
المرّة تلو الأخرى، تؤكد التجارب أنّ وعود جماعات الإسلام السياسي ليست سوى لحظات مؤقتة في سبيل الوصول الآمن لمرحلة التمكين، وتأمين إتمام سيطرتهم على السلطة، ومداراة ذلك بالنفاق السياسي والاجتماعي المباشر.
فحركة طالبان مع عودتها إلى الحكم إثر الانسحاب الأمريكي المباغت، قبل أعوام قليلة، روجت بأنّها لن تعاود سيرة القمع والعنف المسلح على أساس ديني وطائفي، ولن تباشر في ممارسة عدوانها ضد الفئات الضعيفة والأقليات، وتنفيذ أدبياتها المتشددة، مثل العقوبات البدنية على أساس تطبيق الحدود الدينية وفق منطقهم الراديكالي، وكذا التضييق على النساء حدّ الإقصاء والحظر وإلغاء وجودهنّ في المجال العام. غير أنّ واقع الحال يؤشر إلى زوال كل التصريحات الباهتة، حيث فقدت المرأة كل امتيازاتها، بداية من التعليم إلى حقها في العمل، ناهيك عن الزوايا الضيقة المعتمة التي تتم محاصراتها داخل أطرها. وقد نفذوا عمليات الإعدام العلانية بحق المعارضين والنشطاء، وكذا خصومهم، بالإضافة إلى عملية أخرى فاشية مثل الرجم والجلد العلني أيضاً. واستئناف كل هذه الممارسات البدائية العنيفة إنّما يؤكد على أنّ شيئاً لم يتغير من سياساتهم، بل هي أكثر همجية من المراحل التي حكموا فيها قسراً في تسعينات القرن الماضي.
فصل عنصري جديد
وفيما يبدو أنّ طالبان تعمد إلى بدء فصل جديد في تطبيق نمط حكمها الفاشي، بتعميق عزلة النساء، وفرض العقوبات على كل من يسير باتجاه مغاير لطريقها. فزعيم الحركة المسلحة والمتشددة هبة الله أخوند زاده لم يتردد في آذار (مارس) العام الماضي في الإعلان عن تطبيق الشريعة الإسلامية في أفغانستان، بما يتوافق مع تأويلاتهم ومناهجهم المتشددة، ومنها الرجم والجلد. وقال: "سنجلد النساء...، وسنرجمهنّ علناً حتى الموت (بتهمة الزنى). لم ينتهِ عمل حركة طالبان بالسيطرة على كابل، بل بدأ لتوّه. يمكنك أن تسمّي ذلك انتهاكاً لحقوق المرأة عندما نرجمها علناً أو نجلدها لارتكابها الزنى لأنّ ذلك يتعارض مع مبادئكم الديمقراطية... لكنني أمثل الله، وأنتم تمثلون الشيطان".
ثمّة إصرار من القوى الإسلاموية، ومنها طالبان، على طرح أدبياتهم وتطبيق سياساتهم المتشددة، على نحو ليس فيه أيّ تهاون، أو حتى مرونة. فهذه الأنظمة القروسطية لا تقبل التنوع والتعدد في المجال العام السياسي والاجتماعي. كما أنّ سياساتها ومقارباتها التي تقوم على منطق الخير والشر وحزب الله في مقابل حزب الشيطان لا تُعنى سوى بالاصطفاف التام والتماهي أو العزل والتصفية. فنشر الرعب والتخويف تظل استراتيجيات مقصودة لتشكيل إكراهات ضد المعارضين وكل الجماعات التي تتخذ مسافة من السلطة المحتمية بالإيديولوجيا الدينية المسيسة، ويضاف إلى ذلك تفكيك الحقوق المدنية.
وفي تقرير لـ (هيومان رايتس ووتش) قبل عام، أوضحت الباحثة الأفغانية سحر فيترات أنّه "قبل عامين لم تكن لديهم الشجاعة التي يمتلكونها اليوم للوعد برجم النساء حتى الموت في الأماكن العامة، والآن يفعلون ذلك...، لقد اختبروا سياساتهم الوحشية الواحدة تلو الأخرى، ووصلوا إلى هذه النقطة لأنّه لا يوجد مَن يحاسبهم على الانتهاكات. ومن خلال أجساد النساء الأفغانيات تفرض حركة (طالبان) الأوامر الأخلاقية والاجتماعية وتسيطر عليها. وينبغي أن نحذر جميعاً من أنّه إذا لم يتوقف ذلك الآن، فسوف يأتي المزيد والمزيد".
تتفق والرأي ذاته الناشطة الأفغانية ومسؤولة الحملات بمنظمة العفو الدولية، سميرة حميدي، حيث تقول: "لقد عملت طالبان، خلال فترة العامين ونصف الماضية، على تفكيك المؤسسات التي كانت تقدم الخدمات للنساء الأفغانيات". "ومع ذلك فإنّ تأييد زعيمهم الأخير للرجم العلني للنساء حتى الموت هو انتهاك صارخ للقوانين الدولية لحقوق الإنسان، بما في ذلك اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة". لافتة إلى أنّ النساء الأفغانيات في الواقع الآن عاجزات عن الدفاع عن أنفسهنّ من الاضطهاد والظلم.
تمييز ضدّ المرأة
وعليه، لم يكن مفاجئاً ما ألحت عليه، مؤخراً، وكالة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، في تقريرها، فقد طالبت بشدة الحركة المسلحة والمتشددة التي تحكم أفغانستان بـ "الإلغاء الفوري للحظر المتواصل على تعليم الفتيات، وذلك من أجل إنقاذ مستقبل ملايين الفتيات اللائي حرمن من حقهنّ في التعليم منذ عودة طالبان إلى السلطة في عام 2021". وجاء هذا النداء الأممي بالتزامن مع بدء العام الدراسي الجديد بكابل من دون فتيات بعد الصف السادس. موضحة أنّ الحظر حرم (400) ألف فتاة جديدة من حقهنّ في التعليم، وبذلك يصل مجموعهنّ إلى (2.2) مليون فتاة، وفقاً لما ذكرته وكالة (أسوشيتد برس). وقالت: إنّ "أفغانستان هي الدولة الوحيدة في العالم التي تحظر التعليم الثانوي والعالي للإناث"، مبررة الحظر بأنّه لا يتوافق مع تأويلها للشريعة الإسلامية.
وذكرت كاثرين راسل، المديرة التنفيذية لـ (يونيسف)، في بيان: "منذ أكثر من (3) أعوام تم انتهاك حقوق الفتيات في أفغانستان... يجب السماح لجميع الفتيات بالعودة إلى المدرسة الآن. إذا استمر حرمان هؤلاء الفتيات الصغيرات القادرات والنابغات من التعليم، فستستمر التداعيات لعدة أجيال". وقالت: إنّ الحظر على تعليم الفتيات سيضر بمستقبل ملايين الفتيات الأفغانيات، مضيفة أنّه إذا استمر الحظر حتى عام 2030، "فستكون أكثر من (4) ملايين فتاة قد حرمن من حقهنّ في التعليم بعد المدرسة الابتدائية"، وستكون العواقب "كارثية".
ليس ثمة شك أنّ هذا التمييز ضد النساء في أفغانستان عبارة عن فصل عنصري، ويكشف عن سلطة أمر واقع، تفاقم بإجراءاتها الوضع الحقوقي، السياسي والمدني والاجتماعي بالبلاد. كما تتسبب في فصل مأساوي عبر تغييب المجتمع وقطاعاته واسعة منه، بل إرغامها على القبول بالتطبيع مع عودتها لما قبل التاريخ. وسبق لرئيسة بعثة الأمم المتحدة إلى أفغانستان روزا أوتونباييفا، خلال اجتماع لمجلس الأمن الدولي، أن قالت: "هذه القيود المفروضة على النساء والفتيات، لا سيّما في مجال التعليم، تحرم البلاد من رأسمال إنساني حيوي... وتسهم في هجرة الأدمغة التي تقوض مستقبل أفغانستان". وتابعت: "كونها لا تحظى بشعبية كبيرة، فإنّها تقوض مزاعم الشرعية لسلطات الأمر الواقع التابعة لطالبان"، لأنّ تعميم هذه الممارسات التعسفية تتسبب في استمرار العزلة الدولية لأفغانستان.