مفهوم الزواج من التصور الديني إلى التصور الواقعي

مفهوم الزواج من التصور الديني إلى التصور الواقعي

مفهوم الزواج من التصور الديني إلى التصور الواقعي


22/01/2024

عندما نتكلم عن عملية رصد التاريخ الاجتماعي لصيرورة بعض المفاهيم التي تعكس دينامية سوسيولوجية، فإنّنا نخص بذلك عملية ترصّد لمختلف التغيرات التي يعبّر عنها المفهوم، عبر التجارب الزمنية المؤسسة لجماعة ما، أي تتبع مختلف المسارات التي اتبعها المفهوم عبر التجارب التي خاضتها الممارسات الاجتماعية لمجتمع بعينه، ممّا يجعل هذه المفاهيم تدخل في إطار لعبة مرتبطة بالأساس بالطبيعة اللغوية المشكّلة لها، حيث يخضع المفهوم للتحولات وإعادة الصياغة أو التعريف، أو حتى خلق مفاهيم أخرى وفق السياق الوظيفي الذي يناسب الراهن الاجتماعي والسياسي لهذه الجماعة. فمثلاً في المغرب أثير مؤخراً النقاش بشكل حاد، بوساطة الحزب الإسلامي (حزب العدالة والتنمية)، حول خلفيات ودواعي ومبررات التعديلات المرتقبة التي ستشمل مجمل توجهات "مدونة الأسرة" المغربية، ففي الحقيقة هذا النقاش ارتبط بالخطاب الملكي الذي أعلن خلال الأشهر القليلة الماضية عن حزمة من التغييرات المرتقبة، التي ستخص "مدونة الأسرة"، فالجدال ارتكز حول السقف الممكن لهذه التغييرات، وهو الجدال الذي أعاد أحزاباً ذات توجه ديني أو علماني إلى الواجهة، متسائلين: هل سوف تتجاوز هذه التغييرات المحظور الثيولوجي، وتواكب الركب الحداثي الغربي بشكل كامل؟ أم ستتم مراعاة السياق الوطني في بعده الديني والتاريخي؟ 

إنّ مفهوم الزواج يعبّر عن صيرورة تاريخية، جعلته يرسم مساراً لمحتواه وفق السياق العام للمجتمع العربي، ما دام أنّ كل جماعة تتوفر على حقل تجربة معيشة، انطلاقاً منها تتصرف وتتأمل هويتها

 

يمكن القول إنّ الموضوع مثّل للحزب الإسلامي فرصة جديدة لرفع قبعة الطهرانية الأخلاقية التي تحاول تجنيب المجتمع الإسلامي السقوط الأخلاقي الغربي، وهو الأمر الذي نبّه إليه في عدة خرجات إعلامية الأمين العام للحزب عبد الإله بنكيران، مؤكداً أنّ النموذج الغربي يعيش على وقع راهن لا أخلاقي، وتفكك أسري كبير؛ ممّا يسلب عنه القيمة المعيارية التي نضعه فيها، الأمر الذي يستوجب بالمقابل التمسك بالأصل الديني في عملية التشريع الأسري، في حين يتحجج التيار العلماني بضرورة الاستجابة لمتطلبات الصيرورة التحديثية، وأنّ بعض النصوص التشريعية لم تعد تواكب سياق العصر، ممّا يتطلب تجاوزها نحو أفق كوني أرحب. وحتى لا نصدر حكماً قيمياً مسبقاً على التوجهين، سوف نستعين بمبحث التاريخ الاجتماعي لمفهوم الزواج، فما هي ممكنات هذه المرجعية السوسيوتاريخية؟

إنّ مفهوم الزواج يعبّر عن صيرورة تاريخية، جعلته يرسم مساراً لمحتواه وفق السياق العام للمجتمع العربي، ما دام أنّ كل جماعة تتوفر على حقل تجربة معيشة، انطلاقاً منها تتصرف وتتأمل هويتها، هذا التصرف مرتبط بالأساس بالوظيفة أو الدلالة التي يعكسها المفهوم في ظل الحاضر، باعتبار هذا الحاضر هو الحقل التجريبي الذي يبنى على تأثير الفعل الاجتماعي في خلق ممكنات التغيير، لأنّ الهوية السوسيوتاريخية لمعظم الدول العربية ليست هوية ثابتة وقارّة، بل هي هوية متحركة تعكس حركية ودينامية تخص المجتمع ككل وتعبّر عنه.

