مفاتيح فنية لمواجهة تزييف الوعي في المنطقة العربية

مفاتيح فنية لمواجهة تزييف الوعي في المنطقة العربية

مفاتيح فنية لمواجهة تزييف الوعي في المنطقة العربية


10/11/2022

تروم هذه المقالة إثارة انتباه القارئ إلى أهمية المجال الفني في التصدي لآثار تزييف الوعي الذي تعرضت له شعوب المنطقة خلال عقود مضت، ولهذا جاء في الأثر أنه "يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر"، والنهر هنا، إحالة على الفن، أما البحر، فإحالة على ما ينشره أهل الفكر والدين وحقول أخرى، وهذا إذا صحّ الحديث عن أنّ الفن هنا، ثانوي الأهمية مقارنة مع قضايا الفكر والدين.

هذا عن الفن، أما بخصوص تزييف الوعي؛ فالمقصود به عدة أنماط منه، تنهل من عدة مرجعيات، مادية وإسلاموية، ولأن الفن موزع على سبعة مجالات، على الأقل، فسوف نتوقف عند أحدها، ويُلقب بـ"الفن السابع"، إحالة على الأعمال السينمائية.

سوف نترك جانباً واقع وأداء السينما في المنطقة العربية، وذلك لعدة اعتبارات، أقلها أنّ هذا المجال له أهله من نقاد ومتتبعين، وهم أدرى بالانخراط في التقييم والتقويم، لذلك ارتأينا أن نعرج على المجال الذي يؤثر بشكل أو بآخر على مخيال شعوب العالم بأسره؛ أي المجال السينمائي في الساحة الغربية، والنموذج مع مؤسسة هوليود، ونتوقف عند عملين سينمائيين؛ لأنه يصعب حصر الأفلام المعنية بما نقصده في عنوان المقالة أعلاه.

من تبعات مشاهدة فيلم "بين النجوم" أنه يدفع المتلقي للتفكير مجدداً في ثلاثية الدين والعلم والفلسفة: الفلسفة تطرح أسئلة؛ الدين يمدّك بالأجوبة خاصة الأجوبة المرتبطة سؤال المعنى؛ العلم كأنه يتأرجح بينهما

ــ يتعلق النموذج الأول بفيلم يحمل عنوان "بابل" [2006] من إخراج مبدع إسباني من أصل مكسيكي، إلخاندرو غونزاليس إيناريتو، وبطولة الممثل الأمريكي براد بيت والممثلة الأسترالية كيث بلانشت، ويتطرق إلى ثلاث وقائع موزعة على المغرب واليابان والحدود الأمريكية ــ المكسيكية، وتبدأ الحكاية مع تعرُّض سائحة أمريكية في إحدى قرى الهامش بالمغرب، إلى إصابة سببها طلقة نارية طائشة من بندقية؛ بسبب تفاعل غير مقصود لطفل مغربي، أخذ البندقية من الأب، الذي حصل عليها هدية صداقة من سائح ياباني، اتضح أنه يعاني مع ابنته المريضة نفسياً.

براد بيت هو زوج السائحة، وسوف يتفرغ كلياً لتبعات إصابة زوجته، مع تدبير تبعات ترك الأبناء عند مربية مكسيكية؛ لأن هذه الأخيرة أوقفتها سلطات الحدود كونها لا تملك أوراق إقامة، رغم أنّها تقيم في الديار الأمريكية منذ 16 عاماً، لكنها أخطأت من حيث لا تدري عندما عبرت الحدود الأمريكية ــ المكسيكية من أجل إحياء صلة الرحم مع العائلة عبر بوابة المشاركة في حفل زفاف، رفقة الأطفال.

أخذاً بعين الاعتبار جنسية المشاركين في الفيلم، إنتاجاً وأداءً، وأماكن وقوع أحداثه، تتضح معالم المشترك الإنساني في بعض رسائله، ومع أنّ السائد في مشاهدة الأفلام، أن تكون فرصة للاستراحة، بما فيها الراحة البصرية، وفرصة لتغذية قيم الجمال، وأحياناً فرصة للابتعاد عن الهم الفكري والنقدي وغيره، ولكنّ الأمر مختلف مع الفيلم؛ لأنه غالباً ما سيتسبب في إثارة مجموعة أسئلة عند المشاهدين، ومنها الأسئلة المرتبطة بقضايا العولمة، التباين بين أداء فئة صالحة من المجتمع وأداء الحكومة، الهجرة السرية، الكرم والضيافة، الأزمات الدبلوماسية المجانية، التضخيم من وقائع تافهة؛ بسبب هواجس السلطة والهيمنة، إعلام الرداءة الذي لديه قدرة كبيرة على التزييف والتضخيم والتلاعب بالرأي العام...إلخ، هذه بعض القضايا التي كانت حاضرة في الفيلم، وبعضها حاضر في أعمال المخرج في أعمال أخرى.

من الجوائز الكثيرة التي حصدها الفيلم، جوائز وازنة حول الموسيقى التصويرية، والملاحظ أنها انتصرت بدورها للمشترك الإنساني؛ حيث نجد الموسيقى العربية، الموسيقى الإسبانية، والموسيقى اليابانية، وأيضاً، موسيقى "التكنو" الخاصة ببعض العلب الليلية. وفي الشق الخاص بالموسيقى العربية، كان الحضور متميزاً إما مع آلة العود أو آلة القانون.

في الشق الخاص بالتضخيم من قضايا لا تستحق ذلك، ولأن الفيلم صدر العام 2006؛ أي في عز الاعتداءات على السائحين في مصر، فإنّ أحد مشاهد الفيلم تضمن استفساراً لأحد السائحين من أنْ تتكرر أحداث مصر، خاصة أنّ الأمر يتعلق بقرية مغربية نائية، ولكن جاء الرد في الفيلم مفاده أنّ الأمر يتعلق بالمغرب وبالتالي هذه أمور مستبعدة، بل إنّ تفاعل بعض الأمريكيين في واشنطن مع واقعة الرصاصة الطائشة وصل إلى درجة التفكير في إمكانية إدراجه ضمن عملية إرهابية، لولا أنّ شهادة براد بيت وغيره من السائحين، أطفأت هذا الاحتمال.

ــ نأتي للنموذج الثاني، ويهم فيلم "بين النجوم"، وهو فيلم خيال علمي للمخرج البريطاني ــ الأمريكي كريستوفر نولان، من بطولة ماتيو ماكونهي وآن هاثاواي، وتدور فكرته الأساسية على سفر رواد فضاء عبر ثقب دودي في محاولة للبحث عن كوكب آخر صالح للحياة غير الأرض.

ولأهمية هذا العمل السينمائي النوعي، نشرت مجلة "التايم" الأمريكية غلافاً حوله، ومن تبعات العمل أيضاً، أنّ بعض الروابط التي تتحدث عنه في موقع "يوتيوب"، حظيت بمتابعات قياسية من حيث عدد المشاهدات؛ لأن الفيلم يسافر بالمشاهد في ما يُشبه تطبيقات بعض النظريات العلمية، إضافة إلى حضور المشترك الإنساني، معضلة حدود العقل الإنساني، وقضايا أخرى، جديرة بالتأمل.

بعض الأعمال السينمائية تفتح أبواباً من التفكير والتأمل لدى المشاهدين، ومنهم أتباع تزييف الوعي أو الذين تأثروا بهذا التزييف، وهم لا علاقة لهم به أساساً، وهذا أمر ينطبق على نسبة معينة من شعوب المنطقة

في باب المشترك الإنساني مثلاً، وهذا باب غائب كلياً عند أتباع تزييف الوعي، نلاحظ أنّه كلما كان العمل السينمائي مدافعاً عن المشترك الإنساني، حظي بإعجاب أكبر من طرف المتلقي العالمي، ومن الصعب إحصاء عدد النماذج، نذكر منها فيلم "الرقص مع الذئاب"، من إخراج وبطولة كيفن كوسنر (1990)، "قلب شجاع"، من إخراج وبطولة ميل جيبسون (1994)، وفيلم "جوكر"، من إخراج تود فليبس وبطولة خواكيم فينيكس (2019)، ومنها بالطبع فيلم "بين النجوم" الصادر العام 2014.

بالعودة إلى موضوع مواجهة تزييف الوعي، يتطرق الفيلم لمجموعة من الفرضيات العلمية التي اشتغلت عليها العديد من الأسماء، منها "نسبية إينشتاين" الشهيرة، أو "النجوم النيوترونية"، وظاهرة الثقوب السوداء ودورانها في الفضاء، وتمدد الزمن، بما يُفيد أنّ غير المطلع على هذه النظريات، سيجد صعوبات كبيرة في التفاعل مع أحداث الفيلم، وهنا تتضح العدة النظرية للمخرج، كريستوفر نولان، المتأثر بالأعمال الفلسفية، على غرار مخرجين آخرين، مع التذكير هنا بأنّ المخرج درس النظرية النسبية في معهد كاليفورنيا التقني، قبل الشروع في الإخراج.

من تبعات مشاهدة الفيلم أنه يدفع المتلقي للتفكير مجدداً في ثلاثية الدين والعلم والفلسفة: الفلسفة تطرح أسئلة؛ الدين يمدّك بالأجوبة خاصة الأجوبة المرتبطة سؤال المعنى؛ العلم كأنه يتأرجح بينهما.

على سبيل المثال، قصة سيدنا إبراهيم، عليه السلام، أثناء حيرته في تأمل القمر والشمس، قبل الوصول إلى مرتبة اليقين، تصب في هذا الاتجاه؛ وفيلم "بين النجوم" يصب في هذا الاتجاه كذلك، ولكن الربط بينه وبين الإشارة الخاصة بثلاثية الدين والعلم والفلسفة، يتطلب مشاهدته أكثر من مرة، وتأمل بعض المشاهد الحوارية من جهة، أو بعض الأحداث المفصلية، مثل المشهد المؤثر الذي يتصفح فيه بطل الفيلم ماثيو ماكونهي، الرسائل المرئية التي توصل بها، والتي عوض أن تكون مدتها بضع ساعات، أصبحت عشرين عاماً ونيّفاً.

أما حضور الفلسفة في الفيلم، فمردّه العديد من الأسئلة المحيرة التي جاءت فيه، خاصة أنّ المخرج متأثر برموز فلسفية؛ وبالنسبة إلى تأثير الدين، على الأقل في ما يتعلق بمحور طنجة ــ جاكارتا؛ أي المجال الثقافي الإسلامي، فقد جاء عبر بوابة الحب الصوفي، من قبيل الحب عند ابن عربي، ولو إنه لا حديث أساساً عن ابن عربي في الفيلم، لهذا يمكن للمتلقي هنا في المنطقة العربية أن يخلص إلى أنّ التصوف الإسلامي كان حاضراً بشكل أو بآخر في الفيلم، دون أي إحالة على أي مرجع هنا، والمقصود أنّ ثنائية الخيال والحب، كانت حاضرة في لقطة مفصلية، جسدتها إحدى بطلات الفيلم، آن هاثاواي، عندما كان عليها أن تختار قراراً مصيراً يهم مستقبل المركبة الفضائية، وكانت مخيرة بين باب المنطق والعلم، أو الحدس والحب، فاختارت الحب، واتضح أنّ الخيار كان صائباً، وهذا المشهد إشكالي وحده، يفتح أبواباً في النقاش.

أما تأثير العلم، فهذا هو الموضوع الذي كتب عنه أكثر في أغلب المقالات التي حُررت حول الموضوع، إلى درجة وجود العديد من الأشرطة على موقع "يوتيوب"، بالعديد من اللغات، اشتغلت على التعريف بقصة الفيلم ورسائله وما يطرحه من أسئلة واستفسارات، بما فيها أشرطة باللغة العربية، عن متتبعين ونقاد من مصر والسعودية مثلاً. أما موضوع تعامل الفيلم مع "النظرية النسبية"، ولأنها بالغة التعقيد حتى عند المشتغلين في الحقل العلمي، فقد تضمن الفيلم تطبيقاً لها، كانت له نتائج كارثية على بعض العلاقات الإنسانية، تم التضحية بها من أجل الدفاع عن الجنس البشري، وفي معرض تبسيط هذه النظرية، لغة وليس بالمعادلات الرياضية، هناك قول لابن عربي جاء فيه: "الزمان مكان سائل، والمكان زمان متجمد"، ومن شاهد الفيلم، على الأرجح سوف يستحضر هذا القول.

هذا غيض من فيض بعض الأعمال السينمائية التي تفتح أبواباً من التفكير والتأمل لدى المشاهدين، ومنهم أتباع تزييف الوعي أو الذين تأثروا بهذا التزييف، وهم لا علاقة لهم به أساساً، وهذا أمر ينطبق على نسبة معينة من شعوب المنطقة.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية