معركة إفقار الشعوب: هشاشة المجتمعات وتدهور الاقتصاد العام

معركة إفقار الشعوب: هشاشة المجتمعات وتدهور الاقتصاد العام
الاقتصاد والسياسة

معركة إفقار الشعوب: هشاشة المجتمعات وتدهور الاقتصاد العام


23/09/2019

"أسير الاستبداد يعيش خاملاً حائراً، لا يدري كيف يُميت ساعاته وأوقاته، كأنّه حريص على بلوغ أجله؛ ليستتر تحت التراب"؛ هذه العبارة لعبد الرحمن الكواكبي، أحد روّاد النهضة العربية في القرن التاسع عشر، كانت، وما تزال، تشكّل مفتاحاً للصراع في المجتمعات العربية والعالمية بين الاستبداد والديمقراطية، في معركة السعي نحو حياةٍ أفضل للإنسان.

اقرأ أيضاً: المناخ يتسبب بفصل عنصري بين الفقراء والأغنياء.. كيف ذلك؟
إلّا أنّ القرن العشرين، شهد سقوط العديد من الدكتاتوريات الاستبدادية حول العالم، وصعدت الديمقراطية في المقابل، لتؤسس لما رآه كثيرون، ومنهم المفكر فرانسيس فوكوياما؛ نهاية التاريخ، وانحسار الأيديولوجيا والحكم التسلطي، غير أنّ معضلةً جديدةً ظهرت، تتمثل في الاستبداد الاقتصادي، والهيمنة المالية التي أخذت تؤثر في قيم الديمقراطية والحرية والحياة الكريمة للبشر، فما هو الاستبداد الاقتصادي الجديد؟ وكيف يسهم في تدمير طموحات الشعوب؟
المال سيّد المستبدين
يعرَّف الاستبداد باختصار على أنّه: "الطغيان والحكم غير القابل للاعتراض"، وفق معجم "لسان العرب"، ويشير التعريف بوضوح إلى الاستبداد السياسي، لكنّ رؤية القرن الواحد والعشرين للاستبداد، تشير إلى أنّ الاستبداد الاقتصادي بات الأكثر حضوراً في العالم، بعد أن أصبح يتحكم في المصائر السياسية بصورةٍ عميقةٍ وواضحة أكثر من ذي قبل.

بات الاستبداد الاقتصادي  الأكثر حضوراً في العالم بعد أن أصبح يتحكم في المصائر السياسية بصورة عميقة وواضحة

وفي مقابلة حديثة معه، أجريت نهاية شهر آب (أغسطس) الماضي، يرى المفكر نعوم تشومسكي؛ أنّ "قطع سبل العيش الكريم للبشر يسهم مباشرةً في تقدم الاستبداد وتراجع الديمقراطية"، ويضيف تشومسكي: "قوى لا ديمقراطية، كالبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي والمفوضية الأوروبية، وغيرها، تدعم السلطة المركزية لرأس المال، وتتراجع عن أبسط حاجيات الناس".
ويركز تشومسكي، في حواره، على أوروبا وأمريكا، لكنّه يتحدث كذلك عن أنّ "مشروع ريغان/ تاتشر لشدّ عضد سلطة المال اللامحدودة تمدّد في العالم، ليعكس أزمةً ديمقراطية، تمثلت لاحقاً في تمدّد ثروة وقوة القطاع الخاص، وأدّت إلى هشاشة المجتمعات وتدهور الاقتصاد العام".

اقرأ أيضاً: هل يؤثر الفقر على قدرة الطلبة على التعلم؟
ويسوق تشومسكي أمثلة عن دولٍ عديدة، مثل تركيا وروسيا والمجر، وحتى أمريكا وبعض دول العالم العربي، تأثّرت بدورها بتمدّد سلطة المال، التي قادت إلى "تخفيض الإنفاق الحكومي على القطاع العام، بدل فرض زيادات ضريبية على الأغنياء، وخفض الخدمات والإعانات الاجتماعية، وخفض الميزانية المخصصة للتغطية الصحية، وإضعاف سلطة المساومة الجماعية على الحقوق العامة، وبشكل عام؛ خلق مجتمع يسوده الفقر واللامساواة".

ملامح الفقر تتضح في أنحاء مختلفة من العالم والمستبد واحد

ومن أجل توضيح رؤية تشومسكي للاستبداد الاقتصادي الجديد، كما وصفه، تحدّث الباحث المصري في الاقتصاد السياسي، مجدي عبد الهادي، لـ "حفريات"، موضحاً: "يوجد تزايد في سلطة رأس المال النقدي من خلال الانفتاح على الأسواق دون تقنين، والتحرك للشركات عابرة القارات بفعل العولمة، لكنّ المشكلة لا تقع هنا فقط، بل تكمن في التركيز على الاحتكار بالذات، والذي يعني تغليب المالي على الإنتاجي (الربح على حساب الجودة)، والعرض على الطلب (منتجات متنوعة وعالمية لكنّها ليست بالضرورة خادمة للمستهلكين، وفي النهاية تغليب مصلحة المنتجين والشركات على مصلحة المستهلكين"، وكلّ هذا يحتاج بالطبع إلى سياساتٍ تسهل حركة الشركات والأموال، وفي النهاية زيادة قوة رأس المال في مواجهة العمل، وزيادة هيمنته الإنتاجية على المجتمع، مما يؤدي إلى تغييرٍ في العلاقات الاجتماعية بطبيعة الحال.

