رغم محدودية مكتبات الأطفال في قطاع غزة، إلا أنّها باتت تشهد في الآونة الأخيرة نوعاً من الهجرة، وأصبح ارتيادها يقتصر على أوقات معينة خلال العام، في ظلّ التطور السريع في وسائل الاتصال والخلويات وأجهزة الحاسوب، وانصراف الأجيال الجديدة إلى الألعاب الإلكترونية التي يتزايد الإقبال عليها على حساب القراءة داخل المجتمع، وفق خبراء، يؤكدون أيضاً عدم مواكبة المطبوعات الموجّهة للأطفال لحاجاتهم، فضلاً عن عدم جاذبيتها.
عدم وجود مطبوعات حديثة
خليل شعث أستاذ أصول التربية في جامعة القدس، يقول إنّ "من أهم المشكلات التي تواجه أدب الأطفال هو عدم وجود مطبوعات حديثة تنمّي قدراتهم اللغوية والذهنية والخيالية، في ظلّ ارتفاع تكاليف إنتاج مطبوعات الأطفال لاحتياجها لمواصفات فنية وإخراجية خاصة، واقتصار بعض المكتبات على مؤلَّفات قديمة تخاطب فئات معينة منهم، إضافة إلى عدم اهتمام العائلات بثقافة أطفالهم، وحثّهم على ارتياد المكتبات لتعزيز هويتهم وتنمية ثقافتهم وشخصيتهم".
شعث: من أهم المشكلات التي تواجه أدب الأطفال عدم وجود مطبوعات حديثة تنمي قدراتهم اللغوية والذهنية والخيالية
ويضيف في حديثه لـ "حفريات" أنّه "يفترض مع التغيرات السريعة في ثقافة المجتمعات العالمية والعربية الاهتمام بثقافة الطفل بشكل أكبر، وجعله هدفاً تنموياً؛ فالكتب والمكتبات هي قديمة، ولا تحتوي على وسائل حديثة تشجع الأطفال على زيارتها، وإن وجدت كتب الأطفال في مكتبات غزة، فتجدها تعبّر عن وجهة نظر الكبار من حيث النص واللغة المستخدمة والإخراج الفني للمؤلفين، الأمر الذي يؤدي إلى صعوبة استيعاب الطفل للنصوص المكتوبة، وغالباً ما تتمّ معاملتهم والنظر إليهم على أنهم متلقون سلبيون فقط".
إشكاليات التلقين والإبداع
ويشير شعث إلى أنّ كتب ومجلات الأطفال ينتابها إشكاليات كبيرة؛ "فهي تركّز في معظمهما على التلقين لا الإبداع، وعدم طرح الكتب والقصص التي تناقش حياة الطفل اليومية، وذلك في ظلّ عدم وجود كتاب مختصين للكتابة لأدب الأطفال لغياب دور المؤسسات الأهلية والحكومية في تقديم الدعم المالي للقيام بذلك، لارتفاع طباعة ونشر كتب وقصص الأطفال، ليصبح تأليفها يتمّ عبر مبادرات فردية وبمواصفات فنية محدودة لا تجتذبهم لقراءتها".
اقرأ أيضاً: جيش الاحتلال يكشف عدد الغارات التي شنّها على غزة في 2018
ويؤكد أنّ "مطبوعات الأطفال الحالية تعتمد على النقل والترجمة من المصادر الأجنبية، التي تخاطب ثقافات تختلف عن ثقافاتنا العربية، كما أنّ سيطرة الإعلام الاستهلاكي المتمثل في قيام القنوات الفضائية العربية بشراء أفلام الكرتون الأجنبية، وانتشار الألعاب الترفيهية على الشبكة العنكبوتية، دفع لاتساع الفجوة بين الأطفال والكتاب والعزوف عن قراءته".
اقرأ أيضاً: هل فشل الإسلام السياسي في غزة.. ولماذا؟
ويردف شعث "الدراسات العلمية الحديثة تبيّن أنّ الأطفال يميلون للألعاب الإلكترونية أكثر من القراءة، مع غياب مكتبات أطفال مزودة بالمجلات والقصص التي تنمّي خيالهم وقدراتهم العقلية، وتجد الأسرة لا تولي أهمية لتنشئة أطفالها على القراءة، ونادراً ما ترى الوالدين يقومون بإهداء أطفالهم قصصاً أو كتباً لهم، لتشجيعهم على القراءة، فتجد أنّ مكافآت العائلات لأطفالهم تقتصر على تقديم بعض الأجهزة الإلكترونية الحديثة، فالكتاب -من وجهة نظر الطفل- هو عقاب له وليس مكافأة".
مكتبات هامشية
ويذهب شعث إلى أنّ "المدارس لا تمتلك كتباً تفاعلية تحفز الأطفال على قراءتها، وتتناسب مع حياتهم المعيشية، لتقع مسؤولية عزوف الأطفال عن المطالعة على العائلة والمدرسة على السواء؛ فمكتبات الأطفال، رغم ندرتها في غزة فهي امتداد للأسلوب المدرسي الذي يهمّش الفكر والتنمية بداخل عقولهم، كما أنّ هناك نسبة كبيرة من الأطفال تعيش بداخل القرى النائية بالقطاع، التي لا توجد فيها أيّ مكاتب متخصصة لهم، وتقتصر المكتبات، إن وجدت، على المراكز الرئيسة للمدن فقط".
اقرأ أيضاً: غزة: هل سلب الإنترنت الأجيال الجديدة صحبة الكتاب؟
ويضيف شعث أنّ "كثرة الواجبات المدرسية التي يفرضها المعلمون على الطلبة، وقلّة ارتياد الأطفال لمكتبات مدارسهم باعتبارها مكتبات هامشية، لا تتمّ زيارتها إلا في حالات غياب بعض المدرسين، يعدّ عاملاً أساسياً في عدم ميول الأطفال وعزوفهم عن القراءة بشكل عام، في حين تعد هذه المكتبات ضرورية للأطفال، وتكسبهم مهارات عدة؛ كالاعتماد على أنفسهم، وتثقيفهم، وتعليمهم، وتفريغ طاقاتهم بشكل إيجابي، وتنمية تفكيرهم الإبداعي".
اقرأ أيضاً: بالفيديو.. لماذا رشق الفلسطينيون في غزة السفير القطري بالحجارة؟
ولتجاوز هذه المعضلة؛ يبين شعث "لا بدّ من أن يكون هناك دعم حكومي لتطوير ثقافة الأطفال وتزويدهم بالكتب والقصص القيمة التي تثري مخيلتهم وعقولهم، وتشجيع الكتاب والمؤلفين، ودعمهم مادياً لصياغة مجموعات قيمة من الكتب والمجلات التي تهتم بأدب الأطفال، وتزويد مكتبات المدارس بها؛ حيث تؤثر جودة الكتاب ومضمونه في إقبال الأطفال على مطالعته، ولا تنفرهم منه، من خلال تأسيس مجموعات قصصية تهدف لتنمية الفكر العلمي لديهم".
ضعف التمويل
من جهته، يرى أستاذ علم المكتبات، خالد الجمل، أنّ "المكتبات الموجودة في قطاع غزة تنتمي لبعض المؤسسات الأهلية والبلديات فقط، وهناك مكتبة واحدة في القطاع متخصصة للأطفال؛ وهي مكتبة مركز عبد المحسن القطان، وجميعها تعاني من ضعف التمويل، وعدم قدرتها على ملاحقة الكتب والمجلات الجديدة والحديثة، حتى أصبحت هذه المكتبات مهدَّدة بعزلة القراء عن ارتيادها، خاصة الأطفال منهم، لانشغال عائلاتهم بأمور أخرى استثنائية، في ظلّ الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمرّون بها".
الجمل: مكتبات غزة تنتمي للبلديات ومؤسسات أهلية وهناك مكتبة واحدة متخصصة للأطفال وجميعها تعاني من ضعف التمويل
ويشير الجمل لـ "حفريات" إلى أنّ "التطور التكنولوجي وانتشار الوسائل الحديثة ساهم في الاستغناء عن الكتاب الورقي لدى الأطفال، كما أنّ دور النشر في الوطن العربي لا تشجع على التميز والإبداع في نشر وتوزيع كتب ومجلات الأطفال؛ حيث يقوم الكاتب بالتكفل بكافة مصاريف النشر دون مساعدة دور النشر، وهو بدوره يؤدّي إلى عدم تحفيز المؤلفين وتشجعيهم على الاهتمام بأدب الطفل".
غياب التطوير والتحديث
ويتفق الجمل مع شعث أنّه "لا توجد دراسات تهتم بعالم الأطفال ورغباتهم وميولهم الثقافية والفكرية، فالمكتبات الموجودة في قطاع غزة لا ينطبق عليها مسميات مكتبات؛ بل هي مجامع للكتب، وذلك لغياب الموظفين المتخصصين للعمل فيها، وعدم تجديد هذه المكتبات للكتب والمجلات التي تحتويها بشكل دوري، وهذا أدّى بدوره إلى عزوف الطفل الفلسطيني عن القراءة والتوجه للمكتبات، ويتمّ النظر إلى الكتب حالياً؛ في ظلّ الظروف المعيشية على أنّها كماليات فقط".
ويؤكّد أنّه "لتشجيع الأطفال على القراءة، فلا بدّ من تضافر جهود الأسرة والمدرسة معاً؛ لحثّهم على القراءة وتغيير السلوك المجتمعي القاتم من حولهم، وحثّ المعلمين الأطفال على التوجه إلى المكاتب، وتشجيعهم على ارتيادها باستمرار، لتعزيز شخصيتهم وتوسيع ثقافتهم المعرفية وإبراز هويتهم الثقافية، والبحث عن كلّ ما هو جديد في مجال المؤلفات والإصدارات العالمية التي تتعلق بالأطفال وتتناسب مع فئاتهم العمرية".
اقرأ أيضاً: لماذا تصر أجهزة حماس في غزة على الإعدام خارج القانون؟
وينوّه إلى أنّ "عدم إلمام الوالدين بأهمية القراءة يجعلهم غير مهتمين بتوفير مكتبة منزلية صغيرة تضمّ مجموعة من الكتب والمجلات المصورة التي تتناسب مع رغبات أطفالهم، وهنا يجب على الآباء رواية القصص المحبّبة لأطفالهم؛ لأنّ ذلك يجعلهم يندمجون معها، ويشجعهم على القراءة وحبّ المطالعة".
عزوف الأطفال عن القراءة
وفي محاولته تفسير عزوف الأطفال عن القراءة في غزة، يرى مدير عام المكتبات والمخطوطات بوزارة الثقافة، محمد الشريف، أنّ الأمر عائد إلى "عدم حث الآباء لأبنائهم منذ صغرهم على القراءة"، إضافة إلى "طغيان دور وسائل الإعلام الحديثة؛ كالتلفاز والمواقع الإلكترونية، والتي ساهمت بشكل كبير في إقصاء الكتاب الورقي، في ظل عدم اهتمام الأطفال في داخل بيوتهم بمتابعة الكتب والمجلات الثقافية، واقتصارهم على التعامل مع الوسائل التكنولوجية الحديثة" .
اقرأ أيضاً: أحلام غزة: عندما يصبح الحب والأمان والأمل حلماً
ويشير الشريف في حديثه لـ "حفريات" إلى أنّ "المناهج التعليمية ساهمت في عزوف الأطفال عن القراءة من خلال اعتمادها على التلقين، والذي يجعل الطفل يشعر بالملل وكراهية الكتاب والقراءة، وتجد أنّ معظم الأطفال يظنون أنّ مرحلة القراءة هي في أيام تلقيهم التعليم المدرسي فقط، وبعد الإجازة المدرسية لا تجد إقبالاً علي المكتبات، ليترسخ مفهوم العزوف عن القراءة في أذهانهم، حتى وصلنا إلى نتيجة أننا مجتمع لا نقرأ ولا تعتبر القراءة طقساً من طقوسنا اليومية".
دعم الأنشطة الثقافية
وينوّه الشريف إلى أنّ وزارة الثقافة عقدت عدة ندوات تثقيفية لحث الأطفال على القراءة بالتعاون مع عدة مؤسسات مجتمعية في قطاع غزة وبمشاركة عدد من الأطفال وذويهم، "لتوضيح أهمية القراءة باعتبارها حاجة ضرورية لا تقل أهمية عن الحاجة للطعام والشراب؛ فبالقراءة تحيا العقول ويستقيم الفكر ولا تقدم للأمم بدونها، وبدون القراءة يزداد خطر تشرذم المجتمع وتفككه، كون الشخصية خاوية العقل والمعرفة أكثر عرضة للانحراف والضياع من غيرها".
الشريف: أسست وزارة الثقافة مكتبة الطفل الفلسطيني خلال العام 2018 لتشجيع طلبة المدارس على ارتيادها
وتابع أنّ محور اهتمام الوزارة يتركز حول دعم الأنشطة الثقافية في المجتمع الفلسطيني، ومساندة المكتبات ودعمها، وخاصة التي تعرضت لأضرار جسيمة خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة صيف العام 2014، للمحافظة على أهمية الكتاب ومكانته العلمية والثقافية، بالرغم من التطور التكنولوجي السريع في وسائل الاتصال.
واستدرك الشريف أنّ وزارة الثقافة قامت بتأسيس مكتبة الطفل الفلسطيني خلال العام 2018؛ لتشجيع طلبة المدارس على ارتيادها، وتستهدف الأطفال من سن 13 حتى 16 عاماً، وهي مزودة بالقصص والكتب والبرامج المحوسبة، لتقوية عزائم الأطفال علي قراءة الكتب وحب المطالعة.
تدمير المكتبات
وفي هذا السياق، يحمّل الجمل الاحتلال الإسرائيلي المسؤولية أيضاً لمنعه استيراد الكتب والمجلات العلمية والثقافية من الخارج، و"تعمّد تجهيل أبناء الشعب الفلسطيني، وتدمير عدد كبير من مكتباته، كما حدث قبل أعوام عندما قامت الطائرات الإسرائيلية بقصف مكتبة الجامعة الإسلامية، ومكتبتي جامعة الأزهر والقدس المفتوحة، ومكتبة خالد الحسن العامة، والذي أدّى إلى تدميرهما بشكل كامل".
اقرأ أيضاً: "لن يسكتوا أصواتنا": صرخة مثقفي غزة ضد طائرات ترعبها القصائد
وبحسب الجمل؛ يتوجب على مناهج التربية والتعليم أن تتبع أساليب جديدة في مناهجها الدراسية الخاصة بالأطفال، وتجنب اعتمادها على أسلوب التلقين التقليدي، الذي ينفرّ ويبعد الأطفال عنها، وتوفير المزيد من المكتبات المتخصصة بالأطفال في قطاع غزة، وأن يتمّ تخصيص وقت للأطفال بداخل مدارسهم ومنازلهم للقراءة، وتحفيزهم على الاهتمام بها دورياً، وجعل المطالعة هدفاً مهمّاً في حياتهم.