منظمات المجتمع المدني وأحصنة طروادة

منظمات المجتمع المدني وأحصنة طروادة


15/10/2019

إذا كانت إشكالية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني في الوطن العربي، قد تراجع اللغط بخصوصها؛ لأسباب تتعلّق بالأمر الواقع؛ حيث لم يعد بمقدور المناوئين تغيير الحال حتى لو صحّت اتهاماتهم، كما لم يعد الأنصار معنيين بتبرير الحال بحكم ضيق أوقاتهم وتصاعد انشغالاتهم، فإنّ التساؤل عن مدى مصداقية هذه المنظمات على صعيد الأداء والتأثير المنشود، ما زال قائماً ومشروعاً.

اقرأ أيضاً: جنان الجابري: منظمات المجتمع المدني للإسلام السياسي قناع لخدمة الأيديولوجيا
وسوف أغامر بوضع العربة أمام الحصان لأخلص بسرعة إلى القول: إنّ ما أحدثته وتحدثه هذه المنظمات من خلخلة في منظومة القيم والأفكار على صعيد الأوساط الشبابية والجامعية والثقافية والنسائية، يتجاوز حجم أدائها البرامجي على أرض الواقع بكثير! ولعل هذه المفارقة في حد ذاتها تتطلّب تفسيراً متأنياً، يمكن أن يوضح الكيفية التي تتطاير وفقها بعض الطروحات النخبوية في قاعات مغلقة، لتبلغ وتمسّ الملايين من أفراد القطاعات الحيوية والرئيسة في المجتمعات العربية التي تشهد منذ عقدين، حالات متوالية من التمخضات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأيديولوجية. ولعل تركيز منظمات المجتمع المدني على استقطاب عدد محدود ونوعي من الناشطين الذين يتمتعون بالقدرة الفائقة على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن يمثل مفتاح التفسير المنشود.

إنّ ما أحدثته وتحدثه هذه المنظمات من خلخلة في منظومة القيم والأفكار يتجاوز حجم أدائها البرامجي على أرض الواقع

وأيًّا كان الأمر، فإنّ من الملاحظ أنّ هذه المنظمات التي طالما أصرّ نشطاؤها على وصف الأحزاب السياسية بـ(الدكاكين) التي لا تعدو كونها مكاتب شبه مهجورة ويافطات برّاقة تهدف لإعادة تأهيل بعض المتقاعدين السياسيين، قد تحوّل كثير منها إلى (دكاكين) أيضاً تكاد تخلو من الروّاد، رغم يافطاتها البرّاقة وأنشطتها الموسمية المتباعدة المثيرة للجدل. ومعظمها الآن، وفي أحسن الأحوال، تحوّل إلى مراكز أبحاث ودراسات ودور نشر ربحية، لا تدّخر وسعاً للمشاركة والمنافسة في معارض الكتب. على حساب حضورها في الشارع وفي ملتقيات الرأي العام، ما يفرغ من مضمونها المطلوب ودورها المأمول.

اقرأ أيضاً: الزبائنية في منظمات المجتمع المدني الشيعية في العراق
وإذا كانت الموضوعية التامة، تتطلّب الإقرار بأنّ معظم هذه المنظمات قد انطلقت ببرامج ذات وتيرة تتسم بالثبات، فإنّ من الضرورة بمكان الآن، التأشير على حقيقة انتقال هذه المنظمات من طور العمل وفق نظام (الجُمْلة) إلى طور العمل وفق نظام (المُفَرَّق)! ولسنا بحاجة إلى كدّ أذهاننا لاستنتاج حقيقة تراجع حجم التمويل الأجنبي؛ لأسباب يقف على رأسها اقتناع الجهات المموّلة بأنّ معظم هذه المنظمات قد اعتنت دائماً بتوفير (الشكل) الذي يسوّغ الحصول على الدعم المالي، لكنها لم تعتن غالباً بتوفير (المضمون) الذي يمثّل غاية التمويل؛ فلم تفاجأ، لذلك، باكتشاف ما يشبه نظام (المقاولة) الذي يقوم على التعاقد الموسمي مع بعض (المورّدين) للروّاد المتحمسين لالتقاط الصور خلف الميكروفونات، ومطالعة أقوالهم في وسائل الإعلام، وتناول وجباتهم في ردهات الفنادق الفخمة، فضلاً عن ارتداء البزّات الأنيقة!\

اقرأ أيضاً: مقاومة الإرهاب بإحياء المجتمع المدني
وقد تزامن هذا الاكتشاف، مع تصاعد تنبه مراكز صنع القرار في الحكومات العربية لتأثير منظمات المجتمع المدني المقلق، فبادرت من جانبها لإطلاق منظّماتها التي يصعب تجاهل تأثيرها من جهة، كما تزامن هذا الاكتشاف أيضاً مع انفضاض كثير من نشطاء منظمات المجتمع المدني عنها؛ لأسباب يلوح في مقدّمتها اقتناعهم بأنّها ليست أكثر من مشاريع تعمل وتُدار لصالح بعض المثقفين والإعلاميين والسياسيين اللّامعين الذين يعرفون كيف ومن أين تؤكل الكتف!
وبوجه عام، فإنّ توقيت اندفاع هذه المنظمات إلى واجهة الأحداث الساخنة في الوطن العربي، وتوقيت اختفائها من مسرح الأحداث وكأنها لم تكن، ألقى وما زال يلقي بكثير من ظلال الشك والتساؤل عن حقيقة الأدوار التي تضطلع بها، إلى درجة أنّ خصومها لا يترددون في القطع بأنها ليست أكثر من أحصنة خشبية مجوّفة تخفي في باطنها العديد من الأجندات التفكيكية، ويدلّلون على ذلك بانبثاقها المفاجئ على سطح الربيع العربي الذي آل إلى ما آل إليه من خواتيم محزنة في ليبيا واليمن وسوريا، ثم اختفائها واختفاء نجومها على نحو مثير للاستغراب.

توقيت اندفاع هذه المنظمات لواجهة الأحداث في الوطن العربي وتوقيت اختفائها ما زال يلقي بالشك حول الأدوار التي تضطلع بها

ومع أنّ خصوم منظمات المجتمع المدني، لا يمارون في حقيقة أنها اضطلعت إلى حد بعيد بإبراز قضيتي الشباب والمرأة في المجتمع العربي، إلا أنّهم يأخذون عليها في المقابل، إسهامها في إكساب القضيتين أبعاداً راديكالية، ذهبت بكثير من الشباب والنساء في اتجاه التمرّد على المجتمع برمّته، بدلاً من العمل على الاندماج فيه والتغيير الهادئ المدروس من خلاله. بل إن بعض هؤلاء الخصوم لا يتورّع عن تحميل هذه المنظمات وزر تصاعد وتيرة العدمية والتشاؤمية والميل إلى العنف الفكري لدى الشباب، جرّاء تصاعد إحساسهم بأنّهم كتلة حرجة مهملة في أوطانهم، ما دفع ويدفع كثيراً منهم إلى الهجرة لأقطار الغرب، دون أسف على أوطانهم التي تمور بالبطالة والعنف والفساد. والأنكى من ذلك، اتجاه كثير منهم إلى ما يشبه القيام بتصفية حساب مع هوياتهم الوطنية والقومية والتاريخية والحضارية، فتراهم ينقضّون دون هوادة على كل الثوابت، وكأنّهم بذلك يوجهون لكمات قاسية لأيام فقرهم ومعاناتهم وإحباطهم وتهميشهم ومحاصرة أحلامهم، التي ترعاها الآن دوائر الهجرة في أمريكا وألمانيا وإنجلترا واستراليا والسويد إلخ إلخ إلخ!!!

الصفحة الرئيسية