اقرأ أيضاً: تقرير صادم يكشف عدد الفقراء في تركيا في ظل حكم "العدالة والتنمية"
هذه الهيمنة يسميها عبد الهادي باختصار (الأموَلَة)؛ وهو مصطلح اجترحه المفكر الاقتصادي العربي الراحل، سمير أمين، يشرح من خلاله بصورةٍ مطولة، كيف يخلق رأس المال الأزمات، ويتصدر أيضاً الواجهة من أجل إدارتها، ليتمتّع بقدرته على إعادة إنتاج أزماته بصورةٍ دائمة ومستمرة، دون الاهتمام بإيجاد حلول خارج إطاره الاحتكاري ومصالحه التي لا تتوقف عند الديمقراطية وحقوق الطبقات الاجتماعية بشكل عام؛ ما يعني أنّه المستبد الأول في عصر السوق الذي نعيش فيه اليوم.
الديمقراطية معروضة للبيع
بسؤاله عن علاقة الدولة بالاستبداد الاقتصادي، وأيّ دورٍ ممكنٍ لها فيه، قال الباحث عبد الهادي: إنّ "الأموَلَة أضعفت الدور المالي والنقدي للدولة، وذلك بتسهيلها حركة رؤوس الأموال وإضعاف قبضة الدولة عليها، مما قلّص فاعلية ونطاقات عمل السياسات النقدية (القوة الشرائية وسعر الفائدة محلياً وسعر الصرف خارجياً)، والمالية (مصادر الإيرادات ونوعية النفقات)"، وهو ما يؤدي، في رأي الباحث، إلى استحالة امتلاك الدولة سياسة نقدية مستقلة وسعر صرف ثابتاً مع حرية حركة رأس المال.

باحث اقتصادي: حرية وقوة رأس المال في العالم زادت الاحتكار لصالح الاستبداد الاقتصادي وتنازلت عن حاجات العمال والمجتمع

هذه العلاقة تؤثر بصورةٍ مباشرةٍ في الديمقراطية السياسة والعدالة الاجتماعية في الدولة؛ فهي تجعل الفاعلية الاقتصادية وما ينتج عنها اجتماعياً في قطاعاتٍ مختلفة عامة وخدماتية، إضافة إلى قطاع العمل والعمال والرواتب وغيرها، أموراً تعود إلى سيطرة واستبداد رأس المال الذي يعمل على تطوير مكاسبه، مقابل تقليص قوة هذه القطاعات التي يكون مصيرها الغرق في متلازماتٍ عديدة، أقلّها عدم قدرة قوى العمل والمجتمع سياسياً واقتصادياً على تنظيم نفسها، أو كما يقول تشومسكي: "في النهاية تخضع القوى السياسية وحتى (الحكومة مثلاً) لقوة الاستبداد الاقتصادي، الذي يملك عقداً دائماً لهذه الملكية يتمثل في سيطرته المالية المستمرة"، حتى لو "تمكّنت قوى شعبية معينة أو يسارية الوصول إلى السلطة في لحظةٍ ما" بحسب ما يشير إليه عبد الهادي معلقاً على هذا الموضوع.

تطالب الشعوب بحقوقها السياسية والمدنية ويسلبها رأس المال المتوحّش الحقوق

تصبح الديمقراطية، إذاً، عرضة للبيع، بمعنى أنّه يعاد إنتاجها اقتصادياً، وفق مصالح المنتجِ، لتكون سلعةً يجبر المستهلك على ممارستها فعلياً، وبالتالي، تتحوّل إلى لا ديمقراطية.
ومن الغريب أن يكون هذا التناقض العميق عرضة للوجود بصورةٍ تكاد تكون شبه طبيعية وإجبارية، لكنّ تقريراً نشر عام 2013، على موقع "دويتشة فيليه"، يكشف جوانب من تكرار هذا التناقض حول العالم بكلّ بساطة.

اقرأ أيضاً: فيلم "أولاد الفقراء".. عندما بشّر يوسف وهبي بثورة البسطاء
ويبدأ التقرير بالحديث عن تكشف الاقتصاد والاستبداد بعد الربيع العربي، مشيراً إلى مصر وتونس كمثال؛ حيث إنّ "دولاً عانت من الاستبداد، كمصر وتونس، شهدت أيضاً استبداداً اقتصادياً لم تتمكن الثورة من هزيمته حتى الآن، والدليل أنّ معدلات النمو الاقتصادي والاستقرار في الاقتصاد المصري، مثلاً، كان يعني وجود طبقاتٍ اجتماعية تعاني من فوارق خطيرة في وضعها المادي، ولم يستفد هؤلاء المواطنون من اقتصاد بلادهم؛ بل عانوا، كما في دولٍ أخرى، منها الجزائر أيضاً، من ضعف قطاعات التعليم والرعاية الصحية والخدمات والفقر".

اقرأ أيضاً: الفقر في العالم العربي.. أرقام صادمة
أيضاً، يشير التقرير إلى أنّ الاستبداد الاقتصادي يحقق رفاهيةً اقتصادية في أماكن من العالم، بينما يُهمل السجل الخطير "في خرق حقوق الإنسان وإفقار المجتمعات" في أماكن أخرى.
وتواجه الإصلاحات السياسية الديمقراطية، والمطالبات التي علا صوتها خلال الربيع العربي عن العدالة والمساواة، استبداداً اقتصادياً أخطر وأهم وأكثر كونيةً أو عالمية، لا يمكن مواجهته ببساطة، إلا بفهم آلياته هذه، والعمل على بناء رؤى اقتصادية وطنية جديدة، في العديد من بلدان العالم، يبنَى عليها كلّ إصلاحٍ سياسي واجتماعي في المستقبل.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية