ملائكة وشياطين على حدود أوروبا

ملائكة وشياطين على حدود أوروبا


05/03/2020

عدنان نعوف

رغم قسوته، إلا أن التعامل اليوناني مع موجة اللجوء على الأرض لن يَكون أسوأ ما حَدَث وسيَحدث! فعَلى صعيد صناعة الصورة الذهنية جَرتْ شَيطَنة اللاجئين بما سيمنح تيارات اليمين المتطرف فرصة للحياة والتمدد في هذا البلد، وتالياً سيؤسّس لأشكال عنف لا يمكن التنبؤ بمداها مستقبلاً.
وبدلاً من الفصل بين الأزمة الإنسانية وأزمة العلاقات مع تركيا، تمّ دمجهما وإضافة بُعد اجتماعي وقومي، لتكون النتيجة "معركة واحدة" تواجه فيها اليونان ما رأتهُ "عدوّاً" في هيئة "إنسان يبحث عن الأمان".

وبمتابعة للإعلام اليوناني، يتضح كيف أن الحديث عن "عملية ابتزاز من قبل الأتراك" لم يواكبه تركيز كبير على الخطاب التركي بالمعنى السياسي بقدر الانشغال بـ "تركيبة المهاجرين" وتحويلهم في نظر الشعب اليوناني إلى "مجرمين متنكّرين"!

هكذا تمّ استغلال مزيج "الهَلَع والانتماء للوطن" لطَرح محتوى تَغيبُ فيه الدقّة والتفاصيل (زمان ومكان وملابسات)، وذلك لِصالح تحريك المشاعر الجماعية. وعليه فقد دخل اليونانيون المنافسة - مع بقية المتابعين وناشري المحتوى - على استخدام فيديوهات وصُوَر "غير موثوقة" بهدف تأكيد مقاربة ما!

وبطريقة تذكر بأسلوب تعاطي الأنظمة مع التظاهرات الشعبية من خلال الطعن "بأخلاقيتها" والقول بوجود "مندسّين" فيها، تكرّرت في الإعلام اليوناني أخبار تُلغي – وإن بشكل غير مباشر - "حالة اللجوء الإنساني" عن المتدفقين إلى الحدود وتنفي أهليتهم عبر محاولة تفنيد "مكونات هذا الحشد".

وكان من بين أبرز المُواد المستخدمة في هذا السياق شهاداتٌ على ألسُن من قيل إنهم "لاجئون" تتحدث عن أنّ "القادمين إلى الحدود أُطلِقَ سراحهم من السجون التركية وتمّ توجيههم كي يُهاجروا".

وفضلاً عن هؤلاء "البعض" تحدثت الصُحف عن البعض الآخر المتمثل في "المهاجرين المسلحين بمواد كيميائية". وانتشرت فيدوهات تتناول رمي "مقذوات" مختلفة قادمة من الطرف الآخر، من دون أي استقصاء أو إيضاحات أكثر.

ليس هذا وحسب، فقد لعبت مقالات وتحليلات يونانية على وتر الغضب والخوف حين تطرقت إلى خصائص أخرى لموجة اللاجئين الجديدة، كالتشديد على فكرة "قلة عدد السوريين بينهم" (القادمين من بلد حرب)، وتداول خرائط ورسومات توضيحية تشير إلى أنهم لم يأتوا من إدلب (حيث تدور المعارك حالياً)، وصولاً إلى وَصمهم بكونهم "أتراك" نظراً لأنِ "الكثير منهم يتحدثون التركية بطَلاقة" على ذمة أحد المراسلين!.    

ولعل من المفيد هنا أن نشير إلى وجود تيار يضمّ مواطنين يونانيين عاديين أو ذوي خلفيات سياسية (بشكل خاص المناهضين للحكومة اليمينية الحالية) وهؤلاء لا يكفّون عن توجيه النقد لإعلام بلادهم، محذّرين من خطورة ما يقوم به من "نشر الكراهية" و"الخوف من الآخر".
لكن إدراك طبيعة "اللعبة" قد لا يكون كافياً، ذلك أن المناخ العام يوحي لعموم اليونانيين بأنهم يخوضون "حرباً" ضد "الغزاة" (وهو تعبير بات يتم استخدامه من دون تحفظ في إشارة للاجئين). ومهما استمرت أنسَنة هؤلاء المهاجرين في نواحي معينة فإن الموقف السلبي منهم سوف ينمو ويتغوّل عاجلاً أم آجلاً، في ظل تَقابُل "النقائض" والتضاد المشهدي الحاصل. ففي مخيلة شعب متديّن مسيحياً (تديُن اجتماعي تقليدي مسالم)  فإن "الهجمة القادمة من بلاد الهلال الإسلامي تقتضي وقفة استثنائية من الجميع"، فكيف إذا حظيَت هذه الوقفة بمُباركة من قبل حَمَلة الصلبان؟
هذا ما حدث فعلاً، فوسط زحمة الصور التي تعبّر عن هبّة شعبية لجميع أطياف المجتمع اليوناني وتحديداً في المناطق الحدودية (السكان المحليون، الصيادون، الفلاحون) كان مثيراً للانتباه حضور أربعة أساقفة إلى هذه المناطق كي يعبّروا عن دعمهم لـ"جيشنا وشرطتنا ورجال الإطفاء ورؤساء البلديات وللناس أيضاً نتيجة الجهد الذي يبذلونه هذه الأيام من أجل حماية حدود بلدنا"، بحسب تصريح نقلته صحيفة "بروتوثيما" عن أحد هؤلاء الأساقفة.

ومما يجعل الأمور مرشّحة لكي تأخذ منحى "عقائدي" أكثر، وقوع حوادث من السهل تصويرها على أنها ذات بُعد ديني أو طائفي، بعيداً عن حقائقها وخلفياتها الفعلية. ومثال ذلك التخريب الذي لحقَ مؤخراً بكنيسة في جزيرة ليسبوس، ما أثار حفيظة السكان الذين وجّهوا أصابع الاتهام للاجئين.
وبغض النظر عَمّن قاموا بهذا العمل، فإن الأخطر هو انتزاع هكذا خبر من سياقه أولاً، وإمكانية تعميمه على جميع اللاجئين ثانياً. فهذه الجزيرة بالتحديد شهدت في الأسابيع الماضية حالات شغب غير معتادة كنموذج عن الغليان الذي تعيشه الجزر اليونانية منذ فترة، إثر احتجاج سكانها على خطط الحكومة لإقامة مخيمات لجوء مغلقة جديدة فيها، وهو ما أدى إلى صدامات مع الشرطة (التي وللمفارقة استخدمت الغازات المسيلة للدموع لتفريق المحتجين مثلما فعلت مع المهاجرين!).

وفي مؤشر جديد على تفاقم الوضع هناك غادرَ العديد من العاملين في المنظمات غير الحكومية (معظمهم من الأجانب) جزيرة ليسفوس بعد تعرّضهم لهجمات من السكان الغاضبين نهاية الشهر الماضي.

كلّ ذلك لم يكن سوى جزء من انعكاسات الإدارة الخاطئة لملف اللجوء من قبل حكومة كيرياكوس ميتسوتاكيس (من دون نسيان الضغط المتزايد الذي حصل جرّاء تزايد عدد اللاجئين، ما أعاق عملية معالجة ملفاتهم ونقلهم إلى البر اليوناني).

وتعرضت هذه الحكومة لانتقادات عديدة منذ استلامها مهامها قبل أشهر، كونها لم تستطع حل مشكلة "الازدحام" على الجُزر، وتبسيط إجراءات اللجوء. وبدلاً من ذلك "سَعَت لإرضاء جمهورها الحزبي (اليميني) على حساب مقدمي طلبات اللجوء" وفقاً لصحيفة آفجي التي ذهبت إلى القول بأن "سياسات ميتسوتاكيس تمهّد لانفجار اجتماعي وتزرع بذور حرب أهلية".

عن "المدن"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية