
يمكن القول إنّ مشروع إنشاء "جامعة اللّاهوت المسيحي والدراسات الدينية والفلسفية"، الذي أقره مجلس الشعب السوري مؤخراً، يُعدّ خطوة طموحة في تعزيز الدراسات اللّاهوتية والفلسفية في البلاد، ولكنّه يثير العديد من التساؤلات النقدية حول أهدافه وآلياته التنفيذية. الجامعة، التي ستملكها وتديرها بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، كما يرد في الخبر، تقدّم تخصصات متنوعة تشمل اللّاهوت المسيحي، وعلم الدين المقارن، والدراسات الفلسفية، وتاريخ الأديان، والتدريب على اللغات القديمة. ورغم أهمية هذه المبادرة، إلّا أنّ المشروع يبدو بحاجة إلى مراجعة عميقة لضمان تحقيق أهدافه الأكاديمية والاجتماعية بصورة متوازنة ومستدامة.
أحد الجوانب الإيجابية الرئيسية للمشروع هو تنّوع التخصصات التي يقدمها، والتي تمثّل فرصة لإثراء البحث الأكاديمي في مجالات حيوية. إدراج الدراسات العليا، سواء على مستوى الماجستير أو الدكتوراه، يشير إلى تطلع المشروع لتأهيل باحثين وأساتذة قادرين على الإسهام في المجالات اللّاهوتية والفلسفية بشكل متميز. كما أنّ إنشاء معهد لتدريس اللغات القديمة يُعدّ إضافة مهمة، حيث يتيح فهم النصوص الدينية والتاريخية في سياقاتها الأصلية، ممّا يعزز البحث العلمي الرصين.
تحديات يجب الاستجابة لها
رغم هذه المزايا، يبرز عدد من التحديات التي قد تؤثر على مصداقية المشروع وجدّيته واستقلاليته. من أهم هذه التحديات خضوع الجامعة بالكامل لإدارة وملكية البطريركية، ممّا يثير تساؤلات حول مدى استقلاليتها الأكاديمية. التركيز على إدارة الجامعة وكوادرها من قِبل الكَهنة أو شخصيات دينية قد يحوّلها إلى مؤسسة دينية بحتة، في حين أنّ الجامعات الأكاديمية يُفترض أن تكون مؤسسات قائمة على البحث العلمي والتعليم الحرّ، بغض النظر عن الانتماءات الدينية أو الإيديولوجية.
إنّ تحويل هذه الجامعة إلى منصة أكاديمية مستقلة يتطلّب فصلاً واضحاً بين الإدارة الدينية والإدارة الأكاديمية. وينبغي ألّا يكون تعيين الأساتذة أو العاملين فيها خاضعاً لاعتبارات دينية أو لسلطة الكهنة، بل يجب أن يتم بناءً على الكفاءة الأكاديمية والشهادات العلمية والخبرات البحثية. هذا الفصل ضروري لضمان أن تُقدّم الجامعة برامج تعليمية قائمة على الأسس الأكاديمية العالمية، وليس على الأولويات العقائدية الضيقة للبطريركية.
على مستوى المناهج الدراسية، فإنّ غياب التفاصيل عن طبيعتها ومدى توافقها مع المعايير الأكاديمية الدولية يُثير القلق. المناهج التي تُركّز فقط على البُعد الديني التقليدي المسيحي قد تُضعف من قدرة الجامعة على تقديم رؤية شاملة ومتعددة التخصصات. يجب أن تتضمن المناهج محتوى يعكس التنوع الفكري والديني، ويتيح للطلاب فهماً أعمق للسياقات التاريخية والفلسفية والدينية المختلفة، بعيداً عن أيّ انحياز إيديولوجي.
من الناحية الاجتماعية والثقافية، يهدف المشروع إلى تعزيز القيم المسيحية المشرقية، وخلق حوار فكري مع مكونات المجتمع الأخرى. ولكن يبدو أنّ الجامعة تركّز بشكل كبير على الهوية المسيحية، مع غياب إشارات واضحة إلى كيفية دمج الأديان والثقافات الأخرى في المناهج أو الأنشطة الأكاديمية. لتحقيق هذا الهدف، ينبغي للجامعة أن تسعى لتكون منصّة حقيقية للحوار الديني والفكري، تُشرك فيها مكونات المجتمع المختلفة عبر برامج مشتركة ومناهج شاملة.
تساؤلات مشروعة
إنّ إدخال جامعة دينية بالكامل ضمن نظام التعليم العالي يثير تساؤلات حول تأثيرها على الطّابع العلماني للتعليم. من المهم أن تُدار الجامعة كمؤسسة أكاديمية مستقلة، تلتزم بمعايير البحث والتعليم، بعيداً عن هيمنة أيّ سلطة دينية. هذا الاستقلال ضروري لضمان أن تظلّ الجامعة منصة للبحث الأكاديمي الحرّ والتفكير النقدي.
لضمان نجاح هذا المشروع، يجب اتخاذ خطوات حاسمة لتحسين بنيته الإدارية والأكاديمية. من بين هذه الخطوات، إنشاء مجلس إدارة يضم أكاديميين وخبراء مستقلين من خلفيات متنوعة لضمان حيادية القرارات. ويجب وضع معايير صارمة وشفافة لاختيار الكوادر التعليمية، بحيث يتم التعيين بناءً على المؤهلات العلمية والخبرات البحثية فقط. علاوة على ذلك، ينبغي تصميم المناهج بطريقة تعكس التعددية الفكرية والدينية، وتتوافق مع المعايير الأكاديمية الدولية.
في المحصلة، مشروع "جامعة اللّاهوت المسيحي والدراسات الدينية والفلسفية" يحمل في طياته إمكانات كبيرة لتعزيز التعليم اللّاهوتي والفلسفي في سوريا، لكنّه يواجه تحديات كبيرة تتعلّق بالاستقلالية الأكاديمية، والتعددية الفكرية، وعدم خضوعه لسلطة دينية بحتة. نجاح هذا المشروع يعتمد على تحويله إلى مؤسسة أكاديمية حقيقية، تُدار على أسس علمية ومهنية، بعيداً عن أيّ تدخلات كنسية أو دينية، لضمان تقديم تعليم عالي الجودة يُسهم في تعزيز الحوار الفكري والديني في المجتمع.