لنتناول إذن مفهوم الزواج وفق هذا الإطار، فالممارسة الواقعية مثلاً في المغرب هي التي استوجبت التخلي عن المدونة السابقة، والاستعجال بإدخال تغييرات تعيد صياغتها من جديد، هذه الممارسة الواقعية لا تعكس بالضرورة المطلب الديني أو المأمول الاجتماعي، بل تعكس واقع بوصلة الفعل الاجتماعي الخاص بحقل تجربتنا الواقعية، بالتالي فإنّ التجارب التي تعكس واقع الممارسة الاجتماعية هي التي صارت تلح بضرورة التغيير بشكل متسارع عمّا كان سابقاً، لأنّ تفاوت التجارب الاجتماعية كانت تسري سابقاً بشكل بطيء شيئاً ما، على خلاف ما نعيشه اليوم من تسارع زمني يلح بضرورة المواكبة. 

بالعودة إلى المسار التاريخي، نجد أنّ مفهوم الزواج خضع فعلياً لتغير محتواه الدلالي، حيث تمّ منح المفهوم عبر حقب زمنية مختلفة أسساً تعاقدية جديدة، وهو تغير لم يُلغِ في حقيقة الأمر ذاك الاستعداد الديني الذي يحمله المفهوم، بل ظلّ الاستعداد متضمناً في الأسس الجديدة، لكن بحضور أقلّ فاعلية، حيث منح المفهوم معنى يتسم بالاستقلالية، وكذا الفردية للشركاء، الأمر الذي لم يكن سابقاً.

القانون المدني المغربي، وفي جلّ الدول العربية، الذي يصوغ مؤسسة الزواج، لم يُلغِ بكل تأكيد الأحكام الثيولوجية السابقة بشكل كامل، بل عمل على التقليل من تأثيرها بما يتوافق والفعل الاجتماعي

 

ففي منتصف القرن الـ (20) انكشف مفهوم الزواج بشكل مختلف، إذ التبرير الثيولوجي انزاح بشكل تدريجي، تاركاً المكان للتعليل الذاتي الأنثروبولوجي، والانزياح هنا لا يعني التغييب التام، بل يعني التهميش عن ساحة أو منطقة التأثير القانوني، فالأشياء قد تغيرت تحت تأثير الحداثة الغربية، حيث القانون المدني أعطى للزواج أساساً تعاقدياً جديداً، فلم يعد هدف الزواج الإنجاب من أجل استمرار النسل البشري المرفوق بتواجد الشروط الاقتصادية الكفيلة بتحقيق ذلك، ولا متعلقاً بالبعد الديني، بل أصبح متعلقاً بإرادة الذوات، لقد انفصلت بموجبه مؤسسة الزواج عن إطارها القانوني؛ لتصبح مجالاً مفتوحاً لتحقيق البعد الأخلاقي للذات ككائنين يجمعهما الحب المتبادل لذواتهما، وليس لتحقيق التبرير الثيولوجي، أو الاجتماعي، أو هما معاً. 

فالقانون المدني المغربي، وعلى ما أعتقد في جلّ الدول العربية، الذي يصوغ مؤسسة الزواج، لم يُلغِ بكل تأكيد الأحكام الثيولوجية السابقة بشكل كامل، بل عمل على التقليل من تأثيرها بما يتوافق والفعل الاجتماعي، فحتماً مفهوم الزواج اكتسب تغييراً في المعنى نحو حرية واستقلالية ومسؤولية وفردانية أكبر للشركاء، ممّا فرض الحديث عن وظيفة تشاركية، ما دام أنّ التجربة التي تخص حاضرنا تعلن عن نشاط وفعالية تخص الشريكين على حد سواء.

ومن هنا، فإنّ التخلي عن بعض الصفات الثيولوجية التي كانت تشرعن مفهوم الزواج سابقاً، لا تعني التملص أو الابتعاد عن البراديم الديني، أو اتخاد موقع معاكس، أو حتى عدائي لهذا البراديم، كما لا يعني أيضاً تبعية سلبية للغرب، بقدر ما يعني الاستجابة للضرورة الواقعية التي صار يعبّر عنها محتوى المفهوم، لأنّ عدم الاستجابة يهدد بخلق فجوة بين واقع الممارسة الاجتماعية والنصوص القانونية، ممّا ينذر بلا جدواها.

مواضيع ذات صلة:

الزواج والطلاق في الدول العربية.. أرقام تدق ناقوس الخطر

مصر: القبض على مأذون مزيف روج إشاعات رسوم الزواج... ما عمله الحقيقي؟




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية