيعت في مزاد بدأ بستين ألف يورو؟ ألم يولع الزعيم النازي بالموسيقى، ويعشق فاجنر حتى الثمالة، لأنّ موسيقاه كان بمثابة تجسيد لجنون العظمة لديه. ثم إنه، لمعرفته بالموسيقى، جعل الجاز لحناً يرافق طقوس الإعدام، لأنّ هذه الموسيقى تتعارض مع الثقافة الألمانية، وذات ينابيع أمريكية وأوروبية غربية؟

أما ستالين، فكان، كما يصفه كتاب "مكتبة ستالين" بمثابة "دودة قراءة"، وأنه مات في مكتبته عام 1953 وسط ركام هائل من الكتب عليها شروحاته وملاحظاته، حيث كان يقرأ يومياً ما يتراوح بين 200-500 صفحة يومياً، كما أنه شُغف بكتب مؤلفين، ومع ذلك قام بإعدام ثلاثة منهم!

شُغف هتلر بفاجنر حتى الثمالة، لأنّ موسيقاه كان بمثابة تجسيد لجنون العظمة لديه. أما ستالين، فكان، كما يصفه كتاب "مكتبة ستالين" بمثابة "دودة قراءة"

باحثون كثر تأملوا في صورة الطاغية (الشرير المطلق)، وحاولوا تفكيك منظومة الطغيان، كما فعل الباحث المصري إمام عبد الفتاح في كتابه "الطاغية" الذي صدر ضمن سلسلة عالم المعرفة بالكويت في مارس (آذار) 1994، وفيه يذهب إمام إلى أنّ تخلف المجتمعات الشرقية بصفة خاصة، والمجتمعات الإسلامية بصفة عامة يعود أساساً إلى النظام السياسي الاستبدادي الذي ران على صدور الناس ردحاً طويلاً من الزمن، ولا يكمن الحل في السلوك الأخلاقي الجيد، أو التدين الحق بقدر ما يكمن في ظهور الشخصية الإنسانية المتكاملة التي نالت جميع حقوقها السياسية كاملة غير منقوصة، واعترف المجتمع بقيمتها وكرامتها الإنسانية، فالأخلاق الجيدة والتدين الحق نتائج مترتبة على النظام السياسي الجيد، لا العكس.

وهو يستعرض نماذج من صور الطغيان، مع التركيز على الاستبداد الشرقي الشهير، الذي سرق فيه الحاكم وعي الناس عندما أحالهم إلى قطيع من الغنم ليس له سوى وعي ذي اتجاه واحد، كما يقترح حلاً بسيطاً يكسبنا مناعة ضد الطاغية، ويمكننا من الإفلات من قبضته الجهنمية، ويقضي على الانقلابات العسكرية التي أصبحت من سمات المجتمعات المتخلفة وحدها. وهذا الحل هو التطبيق الدقيق للديمقراطية، بحيث تتحول قيمها إلى سلوك يومي يمارسه المواطن على نحو طبيعي وبغير افتعال.

التاريخ سجّل أنّ الدساتير لم تصدر، في معظمها، إلا بعد ثورات شعبية أو ضغط قوي من جانب الشعب على حكامه، من أجل لجم الطغيان، الذي هو كما يقول عبد الرحمن الكواكبي، صفة للحكومة مطلقة العنان التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محقق.

ففي كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" يؤكد الكواكبي أنّ أضر شيء على الإنسان هو الجهل، وأضر آثار الجهل هو الخوف، وأنّ "العوام هم قوَة المستبد وقوته، بهم عليهم يصول ويطول، يأسرهم فيتهللون لشوكته، ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم، ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته، وإذا أسرف في أموالهم يقولون كريماً، وإذا قتل منهم ولم يمثل يعتبرونه رحيماً، ويسوقهم إلى خطر الموت، فيطيعونه حذر التوبيخ، وإن نقمَ عليه منهم بعض الأباة قاتلهم كأنهم بُغاة.

الاستبداد يقلب الحقائق في الأذهان، فيسوق الناس إلى اعتقاد أنّ طالب الحق فاجر، وتارك حقه مُطيع، والمُشتكي المُتظلم مُفسِد، والنبيه المُدقق مُلحد، والخامل المسكين صالح، ويُصبح - كذلك- النُّصْح فضولاً، والغيرة عداوة، والشهامة عتوّاً، والحميّة حماقة، والرحمة مرضاً، كما يعتبر أنّ النفاق سياسة والتحايل كياسة والدنائة لُطْف والنذالة دماثة!

 والاستبداد لو كان رجلاً وأراد أن يحتسب وينتسب لقال: "أنا الشرُّ، وأبي الظلم، وأمّي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسْكَنة، وعمي الضُّرّ، وخالي الذُّلّ، وابني الفقر، وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب، أما ديني وشرفي فالمال المال المال".

وفي روايته 1984 يتنبأ جورج أوريل بمصير العالم الذي ستحكمه قوى كبيرة تتقاسم مساحته وسكانه ولا توفر أحلامهم وطموحاتهم، بل تحولهم إلى مجرد أرقام في جمهوريات الأخ الأكبر (Big Brother) الذي يراقب كل شيء ويعرف كل شيء، حيث يمثل حكمه الحكم الشمولي. وتتحول القيم الإنسانية كالعدالة والحرية إلى أشياء هامشية ويتسع المجال لسطوة الأحزاب السلطوية والشمولية على الناس والشعوب ليكونوا مجرد أرقام هامشية في الحياة بلا مشاعر ولا عواطف وليس لديهم طموحات أو آمال، حيث يعملون كالآلات خوفاً من الأخ الأكبر ولينالوا رضاه لأنه يراقبهم على مدار الساعة.

وقد قارب المخرج السينمائي الإيراني محسن مخملباف صورة الطاغية المستبد في فيلمه "الرئيس" (The President) 2014 إذ يعاين ما الذي يحدث للمستبد عند تجريده من هالة السلطة والقوة التي تغلفه، وكيف سيتحول إلى مجرد إنسان عادي، وما هو مسار سلوكه بين أنماط الناس السلوكية، هل سيستحيل إلى رجل قاتل أو سارق أو لص ومحتال أو شخص يدعي المثل أو خليط من كل ذلك؟

ويمضي مخملباف، كما يذكر تقرير بثه موقع "بي بي سي" في اختبار تجربة التجريد من السلطة إلى نهايتها بفعل الثورة وتحويل الديكتاتور إلى شخص مطارد ولص عادي ومتسول ومهرج وموسيقي جوال ومنتحل لصفة سجين سياسي، أي أنها ليست تجربة تجرد عن السلطة مؤقتة كتلك التي كنا نقرأها في التراث وحكايات ألف ليلة وليلة عن المستبد العادل الذي يتنكر ليرى حياة رعيته ويشاركهم همومهم.

يبدأ مخملباف فيلمه بمشهد لرئيس مستبد عجوز (الممثل المسرحي الجورجي ميشا غومياشفيلي) يطل من علو على عاصمته المُنارة بالأضواء والنشرات الضوئية الاحتفالية، وليشرح لحفيده (أدى دوره بحضور مميز الطفل الجورجي داتشي ارفيلاشفيلي) لعبة السلطة وغوايتها، ويجعله يمارسها بأن يعطيه تلفونه الرئاسي ليأمر بإطفاء كل أضواء المدينة وإشعالها بكلمة منه.

ومع تكرار اللعبة للطفل تنطفئ الأنوار كلياً ولا تشعل بأوامر الطفل الذي استعذب اللعبة، بل نسمع صوت الرصاص والانفجارات. إنها الثورة.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية